Wednesday, March 13, 2019

ليوناردو دافنشي: رحلات العقل - 10 - في قصر ميلزي





ليوناردو دافنشي: رحلات العقل

10 –في قصر ميلزي
كان رحيل ماركانتونيو ديلا تور في 1511 خسارة فكرية وربما شخصية، ولم تكن الوحيدة أيضاً. فقد توفي تشارلز الامبوازي في العاشر من شهر مارس من العام ذاته، ولم يتعد الأربعين من عمره بعد، ومضى معه شيء من احساس ليوناردو بالأمان. كان تشارلز راعياً شخصياً، وعلى الرغم من أنّ خلفيته في الحكم غاستون دي فوا قرّب إليه ليوناردو أيضاً إلا أنّه لم يكن راعياً بالمعنى الحرفي. فلم ينقطع راتب ليوناردو المدفوع من خزائن الملك: فقد تلقى في 1511 مبلغ 400 ليرة، مثل السنة السابقة، ولكنه لم يعد ينعم بالعطايا التي كان يجزلها عليه الامبوازي. 
وكان يقبض أيضاً رسوم القناة، "12 أوقية من الماء) منحة من الملك في 1507. أما ما تمخض عنه مرسمه من لوحات فهذا ما لا نعلمه: ربما بعض النسخ المتشابهة أو المختلفة من ليدا والقديسة حنّا: ربما بعض صور السيدة العذراء الوقورة لرجال البلاط الفرنسي. وما زال صرح تريفلزيو بارزاً في دفاتر الرسم الخاصة به، ولكن ليس هنالك من دليل على أي عقد أو مبالغ مدفوعة. وهنالك ساكن جديد في منزله في حقل العنب، ولكن سالاي من تولى أمر ذلك، وهو من لا يعرف ماله سبيلاً للخروج من يده. وهذه مبالغ صغيرة هنا وهناك: فقد انقضى عهد من الترف. 
امضى ليوناردو بعضاً من هذه السنة خارج الدينة، مرة أخرى بين الأنهار الجبال حيث تجد روحه الظامئة إلى الطبيعة ما يرويها. وما قاله باختصار على ما فيه من دقة افتقر للوضوح، وشابته نبرة عسكرية. إنّه وقت التوتر العسكري المتجدد. فقد تحالف البابا يوليوس الثاني المتعطش للقتال مع الفرنسيين في معركة إخضاع البندقية، وقد تحول عنهم الآن: إذ أصبح من الواجب طرد الأجنبي خارج أرض إيطاليا. وقام بتشكيل حلفه المقدس Lega Santa في روما: إتحاد مدعوم للولايات الإيطالية، حليف لاسبانيا وإمبراطورية هاسبورغ. وفي إنسبروك، في بلاط ماكسيمليان، كان جيلاً جديداً من عائلة سفورزا ينتظر في الأجنحة.
أثناء هذه الفترة كرس ليوناردو نفسه لسلسلة من الدراسات النهرية والموجودة الآن في مخطوطة باريس ج ومخطوطة اتلانتكس. فإن كانت دافعيته مستمدة – منذ أول عهدها- من المتطلبات العسكرية (رسم خرائط الإمدادات، التعزيزات، إلخ)، فسرعان ما تحولت إلى دراسة واسعة المدى لمجاري المياه في إقليم اللومباردي، وأحواض نهر الآدا والمارتيزانا على وجه الخصوص. لم يكن قد صنع شيئاً في روعة خرائط إقليم التوسكان التي رسمها بزاوية عين الطائر لصالح سيزاري بورجيا، ولكن جمع البيانات الاستراتيجية العسكرية مرة أخرى شكّل عامل تحفيز للإنجازات الأخرى. ويعتبر هذا أحد أنماط ليوناردو: التوسع الخطير لوجهة النظر من المعين إلى متجدد المناظر، الحركة الذهنية اشبه بالغليان.
ويُستشف من هذه الملاحظات والرسوم أنّ ليوناردو كان في المنطقة المعروفة بلا بريانزا، إلى جهة الشمال الشرقي من ميلانو في عام 1511 . ويكتب ملاحظاته حول أخشاب الأقليم الرائعة ( لم أغير اسمه الذي يتسم بدلالته على الخشب أو نبرة الصوت): " في سانتا ماريا (أو[Hoe]) في واد رانفانيان [Rovagnate] في جبال بريجانتيا [Brianza] هنالك صوارٍ من خشب الصنوبر طول بعضها 9 أذرع والبعض الآخر 14 ذراعاً، ويمكنك شراء مائة واحدة من ذات الأذرع التسعة مقابل 5 ليرات."  وتقع منطقة روفنياتي في الجزء الجنوبي من إقليم بريانزا، على الطريق الطريق المعروف بطريق الحديد Carraia del Ferro. وتعود رسومات الجبال ذات القمم المغطاة بالثلوج بالطبشور الأحمر، والأوراق المعدّة الحمراء، ببعض الإضاءة باللون الأبيض إلى هذه الفترة. وقد اعتمد في البعض منها على مناظر من طريق الحديد، فوق إحداها بعض الملاحظات النابضة بالحياة:
لون الحصباء هنا أكثر بياضاً من الماء إلا الزبد، وحصى الماء حيث يميل إلى الزرقة في الهواء وفي الظل يميل إلى الخضرة، وفي بعض الأحيان الزرقة الداكنة. العشب القصير الممتد في المروج المحصبة متعدد الألوان وفقاً لكثافة أو رقة التضاريس، فهو يبدو أحياناً بنياً، وفي أحيانٍ أخرى أصفر، وفي غيرها يميل إلى الخضرة أو الخضرة المصفرة.  
وتظهر هذه الألوان الجبلية الفاترة في رسوماته الطبيعية اللاحقة- العذراء والطفل مع القديسة حنّا في اللوفر والقديس يوحنا الباخوسي. ويرى في سفح مرتفعات مونفيزو الرخام "نقياً، وصلباً مثل الرخام السماقي".
بحلول نهاية عام 1511 كان الجنود السويسريون المنخرطين في خدمة الرابطة المقدسة يتوعدون بالزحف شمالاً إلى ميلانو. وفي 16 ديسمبر ضربوا ديسيو، على أقل من عشرة أميال من أسوار المدينة. وقد شوهد الحريق وسجله ليوناردو في رسم درامي مرة أخرى على ورقة معدة بحمرة الطوب. لقد كانت ملاحظته باهتة جداً، وقد كانت كذلك في القرن السادس عشر عندما شعر ميلزي بضرورة نسخها: " في اليوم السادس عشر من ديسمبر، الساعة الخامسة عشرة [10:30 صباحاً] أضرمت النيران. وفي الثامن عشر من ديسمبر عام 1511 في الساعة الخامسة عشر كان الحريق الثاني هذا الذي أشعله السويسريون على مقربة من ميلانو في المكان المسمى ديسي [ديسيو] ".
وفي بدايات ربيع عام 1912 حدثت المواجهة الحاسمة بين الفرنسيين والرابطة المقدسة في رافينا. وفي المعركة التي قامت في عيد الفصح، 11 أبريل، حيث قتل غاستون دي فوا حاكم ميلانو. ادعى الفرنسيون الفرنسيون الانتصار، ولكن باتت هيمنتهم على اللومباردي في كف عفريت، وبحلول نهاية العام عادت ميلانو إلى حضن آل سفورزا مرة أخرى. كانت استعادتها الظافرة في 29 ديسمبر من عام 1512 على رأس ماسيميليانو سفورزا، الابن الشرعي للودوفيكو، وأخيه غير الشقيق سيزاري، ابن سيسيليا غاليراني. وكان الأسمر قد توفي قبل أربعة سنوات في سجنه في مدينة لوشي، ولكن صفاته القوية الكثيرة واضحة في سبطيه الشابين هذين.
لم يكن من السهل رؤية ليوناردو في خضم هذه الثورات: لقد هرب، كما هو الحال دائما. لم تنج ولا ملاحظة واحدة أو سجل من عام 1512. فمفكرة ليوناردو خالية تماماً منذ الحريق الثاني لديسيو في 18 ديسمبر وحتى دراسة قلب الثور المقطعية المؤرخة في 9 يناير من عام 1513. لأنّه كان – في معظم هذه الفترة- مختبئاً في قصر ميلزي، منزل ريفي يملكه غيرولامو ميلزي والد فرانسسكو: قصر مربع جميل (على الرغم من أنّه لا يشتمل ألا على المرافق الأساسية)، وهو يجثم على ظهر ربوة يحيط ببعض جوانبها نهر آدا بالقرب من قرية فابريو دادا، أو كما يكتبها ليوناردو "Vavrio" – وهي أنسب عند استخدام اللغة العامّية. يجد الضيف الرسام هنا ملاذاً آمناً من الاضرابات والمنافسات والتكليفات المزعجة التي تقضّ مضجعه في المدينة. 
يبعد القصر حوالي 20 ميلاً من مدينة ميلانو، وعليه فليس من داعٍ لافتراض أنّه كان في عزلة تامة، ولكن ليس من سجلات تشير إلى وجوده في المدينة قبل شهر مارس من عام 1513، ويبدو أنّ هذه الفترة كانت بالفعل استجمام في الريف.
ويشرع مع فرانسسكو أو شيكو ميلزي، والذي كان في العشرين من عمره تقريباً، في برنامج كتابة ورسم. فهنالك سلسلة من الأوراق التشريحية، بعضها عبارة عن تجسيد لملاحظات ورسومات نُفذت بسرعة أثناء المحاضرات و عمليات التشريح في بافيا، و بعضها كان ثمرة عمليات لتشريح حيوانات تمت في القصر. بنية وعمل القلب موضوع ثابت. وهنالك دراسات مائية على نهر آدا. وتقول إحدى الملاحظات: "تدفق وارتداد الماء كما يحدث في طاحونة فابريو."  وما زال بالإمكان التعرف على رسم جميل لقارب صغير، بها امتداد معين للنهر بين فابريو وكانونيكا، بيد أنّ المركب نفسه قد تم استبداله بقنطرة. وقد عولجت تيارات المياه العنيفة بكثير من الاهتمام، ولكن قوة الرسم تكمن في التفاصيل التي اشتمل عليها: منصة الهبوط، قناطر الحجارة الصغيرة، والثيران الواقفة على متن العبّارة التي تشبه الطوف، وواحد منها له خوار على الشاطيء.  

