ليوناردو دافنشي: رحلات العقل
9-جدارية الانغياري (1)
انقضى الصيف غوصاً بين الحفر في الهضاب البيزية، والمحاورات مع ميكافيللي، والدراسات الرياضية مع لوكا الباكيولي، وجلسات الرسم مع ليزا ديل جيوكوندو (مع الموسيقيين والمهرجين أو بدونهم). وهو يبدو صيفاً جيداً بالفعل بالنسبة لليوناردو، ولكنه كان يفكر في مهمة جديدة في خريف ذلك العام، تكافيء لوحة العشاء الأخير في الحجم والعمل المطلوب. كان التكليف يقتضي تنفيذ جدارية لتزيين أحد جدران قاعة المجلس الكبرى (Sala del Maggiore Consiglio التي أصبحت لاحقاً Sala del Cinquecento)، وهي تقع في الطابق الأول من القصر القديم. وقد شُيدت هذه القاعة في عام 1495 في فجر الجمهورية التي أعقبت طرد آل ميديشي.
على الرغم من أنّ العقد الأصلي مفقود إلا أنّه يجوز تقريب تأريخه إلى شهر أكتوبر من عام 1503. فقد أصدر مجلس الشعب في اليوم الرابع والعشرين من ذاك الشهر توجيهاته بمنح ليوناردو مفتاح قاعة طعام كبيرة مهجورة في دير القديسة ماريا نوفيلا، والتي كانت تُعرف بقاعة البابا (Sala del Papa). وقد وفرت له هذه الرعاية الرسمية المساحة التي كان يحتاجها لعمل القالب الكارتوني الضخم للجدارية. وينص عقد لاحق، يعود لتأريخ 4 مايو 1504، على أنّ ليوناردو قد "وافق قبل بضعة شهور على تلوين لوحة في قاعة المجلس الكبير". وأنّه قد تلقى مبلغ 35 فلوريناً كمقدم لأجره. والموعد النهائي لإكمال العمل هو نهاية شهر فبراير من عام 1505 (" دون أية استثناءات أو أية اعتراضات مهما كانت"). وتبين المستندات اللاحقة أنّه تلقى معاشاً يبلغ 15 فلورينا في الشهر أثناء عمله عليها.
وبهذا أصبح لليوناردو مقراً جديداً في دير القديسة ماريا نوفيلا، ذي الواجهة الألبرتية الرائعة والتي شهد بناءها قبل أكثر من ثلاثين عاماً خلت، وقد ازدانت أسوارها بجداريات مضيئة على أيدي دومينيكو غيرلاندايو، بلوحات لشخصيات فيشينو ولويجي بولتشي وبوليزيانو، ولفتية آل ميديتشي اليافعين- وجوه من شبابه، وأشباح من فلورنسا مختلفة. كانت قاعة البابا تتوسط المبنى وتميل إلى الجهة الغربية من الكنيسة (مقر الشرطة حالياً، وتعج بالعسس). ولم تكن حجرة الطعام بحال طيبة- هنالك توجيهات لاحقة من إدارة المجلس بأن يتم إصلاح السقف بمادة عازلة لمياه الأمطار. كانت النوافذ " بسيطة" وتحتاج إلى إحكام. في الثامن من شهر يناير من عام 1504 استدعي النجار بينيديتو بوتشي، بالألواح والأغصان والمزاليج والعوارض لصيانتها وتأمينها. ربما كانت هذه الإصلاحات الضرورية قد سبقت وصول ليوناردو. وهنالك ورقة مقتطعة في مخطوطة أتلانتكس بها قائمة أغراض منزلية- أربعة وأربعون بنداً: مقاعد ومناضد ومناشف ومحارم ومكانس وشمعدانات، وفُرش من ريش النعام، وحوض نحاسي، ومغرفة أشنان، ومقلاة، و"منائر"، ومحابر، وحبر، وأشنان، وألوان" و" حامل ثلاثي القوائم، وكرة، وحامل أقلام، ومنضدة قراءة، وقضيب حديدي، واسفنج": أرتال من اللوازم الصغيرة.
