ليوناردو دافنشي: رحلات العقل
6-رسالة إلى السلطان
تم اكتشاف وثيقة مهمة جداً في عام 1952، بقسم سجلات الدولة في متحف توبكابي بمدينة اسطنبول. على رأسها نصٌ تركي أنيق، وقد لُخص في العبارة التالية: " نسخة من الرسالة التي بعث بها الكافر المدعو ليوناردو من جينوا". فإن كانت أصلية، فإنها تعاصر الترجمة التركية لرسالة ضمّنها ليوناردو عرضاً بتقديم خدماته العسكرية للسلطان بيازيت (أو بايزيد) الثاني. وفي ذيل النص يكتب الناسخ، " كتبت هذه الرسالة في 3 يوليو." ولكنه يهمل كتابة السنة. وهي تكاد تكون على وجه التأكيد سنة 1503، وفي تلك الحالة لا بُدَّ أنّها كتبت في فلورنسا، عندما كان ذهن ليوناردو مشغولاً بالمشروعات التقنية بعد مغامرته مع بورجيا. (وصفت الرسالة بأنّها "وردت من جينوا" وهو ما يعني بالضرورة أنّها قد وصلت على متن سفينة أبحرت من جنوا فحسب).
وتبدأ، إلى حدٍ ما مثل المقترحات الشهيرة التي بعث بها إلى الأسمر قبل عشرين سنة مضت، بعروض للخبرات التقنية: " أنا خادمكم...سوف أقوم ببناء طاحونة لا تحتاج إلى الماء لكي تدور، ولكنها تدار بقوة الرياح وحدها" و "الحمد لله، الذي ألهمني الطريقة لإخراج المياه من السفن دون حبال ولا أسلاك، ولكن باستخدام آلة مائية ذاتية الحركة." ولكن هذه العبارات كانت بمثابة إحماء لتلقي العرض الأساسي، والذي كان لا يقل أهمية عن تصميم وبناء جسر فوق القرن الذهبي:
لقد تنامى إلى سمعي أنا خادمكم، نيتكم بناء جسر يربط بين اسطنبول وغلطا، وأنكم لم تبنوه بعد نسبة لعدم وجود من هو قادر على ذلك. أعلم أنا خادمكم كيف أنصبه على ارتفاع أحد المباني، حتى لا يستطيع أحد العبور فوقه من شدة ارتفاعه...سوف أجعله كذلك حتى تستطيع السفن العبور من تحته حتى وهي ناشرة أشرعتها....وكنت سأستخدم جسراً متحركاً حتى يمكن العبور عليه إلى ساحل الأناضول لمن أراد..ليلهمك الله تصديق كلماتي، واعتباري خادماً لكم ورهن إشارتكم على الدوام.
وقد اشتملت مخطوطة باريس ل، والتي كان يستخدمها بشكل مكثف أثناء مغامرة بورجيا في 1502-1503ميلادية، على ما يبدو أنّه بعض الرسومات العملية ذات الصلة بهذا المشروع، لكنْ التصميم يختلف في بعض مناحيه عن الوصف الوارد في الرسالة. يبين الرسم هيكلاً انسيابيًا إلى درجة رائعة بدعامات مستوحاة من ذيل الطائر. يمهرها ليوناردو بالديباجة التالية: " جسر من بيرا إلى القسطنطينية ["كوستاتينبولي"، 40 ذراعاً عرضاً و70 ذراعاً ارتفاعاً فوق الماء، و 600 ذراعٍ في الطول، هذا يعني أنّه 400 بحراً و200على اليابسة، عليه فدعاماته هي جزءٌ لا يتجزأ منه." الحسابات كانت معلومة بدقة: يبلغ عرض القرن الذهبي حوالي 800 قدمٍ عليه فإنّ "400 ذراع في البحر" يعتبر رقمًا صحيحًا ودقيقًا. أما الطول المقترح للجسر بكامله فهو (600 ذراعٍ= 1200 قدمٍ) وهو الشيء الذي سيجعله الجسر الأطول في العالم في ذلك الوقت.
