ليوناردو دافنشي: رحلات العقل
8-من كريمونا
هنالك قائمة قصيرة تكاد تخطئها العين، بها ستة أسماء في الركن الأيمن من ذيل ورقة كبيرة عليها تصميمات هندسية ودراسات تشريحية موجودة في ويندسر . وترد في القائمة المكتوبة بأصغر أساليب ليوناردو وأرقّها خطاً في طولٍ (مثل أرجل العنكبوت) الأسماء التالية:
لورين loren
لورين loren
سالاي salai
سيكو cecho
الكريموني(ة) chermonese
فاشينو fachino
وهنالك بند أسفل القائمة: "9 tessci" "تسع جماجم"- ولكنه مفصول عنها بمساحة خالية ولا يبدو أنّه جزءٌ من القائمة. وعلى أساس هذه المحتويات الهندسية والمراجع يجوز أن تعاد الورقة تأريخياً إلى حوالي عام 1509.
ويمكن التعرف إلى أربعة من الاسماء الستة بسهولة. فنحن نعرف سالاي. سيشو أو سيكو (اسم تحبب شائع لفرانسسكو) هو ميلزي. وأحد الاسمين لورين هو لورينزو الذي انضم لمرسم ليوناردو في فلورنسا في عام 1505 وبعث بخطاب إلى والدته في 1507. والاسم الأخير على القائمة ليس اسماً في الحقيقة، فالكلمة بكل بساطة تعني في الإيطالية "حمّال" (facchino)، مما يشير إلى أنّ هنالك رحلة وشيكة، وأنَّ هؤلاء الأشخاص الستة سيرافقون ليوناردو، ويقومون على خدمته فيها. ومن الجائز أن تكون هذه هي رحلة ليوناردو إلى بافيا في أواخر عام 1509 أو بدايات عام 1510، لحضور دروس التشريح التي يقيمها ماركانتونيو ديلا توري: زيارة مطوّلة، في رفقة رجال حاشيته المسافرين.
ويكتنف الغموض الاسمين الآخرين؛ فليس لدي أدنى فكرة عمن يكون لورين أو لورينزو، ولكن الشخص الذي يثير اهتمامي هو "كيرمونيزي" إذ لابد أنّه الكريموني ولكن بطريقة ليوناردو في الإملاء، ويقصد به أحد سكان مدينة كريمونا التي تقع في شمال إيطاليا، والتي اشتهرت فعلا بكونها مركزاً لصنع الآلات الموسيقية. ولقد عثرنا على التهجئة ذاتها في ملاحظة كتبت في عام 1499 في ميلانو، والتي يذكّر فيها نفسه بأن "يأخذ أعمال ليوناردو الكريموني"، يشير فيها إلى عالم الرياضيات الكريموني ليوناردو دي انطونيو ميناردي .
وتدل هذه القائمة المخربشة على وجود شخص من كريمونا ضمن حاشية ليوناردو عام 1509. ينتمي هذا الشخص إلى قائمة من ستة اسماء، ولكنه ربما يختلف عن الخمسة الآخرين في شيء واحد- أنّه كان امرأة. ولدينا هنا، على ما أعتقد، هيئة امرأة غامضة اسمها كريمونا، والتي جمعها بليوناردو شأن غير معروف.
كان ظهور الكريمونا في قصة ليوناردو متأخراً جداً. ولم يُعرف من خبرها شيءٌ قبل حلول عام 1982، عندما ظهرت نسخة جميلة جديدة من كتابات الفنان والناقد اللومباردي من مطلع القرن التاسع عشر جيوسبي بوسي، والتي حررها روبيرتو باولو كياردي. كان بوسي معجباً استثنائياً بليوناردو الذي قلد لوحة العشاء الأخير بالحجم الكامل، كما قام ببعض الرسومات التفصيلية التي أصبحت فيما بعد دليلاً على عمليات الترميم اللاحقة. وكان لديه عوازله- منهم ستيندال، الذي لفحه بقوله عنه: " نجم ضخم الجثة، من النوع الذي يعتبره الناس هنا رجلاً عظيماً"- ولكنّ هذا لم يجرده من الاحترام الكبير الذي يجده كواحد من أتباع ليوناردو بفضل الدراسة التي قام بها على لوحة العشاء الأخير (1810)، ولطبعته الأولى من مخطوطة ليشستر، التي لم تقم على العمل الأصلي، الذي كان آنذاك مخبئاً في نورفولك، بل نفذها من خلال تتبعه لنسخة كاملة منها كانت في نابولي. نسخته الخاصة موجودة الآن في المكتبة الدوقية الكبرى في ويمار، وكان شراؤها بتوصية من جوته، بعد وفاة بوسي المبكرة في 1815. وطبعة تشاردي الجديدة من كتابات بوسي تتضمن المخطوطة التي لم تكن معروفة ضمن ما كان مسودة لمقال لم يقدر له النشر، حول تجسيد العواطف في الفن. وفيه يشير بوسي كثيراً إلى ليوناردو مستشهداً بتصويره المتقن للعواطف في لوحة العشاء الأخير، ومن ثم يخلص إلى فكرة ضرورة اختبار المشاعر بنفسك حتى تتمكن من التعبير عنها في اللوحات. ويقول:
أحبّ ليوناردو ملذات الحياة وتدل على ذلك ملاحظته الخاصة عن محظية تُدعى كريمونا، وهي ملاحظة وردتني من مصدر موثوق. ولم يكن بوسعه فهم الطبيعة الإنسانية إلى ذلك الحد من العمق، حتى يقوم بتجسيدها بدون أن يلامس الضعف الإنساني بطريقة ما، ومن خلال المران الطويل.
