ليوناردو دافنشي: رحلات العقل
2-في البلفيدير
في الأول من ديسمبر عام 1513 كتب جوليانو لينو أحد معماريّ البابا؛ قائمةً بعدد من مشاريع البناء لتنفيذها في مناطق الفاتيكان، ومن بينها "أعمال تجرى في حجرات المعلم ليوناردو دا فينشي بالبيلفيدير". بُني قصر البيلفيدير قبل ثلاثين عاماً على يد البابا إنوسنت الثامن، وقد كان في الأساس قصراً صيفياً للبابا، يمتاز بالبرودة والارتفاع وتحيط به الحدائق الغنّاء. ونستشف من قائمة "الأشياء المزمع إقامتها" أنَّ ليوناردو لم يكن مقيماً هناك – بعد- في الأول من ديسمبر. ولم يكن العمل المطلوب كبيراً، وربما نتخيله قد بنى ما سيصبح- بشكل أساسي- آخر بيوته الإيطالية. تعطينا القائمة لمحة عن مخطط حجرات منزل ليوناردو في روما. وقد كان من ضمن المستلزمات ما يلي:-
• فواصل من خشب الصنوبر، تُخصص واحدة منها للمطبخ.
• إطار سقفٍ لإقامة شرفة.
• توسعة إحدى النوافذ.
• بلاط للرصف.
• أربع طاولات للسفرة- على حوامل- من خشب الحور.
• ثمانية مقاعد وثلاث كنبات.
• صندوق.
• طاولة تُطحن عليها الألوان.
ويشير ترتيب السفرة إلى العدد الكبير للقاطنين في المنزل، وفي الحقيقة سنجد أنّ شاغلي هذه المقاعد ليسوا سوى بعض المساعدين الجدد والمثيرين للريبة.
قام ليوناردو ببضع زيارات قصيرة إلى روما، ولكنه لم يُقمْ هناك من قبل. كانت الكثافة السكانية للمدينة تبلغ حوالي 50 ألفاً، أي أقل كثيراً من مدينة ميلانو. وهي مشهورة بتحفها وأشيائها الحديثة: ولقد كان صديق ليوناردو القديم برامانتي من أكبر معماريّ المدينة، والذي دمرت مشاريعه أحياء كاملة- الشيء الذي بسببه لُقِّب "المعلم المدمِّر". ولقد كان أيضاً متهماً بالتسبب في الفساد وانتشار الرشى في البلاط البابوي- "مصرف الجور" كما كان يدعوه لورينزو دي ميديتشي في خطابه الشهير إلى ابنه البابا المستقبلي. لقد كان بلاط ليو العاشر خالياً من التصرفات المتطرفة الكاليغولية التي وصمت بها بابوية بورجيا، ولكن ظل الفسوق يغلب على الحياة الفاتيكانية. كانت هنالك حوالي 7000 مومس في المدينة، الكثير منهن في مواخير مرخصة من السلطات البابوية، وقد انتشر مرض الزهريّ بشكل وبائي، ولم يكن من البجاحة وصف بينيفينتو سيليني له بأنّه " نوع من الأمراض شائع جداً بين القسس". وثمة شيء من جوّ الفساد هذا تسرّب إلى رسم غريب عُرف بتجسّد الملاك، سنعرف المزيد عنه لاحقاً.