رسم تمهيدي للجسر في القسطنطينية (يساراً) وتنفيذ فيبكورن ساند في آس (الأسفل)
إقامة ليوناردو الخاطفة في روما في فبراير 1503 كانت هي مصدر هذا المشروع على الأرجح. فقد جاء وفد من سفراء السلطان ابي يزيد إلى روما بغرض إجراء بعض المحادثات مع البابا إلكيساندر. ويحتمل أنّهم تحدثوا عن رغبة السلطان في الاستعانة بمهندس إيطالي لبناء جسر فوق القرن الذهبي- لم يكن هنالك سوى جسر خشبي مؤقت يطفو على بعض البراميل وقتذاك. ومن بين المهتمين بالموضوع، وفقاً لفازاري، كان هنالك مايكل آنجلو الشاب: " بحسب ما نُقل إليَّ، فإنَّ مايكل آنجلو كان يرغب في السفر إلى القسطنطينية لخدمة الترك، الذين طلبوه عن طريق إخوة معروفين من الرهبان الفرنسسكان، ليبني لهم جسراً يربط بين القسطنطينية وبيرا." يؤرخ فازاري لهذا الأمر أثناء فترة نزاع مايكل أنجلو مع البابا يوليوس الثاني في 1504. وقد حُكيت القصة ذاتها تقريباً في حياة اسكانيو كونديفي التي عاصرت حياة مايكل آنجلو (1553).
كانت زيارة ليوناردو لروما في فبراير 1503، وفي مقر إقامة سيزار بورجيا، وهذا يضعه في السياق: يعلم باهتمام السلطان، يرسم بعض النماذج الأولية في دفتر يومياته، ويخط رسالته الداوية بما يلائم الموقف من بهرج وزخرف. ولقد ثار الكثير من الجدل حول أنَّ تصميم الجسر كان مستوحىً من تصميم جسر اليدوسي الموجود في قلعة ديل ريو، على الطريق بين إيمولا وفلورنسا. لقد بدأ هذا في 1499، وكان ما يزال غير مكتمل البناء عندما رآه ليوناردو أثناء أبحاثه الطبوغرافية حول إيمولا في خريف عام 1502.
مثل منطاد ليوناردو، المحفوظ في ملاحظة صغيرة تعود إلى عام 1485، والذي خضع لاختبار في الهواء بعد أكثر من خمسة قرون، فقد تم تشييد الجسر مؤخراً وفق مواصفات ليوناردو- بيد أنّه في بوسبوروس، يبعد 1500 ميلٍ ناحية الشمال من الموقع المعيَّن سلفاً.
وفي 31 أكتوبر من عام 2001 تم الكشف عن نسخة مصغرة منه (بطول 100ياردة) في آس، على بعد عشرين ميلاً جنوبي أوسلو. وقد تم تصميمه وبناؤه على يد الفنان النرويجي فيبتورن ساند، ولقد صنع من البلوط، والتيك والفولاذ، وكلف حوالي مليون واحد من الجنيهات الاسترلينية. ويستخدم كجسر لعبور المشاة فوق أحد الطرق السريعة.
لم يخلد ليوناردو إلى الراحة أبداً: لقد كان يعمل عبر الأجيال، ويتنقل بين كل مجايليه الليونارديين- الفنانين، والنحاتين، وصانعي الإنسان الآلي، والسابحين في الفضاء، الذين اشتعلت قرائحهم بشدة من رسوماته الصغيرة المدبجة بالشروحات الوجيزة وقوة التفكير التي تكمن فيها. " إنّه لمن الضروري أن يُشيّد فحسب"، ورد عن ساند قوله " يمكن بناؤه من الخشب أو الحجر، بأي مقاس، لأنَّ المباديء سليمة." وعليه فقد تفتقت براعم فكرة داعبت حلماً في 1503 عن زهرة رائعة شبت أخيراً فوق الطريق السريع إي 18 جنوبي مدينة أوسلو.
------------------------------------------------
ليوناردو دافنشي: رحلات العقل
تأليف: تشارلز نيكول
ترجمة: أميمة حسن قاسم
محاولة استعادة شيء من ليوناردو الإنسان هي مهمة هذا الكتاب- ذلك هو، ليوناردو الإنسان الحقيقي، الذي عاش في وقت حقيقي، وأكل أطباقاً حقيقية من الحساء، مقابل ليوناردو الرجل الخارق، متعدد التخصصات.
بتكليف ورعاية من الشاعر الإماراتي محمد أحمد السويدي، وبدافع من حب المعرفة والسعي لنشرها قامت القرية الإلكترونية بتوفير هذه النسخة من كتاب ليوناردو دافنشي: رحلات العقل | تأليف: تشارلز نيكول | ترجمة: أميمة حسن قاسم
وسوف نقوم بنشرها على حلقات تباعاً هنا في جوجل بلس نأمل أن تحوز إعجابكم وأن تكون مساهمة في #نشر_المعرفة
صفحتنا الرسمية في فيس بوك :
منصتنا في جوجل بلس لمتابعة باقي مشروعاتنا
(جميع الحقوق محفوظة)
No comments:
Post a Comment