كان المشهد السائد طوال شهر فبراير هو موقع المبنى، والنجار الذي يشيد المنصة والسلَّم، " مستعيناً بجميع الأجهزة اللازمة". ويبلغ طول عمود المنصة الرئيسي خمسة أذرع من خشب الدردار، وقد تم ربطه بسلك أو حبل ضخم من ألياف القنب- أي كانت أشبه بمنصة معلقة عنها بسقالة، وكان بالإمكان التحكم بطولها وموقعها من خلال البكرات. ووصل تاجر الأوراق جياندومينيكو دي فيليبو برزمة من الأوراق التي سوف يتم لصقها معاً لصنع الكارتون. وآخر يجلب أوراقاً أكثر خشونة وأقل تكلفة لتغطية النوافذ. وقد جلب الشمع والتربنتين والرصاص الأبيض من الصيدلية. ووصلت شحنة من الأسفنج. كما كان البَنَّاء المعلِّم انطونيو دي جيوفاني، في موقع العمل أيضاً. وكان يرصف طريقاً من حجرات ليوناردو الخاصة " يؤدي مباشرة إلى حيث لوح الكارتون المذكور"- وندرك من هذه المواصفات المعاناة الفنية التي تنتظره: العتمة والعزلة. وسرعان ما سينهمك في العمل: سيغدو ويروح بين غرفته وموقع الرسم في انهماك شديد. ويستحضر المرء هنا ملاحظة بانديلو حول العمل على لوحة العشاء الأخير- ودفقات النشاط المفاجئة، والساعات الطويلة التي يقضيها مكتوف الأيدي في تأمل وتفكر.
في اليوم السابع والعشرين من شهر أبريل سحب ليوناردو 50 فلوريناً أخرى من حسابه المصرفي؛ ويبدو أنّ الدفعة المسبقة التي قبضها من مجلس الشعب قد تبددت تواً.
كانت الحرب هي البيئة التي أحاطت بليوناردو في السنوات القليلة السابقة- أثناء خدمته طموحات بورجيا الجبار، كمهندس للعمليات الحربية الفلورنسية ضد بيزا- بل وحتى هنا في مرسمه الجديد في دير القديسة ماريا نوفيلا، لم ينفض بعد عنه تلك العلاقة، لأنّ موضوع عمله الذي شرع فيه بالفعل لم يكن سوى الحرب.
لقد أراد مجلس الشعب تزيين قاعة المجلس الكبرى بمشهد ملحمي يوثق للنصر الفلورنسي الشهير. في 1440، ولكنه ما زال في الذاكرة الحية- هجوم القوات الميلانية بقيادة المرتزقة نيكولو بيكشينينو الذي صدته القوات الفلورنسية في معركة خارج قرية انغياري التابعة لإقليم التوسكان، في الهضاب القريبة من أريزو. وربما كان ليوناردو على معرفة جيدة بالمكان، وربما سلك ذلك الطريق في رحلته إلى أربينو في السنة الماضية، وهو معلّم في خارطته لوادي شيانا.
وكان ميكافيللي متورطاً مرة أخرى. فهنالك وصف طويل في مجموعة من أوراق ليوناردو للمعركة، مترجم من شهادة لاتينية لليوناردو داتي. كان الخط لمساعد ميكافيللي اغوسطينو دي فيسبوتشي، وكانت الكتابة بلا شك بإيعاز من ميكافيللي، ليزود ليوناردو بالمعلومات والأفكار حول الموضوع. ويبدو أنّ هنالك تصويراً لجدارية سردية، تقص عدة مشاهد في فترة زمنية معينة. " تبدأ بخطاب نيكولو بيكشينينو للجنود...ثم لتجعلها تبين كيف امتطى صهوة جواده في البداية مرتدياً درعه، ثم لحق به الجيش بكامله، 40 فيلقاً من الفرسان و2000 من المشاة"...إلخ.
تضمَّنّ شهادةَ داتي حول المعركة؛ مشهدٌ حالمٌ للقديس بطرس الذي يظهر " في سحابة" للقائد الفلورنسي (وقعت المعركة في عيد القديسين بطرس وبولس في التاسع والعشرين من شهر يونيو)، وهي ملحمية ومثيرة للحماس بشكل عام – كما كان مجلس الشعب يأمل أن تكون جصّية ليوناردو دون شك. وهنالك قصة أخرى جد مختلفة، كتبها ميكافيللي بنفسه في كتابه التأريخ الفلورنسي، حيث وصفت المعركة بأنّها مناوشة سريعة، قتل أثناءها رجل واحد- وقد حدث ذلك دون قصد، عندما سقط عليه حصانه. أما الآن، بالنسبة للفنان، فهنالك النسخة الدعائية. وكان التكليف واضحاً: إثارة مشهد لبسالة الجيش الفلورنسي، نصر عظيم لتعزيز موقف الجمهورية في هذه الفترة المتقلبة. ولكن ومنذ البداية، كما يبدو للمرء من تعدد الرسومات التحضيرية- فإنّ معالجة ليوناردو حملت أيضاً مشهداً قوياً لرعب الحرب ووحشيتها.
