ليوناردو دافنشي: رحلات العقل
2-طاب يومك، سيد فرانسسكو
قبل وقت ما من عودته المؤقتة إلى فلورنسا في صيف عام 1507 قابل ليوناردو شاباً ارستقراطيًا من ميلانو يدعى فرانسسكو ميلزي. ربما قبل ميلزي تلميذا لديه- وكان أن أصبح بعد ذلك بارعاً في رسم الخرائط والتلوين- ولكن عمله الرئيسي في الطاقم أصبح كتابياً أكثر منه فنياً. لقد أصبح أمين سر ليوناردو أو ناسخه- وللمرء أن يقول أمينه الفكري حتى- وبعد وفاة ليوناردو أصبح منفذ وصيته: حارس الشعلة.
وقد وُجد خَطُّه المائل الأنيق متناثراً في جميع أوراق ليوناردو- في النصوص التي نقلها لليوناردو أو أملاها الأخير عليه، وفي الشروحات، "الديباجات وعلامات التجميع- ويجب أنّ نشكر ميلزي أكثر من أي شخص آخر على نجاة العديد من مخطوطات ليوناردو.
حظي جيوفاني فرانسسكو ميلزي بتربية ممتازة وتعليم جيد، ولكن أسرته لم تكن غنية. فوالده غيرولامو ميلزي، عمل كقائد في الجيش الميلاني تحت إمرة لويس الثاني عشر، وبعد ذلك بوقت طويل شارك كمهندس في إعادة بناء وتوسيع أسوار المدينة (كان هذا في مطلع ثلاثينيات القرن السادس عشر، بعد استعادة آل سفورزا للحكم)- - وكان رجلاً ريفياً ذا قدرات ومهارات: نوع من الرجال عرفه ليوناردو جيداً. كان مسكن العائلة في فابريو، فيلا قديمة رائعة تشرف على نهر آدا. وفي أحد الرسوم المحفوظة في المكتبة الأمبروازية، والمؤرخة في 14 أغسطس عام 1510، يكتب ليوناردو عن نفسه" فرانسسكو دي ميلزي في عامه السابع عشر"، وفي هذا الحالة يكون مولوداً في 1492 أو 1493، وفي الرابعة عشرة من العمر تقريباً عندما انضم لحاشية ليوناردو. كان هذا الرسم، وجهاً جانبياً جميلاً بالطبشور الأحمر لرجل مسنٍّ ذي لحية، وهو أقدم أعمال ميلزي المعروفة. وفي هذا الوقت ثبت أنّه كان عضواً تحت التمرين في مرسم ليوناردو. (يتعرف البعض إلى تأثير لبرامانتينو في أسلوبه في الرسم، وربما كان قد تتلمذ على يد ذلك الفنان القدير قبل أن يلتحق بليوناردو.) وقد تبينت مهاراته في التدقيق والشكليات في بعض من النسخ التي أنتجها لرسومات ليوناردو في ويندسور. لوحة وجه ليوناردو بالطبشور الأحمر الجميلة من الجانب هي بالتأكيد من عمل ميلزي: وهنالك نسختان أخريان منها في ويندسر والامبروزيانا، والأولى قد حظيت ببعض الإصلاحات بيد المعلم.
تقابل فازاري وميلزي بعد أن تقدم الأخير في السن، أثناء زيارته لميلانو عام 1566، وأضاف الفقرة التالية إلى نسخة 1568 من الحيوات:
الكثير من مخطوطات ليوناردو في التشريح موجودة في حيازة السيد فرانسسكو ميلزي، أحد سادة ميلانو، والذي في عهد ليوناردو كان فتىً وسيماً، وقد كان محبوباً من قبل ليوناردو. وبقدر ماهو رجل مسن ووسيم ومهذب الآن. لقد حافظ على هذه الكتابات وقام بصيانتها كما لو أنّها آثارٌ، وكذلك البورتريه الذي هو ذكرى سعيدة من ليوناردو.
عبارات فازاري- التي تقول إنّ ميلزي كان [طفلاً جميلاُ] "bellissimo fanciullo" [أحبه ليوناردو كثيراً] "molto amato da' Leonardo"- تعكس اللغة التي استخدمها في الحديث عن سالاي، وتحمل افتراض المحبة "السقراطية" ذاته. وهذا لا يعني بالضرورة علاقة الحب المثلي الجسدي، بيد أنَّ المرء قد يظن أنّ فازاري كان يعتقد أنّ هذه العبارات تعني أنَّ ليوناردو كان كذلك. في جميع الأحوال كان لميلزي حياة جنسية طبيعية بعد وفاة ليوناردو؛ إذ تزوج من انجيولا لانرياني المنحدرة من عائلة نبيلة، والتي يقال إنّها واحدة من أجمل النساء في ميلانو، وقد كان أباً لثمانية أطفال. لا نعلم، لكن بوسعنا التخمين- بأنّ سالاي قد اعتقد أنَّ هذا الشاب الدخيل، " هذا الفتى الرائع الحسن"، الذي تنمّ أخلاقه الدمثة وخطه المثقف عن تميز وامتياز. كان لميلزي رقيٌ لم يكن أبداً من صفات سالاي ( بيد أنّ مقولة سالاي كان من "العامة" وردت للتعريف بأحد الأمور التي أحبها ليوناردو فيه). سالاي أنيق، وغير مكترث، وكان منبسط الجسم، وماهراً في التعامل مع المال، مال الآخرين في العادة.