ولكن وسط كل هذا كان البيلفيدير عالماً صغيراً منفصلاً، وكان لليوناردو هناك طقسٌ من العزلة. كان القصر حديث البناء، لكن الحدائق التي بُني وسطها كانت واسعة، قديمة وأشبه بالبرية. لقد رسم البرتي الخرائط لحديقة جديدة مصنّفة، وبها أروقة ذات عمد ومدرجات منحوتة معلّقة، ومغارات فيها نوافير، و"تماثيل مضحكة" ("مضحكة" لغرابتها أو شذوذها عن المألوف، مثل ما يليق بالمغارات: ومن ثم فهي "غرائب"). ولكن مخططات البرتي لم تُنفذ، وظلت الحدائق رقعة تعجّ بالغابات، وحقول التفاح، وبرك الأسماك، والنوافير والتماثيل، والعرائش المخبأة تنحدر ناحية الوادي إلى عتبات قصر البلفيدير. وربما هنا أكثر من المدينة أو البلاط، نلمح الشخص الهزيل الملتحي الذي يتواصل مع "الطبيعة، عشيقة كل معلم"- أو إن لم يكن معها فعلى الأقل مع أحد البستانيين كما يبدو في إحدى حكايات فازاري:
عندما وجد بستانيّ البلفدير عظاءة غريبة المظهر جداً، ثبت ليوناردو أجنحة إلى ظهرها بخليط زئبقي، وقد صُنعت الأجنحة من قشور أخذت من عظاءات أخر، فأصبحت تهتز عند مشيها. لقد أعطى المخلوق عينين، وقرنين، ولحية، ثم قام بترويضه، واحتفظ به في صندوق ليريه أصدقاءه ويجعل الدم يتجمد في عروقهم خوفاً ورعباً.
وبغضِّ النظر عن مدى أصالة القصة فإنّها تنقل لنا صورة لما لحق بليوناردو من غرابة وشعوذة فترة إقامته في مدينة روما. وقد ورد لدى ميغول دا سيلفا ذكر مخلوق مشابه في عام 1520، بأنّه كان في حيازة زوراسترو- "ثعبان بحر بأربع أرجل، الشيء الذي نعتبره معجزة، ويعتقد زورواسترو أنّ ثمة عنقاء قد جلبته جواً من ليبيا."
وهنالك ملاحظة من البلفيدير في أمسية صيفية في عام 1514 تقول:" اكتمل في السابع من يوليو في الساعة 23 في البلفيدير، في مرسم أُعدّ لأجلي من قبل الرائع[لورينزو]،" أما ما أنهاه فهو ليس سوى بعض المعادلات الهندسية، شغفه الدائم. وعلى ورقة أخرى يكتب ليوناردو، " لقد بدأت الآن كتابًا حول الألعاب الهندسية [De ludo geometrico]، أبين فيه طرقًا أخرى لما لا نهاية." متواليات طويلة وسواسية المظهر من "الأهلّة" الهندسية- أشكال متغيرة تصاغ بواسطة قوسين من المساحة المحصورة داخل دائرة ويبدو أنّها تدخل ضمن ألعاب اللانهاية هذه.
ولا نعرف شيئاً عن هذه الحياة الاجتماعية- إن كانت هنالك واحدة. كان في مدينة روما آنذاك عدد من الرجال الذين عرفهم- برامانتي ومايكل آندلو، ورافائيل الذي وصلته تعويذته في فلورنسا عام 1505 بليوناردو، وكاتب البلاد كاستيليون، وحتى تلميذه القديم اتلانتي ميجليوروتي، والذي عيّن الآن مشرفاً أكبر على الأشغال بكنيسة القديس بطرس. ولكن لم يكلف نفسه عناء ذكر أسمائهم في مفكراته، التي يجد فيها المرء رقصة الأهلّة المسمارية، والتجارب الصوتية، ومذكرات حول الرحلة إلى جبل ماريو بحثاً عن الأحفوريات، والحسابات المجتزأة المعبّر عنها بالعملة الرومانية الغيولي: " سالاي 20 غيولي، للمنزل: 12 غيولي"، و "لورينزو مدين ب 4 غيولي من أجل التبن الذي تم شراؤه بمناسبة الكريسماس."
في أواخر صيف عام 1514 اصطحب ليوناردو غوليانو في رحلة قصيرة إلى الشمال. ووثق لوجوده في بارما "الا كامبانا" ( أي في نُزُلٍ يدعى الجرس) في 25 سبتمبر، و"على ضفاف نهر البو بالقرب من سان انجلو" عقب ذلك بيومين.
