Wednesday, March 13, 2019

ليوناردو دافنشي: رحلات العقل - 6 - العالم وأمواهه





ليوناردو دافنشي: رحلات العقل
6-العالم وأمواهه

فتح ليوناردو في اليوم الثاني عشر من شهر سبتمبر عام 1508 مفكرة جديدة، غلفها بقطعة رمادية رقيقة من الورق المقوى ثم نقش عليها "Cominciato a Milano a di 12 di settembre 1508" أي " تعليقات في ميلانو في 12 سبتمبر 1508" وهي مفكرة من 192 صفحة، وفي نهايتها يكتب تأريخ شهر أكتوبر 1508، وعليه فيبدو أنّه قام بتعبئة المفكرة بكاملها في فترة مركزة من ستة أسابيع أو نحوها- وربما أقل. وتؤكد على ذلك كثافة الخط اليدوي وانتظامه، وأعطاها العنوان "Di mondo ed acque" – أي "حول العالم وأمواهه"- بيد أنّهها الآن معروفة بمخطوطة باريس الأقل شهرة. وفيها يوعز إلى نفسه قائلاً: 
أكتب عن المياه أولاً، في كل من حركاتها، ثم صف جميع الأحواض وما تحتويه من مواد.. وليكن ذلك على قدر من الترتيب جميل، وإلا فسوف يفتقر العمل إلى الوضوح. صف جميع أشكال المياه من أكبر موجة إلى أصغرها، مع ذكر الأسباب.  
وتتضمن الصفحات التي تناولت موضوع المياه رسومات صغيرة مفعمة بالحياة- أمثلة رائعة لتمكن ليوناردو من تجسيد البنيات والهياكل مهما تعقدت وتبدلت. وقد تناول التيارات العكسية (retrosi) والدوامات (صفحة 150). وهو من استحدث عبارة " aqua panniculata"  - المياه المتغضنة أو المتجعدة- لوصف الأسطح المترجرجة أو المضطربة. ويبدو أنَّ شغفه بأشكال المعقدة للمياه الجارية قد انعكس في جدائل ليدا بانسياباتها والتفافاتها، والتي ربما كان يعمل عليها  ليوناردو- أو مساعدوه على أية حال- في ذلك الوقت. وقد كان اهتمامه بالمياه عملياً. فهنالك آلة "لحفر التربة لزيادة عمق المستنقع"، ويحتمل أنّ لهذا الأمر علاقة بمشاريع شق القنوات التي بدأها آنذاك. 
وأصبحت الآلة الطائرة موضوعاً للبحث من جديد. فهنالك ملاحظة مقتضبة تقول: " قم بتشريح الخفاش، واحرص على ذلك، وابن الآلة على هذا الأساس".  لقد اعتمد الخفاش في وقت سابق كنموذج فسيولوجي لأجنحة الآلة، "لأنّ الأغشية تعمل كإطار للأجنحة"، ولكن الآنّ وربما نتيجة لإخفاقه في التجربة على جبل سيسيري، فيبدو أنّه يؤكد على أفضلية الخفاش كنموذج أكثر استقرارا في عملية الطيران بشكل عام. وقد لاحظ مؤخراً أنَّ الخفافيش "تستطيع اتباع فرائسها في وضع مقلوب، أو مائل أحياناً، وكذلك بطرق متعددة، والشيء الذي قد يتسبب في هلاكها إن كانت أجنحتها من الريش وتتخللها فجوات".  
أما شغفه بالهندسة فقد انتهى. لقد وجدناه يخوض في أروقة التربيع- والمكعب، والجذور، ويتعثر بمسألة ديلوس، والتي استمدت اسمها من ورودها في قصة أبولو الكلاسيكية، والذي أخرج قاطني جزيرة ديلوس من الطاعون وطالبهم في المقابل بمضاعفة حجم مذبحه عندهم، حيث كان المذبح على هيئة مكعب من المرمر، فكان رضاه عنهم متوقفاً على إيجادهم قيمة الجذر التكعيبي. 