هذه هي، قصيرة جداً. ولسوء الحظ لم يسم بوسي "المصدر الموثوق" الذي قدم إليه "الملاحظة". وليس بوسعنا معرفة مدى دقة هذه المعلومة، بيد أنّه ليس هنالك ريبة في معرفته الواسعة بليوناردو، وبما أنّ المخطوطة مفقودة فلا نستطيع التأكد من صحة حصوله عليها. ربما كان مصدره هو كارلو اموريتي، خبير المكتبات الامبروازي، والذي صنع نسخاً من أوراق ليوناردو الضائعة. أو ربما عُرض على بوسي شيئاً ما في نابولي، حيث وجد تلك النسخة من مخطوطة ليشستر، وحيث قام أيضاً بالنقل من إحدى إصدارات الكشاف الأمبروازية، وهي مجموعة من القرن السابع عشر تحتوي على خلاصات من مواد موجودة في المكتبة.
كلمة "محظية": صفة لها عدد من المعاني هنا، ولكن بوسي يعني بها هنا "بائعة هوى". وقد صُنفت المحظيات في التعداد الروماني للأعوام 1511-1518 تنازليا في سلم القيمة الاجتماعية كمحظيات شرف، ثم محظيات عاهرات، ومحظيات الشموع والمصابيح، ثم محظيات الطبقة الدنيا. وأعلاهن مقاماً محظيات "الشرف" وهن من النساء الجميلات الناجحات، اللواتي كن عشيقات للنافذين والأثرياء. أما "العاهرات" فكنّ يتسكعن في شوارع المدينة ويقطن في مواخيرها، أما محظيات الشموع والضوء فيسكنّ في العادة في منازل صانعي الشموع وبائعي المصابيح، بجوار الحوانيت التي تزداد الحركة فيها ليلاً، وتحتها جميعاً كانت الفتيات العاملات من الطبقة الدنيا بثيابهن الرثة.. ويشتمل هذا الإحصاء على اثنتين من البغايا تحملان اسم ماريا الكريمونية، بينما كان ليوناردو نفسه في روما في وقت ما خلال فترة الإحصاء، ومن الجائز جداً أن تكون إحداهما هي كريمونا نفسها. (ولابدّ أنّ التعداد قد شمل ليوناردو هو الآخر في سجلاته دون شك لكنها غير مكتملة: ما يقارب نصف الوثيقة مفقود.)
ومن البديهي أنَّ الفنانين في بعض الأحيان يستخدمون البغايا كنماذج للرسم. لقد ظهرت المومس الرومانية فيليدي ميلاندروني بشكل متكرر في لوحات كارافاجيو. هل كانت الكريمونا مثالاً في لوحة؟ ينظر المرء مجدداً إلى تلك الدراسات الأخيرة لرأس ليدا في ويندسر. إنها مختلفة جداً عن رسومات ليدا الأولى التي تعود لعام 1504- مختلفة في الأسلوب، ولكنها أيضاً مختلفة لأنّها ذات وجه ذي ملامح معينة، والتي أصبحت الآن ثابتة كوجه لليدا، وهي تشبه إلى حد بعيد وجه ليدا في جميع اللوحات الناجية. كان شعر المرأة في اللوحة مصففًا بإتقان على هيئة جدائل وهو كذلك في اللوحات، وهو أسلوب في التصفيف تُعرف به المومسات- انظر على سبيل المثال النقوش الايروسية المصاحبة لنصوص الأوضاع الستة عشر (XVI Modi) لمؤلفه اريتينو. ويرجح أنَّ رسومات ليدا تعود للعام 1508-1509، وهي الفترة التي ظهرت فيها هذه الكريمونية الغامضة في حاشية ليوناردو. إنَّ عري ليدا الأمامي الشهواني الكامل ربما كان في ذهن بوسي عندما تحدث عن استمتاع ليوناردو "بملذات" النساء حتى يتعرف على المشاعر التي يقوم بتصويرها.