وبينما يمضي العام إلى نهايته تأتي فقرة لطيفة عن التصالح العائلي. لقد كان هناك فرد آخر من آل دا فينشي في مدينة روما عام 1514، إنّه الأخ غير الشقيق لليوناردو جوليانو، الابن الثاني لسير بيرو، وهو من اعتبره ليوناردو قائد فريق الأخوة إبان المعارك القضائية في عامي 1507-1508. جوليانو الآن في منتصف الثلاثينيات من عمره- زوج، وأب وبالطبع كاتب عدل- ولقد كان وجوده في مدينة روما على ما يبدو سعياً وراء بعض الفوائد التي كان يعتقد بأحقيته بها، ولم يكن تزلفه إلى ليوناردو يخلو من بعض الدوافع الخفية دون شك: لقد كانت العلاقات هي كل شيء في هذا العالم، وكان ليوناردو يتمتع بها. ويروي خطاب من ليوناردو إلى المشرف البابوي نيكولو ميكلوزي جهوده الضائعة من أجل مصلحة عن جوليانو:
عزيزي السيد نيكولو الذي أتشرف باعتباره أخاً أكبر بالنسبة لي. لقد ذهبت بعد فترة قصيرة من الإجازة التي منحتموها لي سيادتكم للنظر في السجلات حتى أتأكد من إدراج اسم أخي. لم يكن الدفتر موجوداً، وقد أُرسلت في كل الاتجاهات حتى وجدته. وأخيراً قصدت سيادة الموثّق وقلت له إنني آمل أن يطلب سيادته إدخال الاسم في السجلات غداً. وقد أجابني بأنّ هذا الأمر جدّ صعب، وأنّ الالتماس يحتاج إلى كثير من الأشياء قبل أن يلبى، نظراً لضآلة مبلغ الفائدة، وأنّها إن كانت شيئاً أكبر قيمة لتم تسجيلها دون تكبد هذه المشقة.
وهكذا يوثق ليوناردو بكل صراحة لواقع البيروقراطية البابوية: فإن كانت الفائدة أكبر قليلاً لتمت تسوية المسألة، على افتراض إضافة نسبة لتسهيل المعاملة. كان مسينيور بالداساري توريني هو الموثِّق البابويّ (الموظف المسؤول عن تسجيل وتأريخ المضاربات البابوية) الذي لم يفد ليوناردو بإجاباته على استفساراته، وهو مواطن توسكاني، من مدينة بشيا. ويبدو أنّه كان يقدر مهارات ليوناردو، وإن لم يك يفعل الشيء ذاته إزاء فوائد أخيه، لأنّه وبحسب فازاري قد كلفه برسم لوحتين صغيرتين من لحسابه.
ولم يتم تدوين أي شيء عن النتيجة النهائية لالتماس جوليانو دا فينشي، بيد أننا نملك وثيقة أكثر إنسانية في صيغة خطاب منه إلى أليساندرا زوجته في فلورنسا.
كان الخطاب مؤرخاً في 14 ديسمبر 1514، وهو في الغالب حول مشاكلها مع صائغ يدعى باستيانو- " هنالك سلسلة أعارك أياها ويكاد يجنّ بسببها..لا أعرف السلسلة التي يتحدث عنها، ولكني أعتقد أنّها تلك السلسلة التي أرتديها حول عنقي"- ولكنها تضيف نصاً طويلاً وأكثر عاطفية، وقد اشتمل على تحية لليوناردو:
سير جوليانو: اليساندرا زوجتك مريضة جداً، وهي تكاد تموت من الألم. لقد نسيت أنْ أطلب منك أن تذكرني لدى أخيك ليوناردو، أكثر الرجال العازبين تميزاً. ويعرف الجميع أنّ اليساندرا قد خسرت مواهبها واصبحت امرأة مغمورة. وفوق كل ذلك أوصي وأنصح وبشدة وأزكي نفسي لك، ولا تنس أن فلورنسا جميلة مثلها مثل روما، خاصة وأنّ بها زوجتك وابنتك.
كان هذا خطاباً لطيفاً، وله قصته عن السلسلة الذهبية، والوحدة، وتحاياه إلى "eccellentissimo e singularissimo" صهرها ليوناردو. وحقيقة أنّه ظلّ ضمن أوراق ليوناردو تدلّ بلا شك على أنّ جوليانو قد سلمه إياه، في اجتماع لهما في مدينة روما شتاء 1514-1515.