وهنالك دراسات في البصريات والضوء. وتسترسل سطور خطاب مؤثر بعنوان " في مدح الشمس" على مدى صفحتين، يستشهد ويعارض آراء أبيكيورس وسقراط حول حجم الشمس ويخلص إلى:
ليس ثمة جسمٍ –في أي مكان في العالم بكامله- أعظم من الشمس حجماً ولا أشدّ قوة. ومنها تهبط كل قوى الحياة (الروح)، لأنَّ الحرارة التي في أجساد جميع الأحياء تأتي من هذه القوى الحيوية، وليس هنالك حرارة ولا ضوء غيرها في العالم.  
ونجد هنا صدىً لسحر فيشينو الإفلاطوني-الكواكبي القديم، ولكن إن استبدل المرء "العالم" في النص أعلاه بمفردة "النظام الشمسي" فإنَّ الفقرة تكتسب صبغة علمية لا غبار عليها. فهي تميل نحو فكرة مركزية الشمس، ولكنها لا تعبر عنها فعلياً. وقد اعتبرت العبارة الشهيرة القائلة " Il sole non si muove" (الشمس لا تتحرك)، في إحدى أوراق ويندسر المؤرخة في 1510، بأنّها استبصار فلكي مُلهِم يسبق كوبرنيكوس بثلاثة عقود، ولكن هذا الشيء غير مؤكد. لأنّ فكرة مركزية الشمس قديمة قدم فيثاغورس- بيد أنّه لا دليل على ذلك- وعلى أية حال فإنَّ العبارة قد وردت هكذا دون تقدمة ولا تفسير، ومن الأرجح أنّها ملاحظة سريعة ذات صلة بأحد العروض أو الاحتفالات، أو ربما شعار لنقش رمزي يعبر عن خصلة الصمود. 
كما أنّه يتبع في المخطوطة افتتانه بالدورات الجيولوجية و نظرية السببية، والتي هي إحدى سمات مخطوطة لشيستر المعاصرة لها. فناقش احتمالية خروج الأرض من البحر، وتوقع في نبرة تنبؤية بعودة الأرض إلى "حِجر" (grembo) أو رحم البحر مرة أخرى  وفي هذه القطعة نسمع عن أولى إرهاصات رسوماته عن الطوفان المروِّع، حيث تجسد دراما الكوارث الطبيعية أيضاً فكرة انهيار الطبقات والفروقات- احتياج الخارق للطبيعة للفكر حيث تستعصي النهاية على الإدراك. 
ومن بين هذه المواضيع الكبيرة أيضاً نجد سمة اللحظية اللاذعة التي اصطبغت بها كراساته. وهنا بعض العبارات المخربشة على الغلاف: 
انفخ رئتي أحد الخنازير
ابن سينا عن السوائل
خارطة ايليفان الهند التي بحوزة انتونيللو ميركايايو
استفسر من صاحب القرطاسية عن فيتروفيوس
سل المعلم مافيو عن السبب في ارتفاع نهر أديجي لسبع سنوات وهبوط مستواه لسبع سنين
اذهب كل سبت إلى الحمامات الساخنة وسوف ترى رجالاً عراة 
وقد عاصرت هذه المفكرة شقيقتها مخطوطة باريس د، وهي كتيب من ثمانين صفحة، مكتوبة بعناية ونظام، وتناولت موضوعاً واحداً بشكل كامل هو علم الرؤية. وفي بعض منه تفصيل لملاحظات كتبت سابقاً، وبشكل أكثر تحديداً رسومات على المخطوطة أ تعود إلى مطلع تسعينيات القرن الخامس عشر. وهي علامة أخرى على أفكار ليوناردو التي تميل إلى التجميع، والإتمام ومن ثم النشر. 