تأملات في الكريمونا؟ دراسة لرأس ليدا(اليسار)، و"الجيوكندا العارية"
في متحف الارميتاج
وربما علمنا أيضاً عنوان المكان الذي وجدها فيه ليوناردو، لأنّه في الزاوية اليمنى أسفل إحدى ورقات التشريح الكبيرة في ويندسر نجد العبارة المبهمة التالية: " femine di messer iacomo alfeo elleda ne fabri."". والتفسير المنطقي الوحيد لكلمة "elleda" غير الموجودة في القاموس هو أنّها مركبة من كلمتين "e Leda"- ومن ثم وبتوسيع العبارة المختصة إلى جملة مفيدة نحصل على: " ليدا بين نساء السيد جياكومو الفيو في منطقة الحدادين." ربما كان الفيو هو نفسه السيد "إياكوبو الفي" الذي كانت بينه وبين بيلينشيوني صديق ليوناردو المساجلات الزجلية الهجائية- وربما كان اللقب التشريفي لفارس أو دكتور في القانون: شخصية اجتماعية ناجحة. وكانت منطقة الحدادين The Fabbri في ميلانو تقع حول بوابة المدينة الصغيرة المعروفة باسم "بوابة الحدادين Pustrala dei Fabbri". ويرى بيدريتي أنَّ النساء المشار إليهن لسن سوى بنات الفيو، ولكن الكلمة بالقدر نفسه إنْ لم يكن أكثر تشير إلى الخادمات أو العشيقات. وتعود هذه الورقة في تأريخها أيضاً إلى عام 1508-1509. وتحتوي على دراسة تشريحية كبيرة لأنثى في وضعية الوقوف، وعلى الخط الخارجي للرسم علامات تثقيب وضعت بهدف النقل، وفي الحقيقة لقد وجدت نسخة لها في ورقة أخرى بوندسر- وهي الورقة ذاتها التي ورد فيها ذكر الكريمونية.
ويبدو أنّ هذه الإشارات تضيف جزئية محيرة من سيرة بوسي عن "محظية تدعى كريمونا". لقد كانت ضمن النساء في بيت جياكومو أو جاكوبو الفي في ميلانو، كما استعان بها ليوناردو كمثال لليدا، وأصبحت فرداً في حاشيته وبهذه الصفة أُدرجت في القائمة التي كتبت في إطار التحضير للسفر إلى بافيا عام 1509. وهنالك رسمٌ تمهيديٌ أقل شهرة في ويندسر، وربما كان بيد أحد التلاميذ، تظهر فيه امرأة عارية جزئياً تحتوي بكفها نهدها الأيمن، وتلمس بالأخرى فرجها أو تغطيه. (هذه على الأقل إحدى قراءاته: ينسجم الرسم مع دراسة منفصلة لساقها اليسرى، وعليه فمن الصعب تحديد المقصود منه.) تحتوي الورقة كذلك على دراسات تشريحية تعود لحوالي 1508-1509 وربما كانت هذه لمحة أخرى من كريمونا . يشدنا هذا كله إلى تلك المجموعة الغامضة من اللوحات التي تندرج تحت العنوان العام " الجيوكندا العارية"، والتي تظهر فيها امرأة عارية الصدر في وضع يشبه جلسة الموناليزا قليلاً أو كثيراً. ولا واحدة من الأمثلة الموجودة الآن بريشة ليوناردو، بيد أنّ أفضلها والمعروفة باسم مونا فانّا (إرميتاج)، من الجائز نسبتها إلى سالاي؛ فهي متأثرة بالموناليزا إلى حد واضح- المقعد، العريشة، منظر الجبال في الخلفية- ولكن وجه المرأة والشعر الممشط أقرب إلى ليدا. وتوجد الآن نسخة في أكاديمية كارارا في بيرغامو وقد أدرجت في فهرس ميلانو عام 1664 كوجه بريشة ليوناردو "لسيدة يعتقد أنّها مومس" (mulier crediture meretrix).
وتلميح بوسي عن كريمونا يشير إلى وجود علاقة جنسية بينها وبين ليوناردو- ويشير في الحقيقة إلى أنّ ليوناردو قال الشيء ذاته في الملاحظة التي "أثبت" بها أنّه "يحب ملذات الحياة". كان ذلك متزامنا مع كتابة ليوناردو جملة غامضة إلى حد ما حول الجنس: " يود الرجل معرفة إن كانت المرأة مذعنة لمتطلبات شهوته، وبإدراكه أنّها كذلك وأنّها ترغب فيه، يقدم نفسه، ويحول رغباته إلى أفعال، وليس بوسعه أن يعرف إن لم يعترف، ويعترف بأنّه ينيك.".