أما كيف كان يبدو ميلزي الـجميل "bellissimo" في الحقيقة فهذا أمر غير معروف- ليس هنالك أي سبب وجيه لأن نقول (مثل براملي وغيره) بأنّ اللوحة التي في الامبروزيانا لشاب مستدير الوجه يعتمر قبعة هي صورة له من رسم بولترافيو. إنّه من المحتمل أنّ ليوناردو رسمه، ولكن هنالك عدد من الرجال الشباب في دفاتره الأحدث، ليس هنالك دليل على أنّ واحداً منها قد يكون لميلزي- ليس من بينها ما أصبح موضوعاً متكرراً أو عاديّاً في الحقيقة مثل سالاي. ولقد احتج بيترو ماراني بأنّ رسم ميلزي للرجل الشاب ذي الببغاء، بيد أنّه على الأرجح عمل متأخر يعود إلى خمسينيات القرن السادس عشر، هو بورتريه لنفسه عندما كان شاباً، وكان فيها حسٌّ من الكآبة والحنين.
أولى الإشارات لفرانسسكو ميلزي في أوراق ليوناردو هي مسوَّدة لخطاب له، بخط يد ليوناردو، كتب في فلورنسا في أوائل عام 1508.
طاب يومك، سيد فرانسسكو
لماذا بالله عليك لم تجب على خطاب واحد من جميع الخطابات التي بعثت بها إليك؟ لا عليك سوى الانتظار حتى أصل إليك وأقسم بالله سأجعلك تكتب كثيراً
سوف تندم.
النبرة ودودة، وساخرة، ولكنها ربما لا تخلو من إشارة أصيلة للألم لأنّ ذلك الرجل الشاب، كما يبدو، لم يكلف نفسه عناء الإجابة عليه. هنالك أيضاً إشارة واضحة على دور ميلزي كسكرتير أو ناسخ كما ثبت بالفعل (سوف أجعلك تكتب كثيراً حتى تندم) إن لم يكن كذلك بشكل رسمي بعد.
لوحة فرانسسكو ميلزي: الرجل الشاب ذو الببغاء، يحتمل أنّه رسم نفسه
من وجهة النظر هذه؛ فإنَّ ميلزي أحد الأعضاء المهمين في حاشية ليوناردو. فهو بلا شك "سيكو" و "سيشينو" (تصغير فرانسسكو) في قائمة الأسماء المؤرخة 1509-1510، والتي ورد فيها اسمه بجانب اسم سالاي، ولورينزو وآخرين. سافر مع ليوناردو إلى روما في 1513، ثم إلى فرنسا، حيث أصبح دوره مهماً أكثر فأكثر للمعلم الذي يتقدم في السن، وحيث أصبح مميزاً في الشهادات باللغة الفرنسية مثل "Francisque de Melce, the Italian gentleman who is with the said Maistre Lyenard,"، ويتلقى راتباً مجزياً يبلغ 400إكو في السنة- بخلاف سالاي الذي هو بالكاد "servant to Maistre Lyenard" خادم للمعلم ليوناردو مقابل 100 إكو بالسنة. إنّه صاحب الحضور الجميل في منزل ليوناردو: كتوم، كفء، موهوب، مخلص- الناسخ المثالي (أو كما نقول الآن، المساعد الشخصي). إنّه رفيق مثقف في عزلة ليوناردو: أكثر تعلماً وأقل تعقيداً من الشقي سالاي.
--------------------------------------------
ليوناردو دافنشي: رحلات العقل
تأليف: تشارلز نيكول
ترجمة: أميمة حسن قاسم
محاولة استعادة شيء من ليوناردو الإنسان هي مهمة هذا الكتاب- ذلك هو، ليوناردو الإنسان الحقيقي، الذي عاش في وقت حقيقي، وأكل أطباقاً حقيقية من الحساء، مقابل ليوناردو الرجل الخارق، متعدد التخصصات.
بتكليف ورعاية من الشاعر الإماراتي محمد أحمد السويدي، وبدافع من حب المعرفة والسعي لنشرها قامت القرية الإلكترونية بتوفير هذه النسخة من كتاب ليوناردو دافنشي: رحلات العقل | تأليف: تشارلز نيكول | ترجمة: أميمة حسن قاسم
وسوف نقوم بنشرها على حلقات تباعاً هنا في جوجل بلس نأمل أن تحوز إعجابكم وأن تكون مساهمة في #نشر_المعرفة
صفحتنا الرسمية في فيس بوك :
منصتنا في جوجل بلس لمتابعة باقي مشروعاتنا
(جميع الحقوق محفوظة)
No comments:
Post a Comment