زورق على نهر ادا، 1512
بينما كان ليوناردو في قصر ميلزي اقترح ليوناردو العديد من التحسينات على المنزل. وقد أظهرت خارطة أرضية كروكية أجزاء من داخل وخارج القصر، وملاحظات تشير إلى "ممر الحديقة"، وهنالك رسومات أولية للحديقة المسورة التي تشرف على النهر. وهنالك ورقة يلهو فيها بتصميم لقباب على الأبراج التي في الزوايا وجدار ذي ركائز مقنطرة في مقدمة النهر.  الرسومات التشريحية المؤرخة في 9 يناير 1513 كانت معها-أيضاً- خارطة كروكية للقصر، وملاحظة تقول "chamera della torre da vaveri" (إحدى الغرف في البرج في 9 يناير.ربما كانت هذه الغرفة هي مرسمه. على الجانب الأيسر من الصفحة نجد رسماً تمهيدياً لقلعة على منحنى النهر، وحولها عدة مواقع لإطلاق النار. وتبين أنّ هذا الرسم الصغير هو قطعة أخرى من تقرير، مثل حرائق ديسيو. تظهر فيه قلعة تريزو على بعد أميال قليلة من فابريو، والتي تعرضت لنيران البندقية في يوم 5 يناير من عام 1513، قبل أربعة أيام فقط من التأريخ المكتوب في أعلى الصفحة.  وهكذا تحف الحرب بملاذ ليوناردو الريفي، وهاهو يدون ذلك في صيغة اختزال بصري رائعة في زاوية الصفحة.


------------------------------------------------
 ليوناردو دافنشي: رحلات العقل
تأليف: تشارلز نيكول
ترجمة: أميمة حسن قاسم
محاولة استعادة شيء من ليوناردو الإنسان هي مهمة هذا الكتاب- ذلك هو، ليوناردو الإنسان الحقيقي، الذي عاش في وقت حقيقي، وأكل أطباقاً حقيقية من الحساء، مقابل ليوناردو الرجل الخارق، متعدد التخصصات.
بتكليف ورعاية من الشاعر الإماراتي محمد أحمد السويدي، وبدافع من حب المعرفة والسعي لنشرها  قامت القرية الإلكترونية بتوفير هذه النسخة من كتاب ليوناردو دافنشي: رحلات العقل | تأليف: تشارلز نيكول | ترجمة: أميمة حسن قاسم
وسوف نقوم بنشرها على حلقات تباعاً هنا في جوجل بلس نأمل أن تحوز إعجابكم وأن تكون مساهمة في #نشر_المعرفة
صفحتنا الرسمية في فيس بوك :
منصتنا في جوجل بلس لمتابعة باقي مشروعاتنا 
(جميع الحقوق محفوظة)

No comments:

Post a Comment