لقد استخدم ليوناردو المساحة الخالية في ذيل الخطاب لكتابة بعض الملاحظات حول الهندسة، وكتب على ظهره، " كتابي بين يدي السيد باتيستا ديل اكويلا، مضيف البابا الخاص. " وأسفل هذا كلمات "De Voice"- "حول الصوت" – والتي ربما كانت عنوانًا لكتاب هو الآن ضمن مؤلفات ديل اكويلا. ترددت العبارة في مفكرة ليوناردو الرومانية، " De voice- لم يصدر صوت حاد عند مرور هواء بسرعة من خلال الأنابيب." هنالك مواد حول السمعيات الصوتية منثورة خلال الملاحظات التشريحية الأخيرة. هل هذه أطروحة أم "كتاب" بين يدي ديل اكويلا لأنّ مضيف البابا يريد الاستمتاع بقراءته، أم هل نكشف عن مذكرة للتحقيق الرسمي، ربما لها صلة بالجدل حول دراسات ليوناردو التشريحية في عام 1515؟
يكتب ليوناردو في يوم 9 يناير 1515: " غادر جوليانو الرائع مدينة روما فجراً ليذهب ويقترن بزوجة في سافوي، وفي اليوم ذاته حدثت وفاة ملك فرنسا." في الحقيقة توفي لويس الثاني عشر قبل ذلك بعشرة أيام، وعليه فربما يشير هذا إلى اليوم الذي بلغ فيه ليوناردو خبر الوفاة. كانت عروس جوليانو دي ميديتشي هي فيليبيرتا سافوي، عمة الملك الجديد فرانسوا الأول: ولقد تقرر الزواج بمقتضى تحالف سياسي.
ويبدو أنّ جوليانو قد أخذ معه بعض التصميمات الليوناردية في رحلته إلى فرنسا، لأنّه وفي ليون في يوم 12 يوليو 1515 قدِم "أسد ميكانيكي" من تصميم ليوناردو باعتباره الفقرة الأساسية في حفل تتويج فرانسوا. استخدمت هذه الآلية المباديء ذاتها التي استخدمت في روبوتات تسعينيات القرن الخامس عشر (والتي ظهر أنّها تجسد أفكاراً اختبرت بالفعل في أواخر سبعينيات القرن ذاته). وهنالك رواية عنه لجي. بي. لوماتسو: " في أحد الأيام، وأمام فرانسوا الأول ملك فرنسا، قام [ليوناردو] بتشغيل أسد، مصنوع بإتقان مذهل، لقد تحرك من مكانه في القاعة وعندما وقف فتح صدره، وكان مليئاً بزهور الياسمين وغيرها من الأزاهر." كان الأسد رمزاً قديماً لفلورنسا، وكانت الياسمين Fleurs-de-lis رمزاً لفرنسا. عليه فإنَّ آلية ليوناردو جسّدت في قاعة الحفلات بليون، العلاقات السياسية الطيبة بين آل ميديتشي والملك الفرنسي الجديد. لم يكن ليوناردو نفسه هناك، على الرغم من أنّ شهادة لوماتسو تشير إلى ذلك ولو ضمناً.
------------------------------------------------
ليوناردو دافنشي: رحلات العقل
تأليف: تشارلز نيكول
ترجمة: أميمة حسن قاسم
محاولة استعادة شيء من ليوناردو الإنسان هي مهمة هذا الكتاب- ذلك هو، ليوناردو الإنسان الحقيقي، الذي عاش في وقت حقيقي، وأكل أطباقاً حقيقية من الحساء، مقابل ليوناردو الرجل الخارق، متعدد التخصصات.
بتكليف ورعاية من الشاعر الإماراتي محمد أحمد السويدي، وبدافع من حب المعرفة والسعي لنشرها قامت القرية الإلكترونية بتوفير هذه النسخة من كتاب ليوناردو دافنشي: رحلات العقل | تأليف: تشارلز نيكول | ترجمة: أميمة حسن قاسم
وسوف نقوم بنشرها على حلقات تباعاً هنا في جوجل بلس نأمل أن تحوز إعجابكم وأن تكون مساهمة في #نشر_المعرفة
صفحتنا الرسمية في فيس بوك :
منصتنا في جوجل بلس لمتابعة باقي مشروعاتنا
(جميع الحقوق محفوظة)
No comments:
Post a Comment