وهي نفسها تجميع لثمانية عشر ورقة واحدة منها هي المقالة التي تقول " في شتاء هذا العام 1510، أتوقع إكمال كل هذا التشريح." " في هذه الرسومات الإيضاحية بمحاذاة مقاطع قصيرة من الشروحات النصية يتشكل ما يجوز تسميته اليوم "تخطيطاً" لصفحة مطبوعة.  والرغبة بادية دون خفاء في صفحاته التشريحية التي تعود لهذه الفترة. " وتقول ملاحظة تشير صراحة إلى نسخة مستقبلية مطبوعة: " وفي ما يتعلق بهذه الفائدة التي أقدمها إلى الأجيال القادمة، فإنني أوضح طريقة الطباعة فيها بالترتيب، وإنني أناشدكم يا من تأتون من بعدي ألا تدعو الطمع يمنعكم من الطبع على [...]" الكلمة الأخيرة مفقودة نسبة لتلف الورقة بالقرب من الهامش، ولكن ما بقي يكفي لتخمين أنّ الكلمة هي "legno" الخشب. وهو يتمنى-بعبارة أخرى- أن يتم إيضاح  كتاباته التشريحية ليس بالحفر على الخشب- الأرخص كما يقول، ولكن بألفاظ أكثر قسوة- بل عن طريق الحفر على النحاس الأكثر دقة. وقد أكد باولو جيوفيو، والذي كانت له معرفة مباشرة بتشريح ليوناردو من خلال العلاقة المشتركة مع خبير التشريح ماركانتونيو ديلا تورري. ويقول ليوناردو " وفيها تصنيف فائق الدقة لجميع أجزاء الجسم، متوغلاً إلى أصغر الشرايين وتركيب العظم،  حتى تتم طباعة هذا العمل الذي أفنى فيه سنوات طويلة بطريقة النقش على النحاس في سبيل الفن". وكما يذكر كارلو بيدريتي فإنَّ هذه الاحتمال قد يفسر أسلوب الرسم الذي يفتقر إلى الحيوية في هذه الأوراق التشريحية: " وكان ليوناردو يتوقع أن تمنحه طريقة الطباعة بالحفر على النحاس دقة في السطور وتوحيد التخطيط ورسم الحرف." 
وهنالك تجميع آخر من هذه الفترة- كان بنية الطبع مثل سابقه- وهو مخطوط "كتاب" حول التلوين، والذي قام ميلزي بتبويبه (بعد وفاة ليوناردو) فيما أسماه الكتاب أ [ A  Libro]. وشكل جزءاً هاماً من تجميع مليزي لكتابات ليوناردو حول التلوين، المخطوطة الحضرية، والتي وفرت بالمقابل النص اللازم للأطروحة حول التلوين. أما المخطوطة الأصلية فقد فقدت ولكن تمت استعادة جزء من محتوياتها من نصوص ميلزي. كما أنّها احتوت أيضاً على بعض الملاحظات في الهيدروليكيات والتي قام ليوناردو بنسخها بيده من مخطوطة ليشستر.  وعليه فإنَّ تقدم مشروع الاستعلامات الكبير يسير صفحة صفحة، وحرفًا بعد حرف، صوب غايته المنشودة: الطباعة. " في جهدي هذا"، يعد الناس، " سوف أبين أعمال الطبيعة الباهرة." 


------------------------------------------------
 ليوناردو دافنشي: رحلات العقل
تأليف: تشارلز نيكول
ترجمة: أميمة حسن قاسم
محاولة استعادة شيء من ليوناردو الإنسان هي مهمة هذا الكتاب- ذلك هو، ليوناردو الإنسان الحقيقي، الذي عاش في وقت حقيقي، وأكل أطباقاً حقيقية من الحساء، مقابل ليوناردو الرجل الخارق، متعدد التخصصات.
بتكليف ورعاية من الشاعر الإماراتي محمد أحمد السويدي، وبدافع من حب المعرفة والسعي لنشرها  قامت القرية الإلكترونية بتوفير هذه النسخة من كتاب ليوناردو دافنشي: رحلات العقل | تأليف: تشارلز نيكول | ترجمة: أميمة حسن قاسم
وسوف نقوم بنشرها على حلقات تباعاً هنا في جوجل بلس نأمل أن تحوز إعجابكم وأن تكون مساهمة في #نشر_المعرفة
صفحتنا الرسمية في فيس بوك :
منصتنا في جوجل بلس لمتابعة باقي مشروعاتنا 
(جميع الحقوق محفوظة)

No comments:

Post a Comment