"confessando fotte" – ليس هنالك حقاً أية طريقة أخرى لترجمة هذه العبارة. وهذه هي المرة الوحيدة في جميع مخطوطاته التي يستخدم فيها عبارة [fottere]". ولا ينبغي اعتبارها فحشاً، ولكن لا يمكن أيضاً أن تفهم على أنها صراحة عامية ببساطة.
لقد آثر استخدام فعل حسي ومؤكد على عدد من البدائل الأخف وقعاً التي كان يستخدمها في مواضع أخرى (usare con, fare il coito, etc.)، فحسيته المفاجئة تعبر بشدة عن فكرة الجملة برمتها، ويبدو أنّها تقول بأنّ الرغبة الجنسية تبدأ من الفضول الاستفهامي الواسع- هل ستكون أم لا تكون؟- والتي بالكاد تطرح سؤالاً، لفظياً "الاعتراف" بالرغبة، قد يؤدي إلى الفعل نفسه وبتهور. هل هذه الشذرات من التأمل تعتبر من قبيل السيرة الذاتية ولو جزئياً؟
على إحدى الأوراق التشريحية التي تعود إلى عام 1510 يوجد تعليق آخر مثير للاهتمام: " فعل الجماع وأجزاء الجسم المشاركة فيه هي من القبح إلى حد أنّه لولا جمال الوجوه وعشق المحبين، والرغبات المكبوتة فسوف تخسر الطبيعة الجنس البشري." وها هي مرة أخرى مكاشفة اللغة: بينهما الجمال والرغبة- خاصة الرغبة التي كانت مكبوتة ومقموعة (frenata)- تطغى على "فحش" الحب الجنسي بين المرأة والرجل. تضفي هذه التعليقات بعض المصداقية إلى تلك الملاحظة الشاردة التي أشار إليها بوسي.
إنّها مهمة كاتب السيرة أن يكون متهكماً أكثر منه رومانسياً، ولكني أجد أنّه ليست من صعوبة موروثة في فكرة أنّ ليوناردو في عمر يناهز السابعة والخمسين، قد ارتبط بعلاقة أو نزوة بالمومس الجميلة الشابة التي تم توظيف ملامحها الهادئة وجسدها المتثني كمثال لليدا، وربما للأصل المفقود للوحة "الجيوكندا العارية". وقد يكون هذا باباً جديداً للغاية في حياته الجنسية، أو ربما لم ينبغي التعامل مع مثليته الجنسية كمبدأ.
ارتبط ليوناردو بعدد من النساء. كانت غالبية لوحاته لنساء، ويحتفظن بقرب فعلي، وطقس من اللحظات المشتركة التي مرت أثناء تنفيذ اللوحات. كانت علاقته بجنيفرا دي بينشي أو سيسيليا غاليراني، أو ليزا دي جيوكوندو- وجميع الفتيات والنساء مجهولات الاسماء اللواتي كن نماذج للوحات السيدة العذراء موجودات فيها. دون اعتبار لعاداته أو ما كان يفضله، فيبدو أنّه ليس من المحتمل أنّ "تلميذ التجربة" الذي جعل المعرفة بكافة فروعها مجالاً له لينكر على نفسه على الأقل مرة في حياته المعرفة الجنسية بإمرأة. هذا هو في الحقيقة منطق بوسي عندما يذكر الكريمونا، بطريقة أقرب إلى ما فعله ليوناردو من ذكرها: أنّها عرفته بتلك "الملذات"، والتي بدونها سيكون فهمه للحياة ناقصاً، وأنّه قد "لمس الضعف الإنساني" بشكل مثمر، نتيجة لهذه الصاعقة الخريفية غير المتوقعة.
------------------------------------------------
ليوناردو دافنشي: رحلات العقل
تأليف: تشارلز نيكول
ترجمة: أميمة حسن قاسم
محاولة استعادة شيء من ليوناردو الإنسان هي مهمة هذا الكتاب- ذلك هو، ليوناردو الإنسان الحقيقي، الذي عاش في وقت حقيقي، وأكل أطباقاً حقيقية من الحساء، مقابل ليوناردو الرجل الخارق، متعدد التخصصات.
بتكليف ورعاية من الشاعر الإماراتي محمد أحمد السويدي، وبدافع من حب المعرفة والسعي لنشرها قامت القرية الإلكترونية بتوفير هذه النسخة من كتاب ليوناردو دافنشي: رحلات العقل | تأليف: تشارلز نيكول | ترجمة: أميمة حسن قاسم
وسوف نقوم بنشرها على حلقات تباعاً هنا في جوجل بلس نأمل أن تحوز إعجابكم وأن تكون مساهمة في #نشر_المعرفة
صفحتنا الرسمية في فيس بوك :
منصتنا في جوجل بلس لمتابعة باقي مشروعاتنا
(جميع الحقوق محفوظة)
No comments:
Post a Comment