ونرى في تلك الرسومات زمجرة المحاربين، وصهيل الأحصنة المذعورة، والعضلات الممددة، والأسلحة القاطعة. وهي لا تخلو من عنصر التنفيس: مواجهة لعقدته الخاصة في خضم تمجيد الحرب السائد في تلك الفترة. وقد سكنت هذه الرسومات مشاهد مرعبة معينة شاهدها بعينه خلال الشهور التي أمضاها مع بورجيا. وقد عرف أيضاً ذلك النوع من الأشياء التي يركز عليها لالتقاط دراما ميدان الحرب، وقبل ذلك بأكثر من عقد من الزمان في ميلانو كان قد كتب نصاً طويلاً بعنوان " كيف تجسّد معركةً":
يتعين عليك في البداية بيان دخان عتاد الحرب، عالقاً في الفضاء مع الغبار الذي تثيره حركة الجياد والجنود....يجب أن يكون الهواء معبأً بالسهام في كل اتجاه، وأن يكون للقذائف المدفعية قطارات من الدخان تتبعها في اندفاعها في الجو...إن رسمت شخصاً سقط فيجب أن تجعل المكان الذي استقر فيه جسده زلقاً من الرمال التي خضبتها الدماء والطين...وينبغي إظهار الآخرين يصرّون اسنانهم من آلام الاحتضار، وأعينهم تدور في محاجرها، وتلتصق قبضاتهم بأجسادهم، وتتلوى أرجلهم من الألم. يجب أن يكون هنالك عدد من الرجال مكومين على الأرض فوق حصان نافق.
جودة المعركة هذه، حيث يحتدم الشجار والكر والفر تبدو واضحة في رسوماته التمهيدية. وهكذا يتلمس ليوناردو طريقه بين الغزل الفلورنسي وصدق شاهد العيان لإكمال اللوحة.
دراسات الانغياري. في الأعلى رسم يبين رأسي جنديين، وشجار للفرسان في معركة، 1503-4. الرسم في الأسفل: نسخة من رسم ليوناردو المفقود لمعركة الانغياري، تنسب إلى بيتر بول روبينز.
وصلت أنباء شروع ليوناردو في تنفيذ مشروع جديد عظيم إلى أسماع إيزابيلا دا إيستي- التي لم تفقد الأمل أبداً- في مانتوفا، ولكنها لم تردعها. فهي في خطاب مؤرخ في 14 مايو 1504 تهيب بانجلو ديل توفالجيا أن يطلب من ليوناردو أن يرسم لأجلها لوحة دينية صغيرة- " وإن اعتذر بعدم توفر الوقت بسبب العمل الذي بدأ به لصالح مجلس الشعب المبجل، لك أن تخبره بأنّه سيكون نوعاً من التأمل والاسترخاء عندما تبلى الجدارية، وأنّ باستطاعته رسمها في الوقت الذي يوافق رغبته." في التأريخ ذاته كتبت رسالة إلى ليوناردو نفسه، عبر توفالجيا، قالت فيها:
السيد ليوناردو
بالنظر إلى استقرارك في فلورنسا، كلنا أمل في أن نحصل منك على ضالتنا المنشودة، والتي هي ليست سوى لوحة من عمل يدك. عندما كنت بيننا ورسمت لي ذلك الوجه بالفحم، فقد وعدتني أنك سترسم لي لوحة أخرى بالألوان. وبما أنّ هذا الأمر أصبح في عداد المستحيل الآن، إذ أنّه ليس من السهل عليك السفر إلينا، فنأمل إن كنت تريد الوفاء بما وعدتنا به من تحويل لوحتنا إلى أخرى أجمل منها، للمسيح في صباه، حوالي الثانية عشرة من العمر، عندما تشاجر في الهيكل، وأن تضفي عليها تلك العذوبة والوسامة [suavita]، والتي يتميز بها فنك بشكل خاص.
وتختتم بنبرة من المجاملة الصارمة: " ونحن إذ نتوقع استجابتكم المخلصة، نتمنى لكم كل خير."
سلّم توفاجليا الخطاب في وقته إلى الفنان في دير القديسة ماريا نوفيلا، ولكنه لم يحصل على شيء سوى التنصل المهذب: " لقد وعدني أنّه سوف يقوم بذلك في أوقات معينة، عندما ينجح في الحصول على بعض الفراغ من العمل الذي تعهد به لمجلس الشعب." وقد طولب توفالجيا أيضاً بملاحقة بيترو بيروجينو، الذي يفترض به إنجاز لوحة لمعرض إيزابيلا.
وهاهو يختتم حديثه بامتعاض:
سوف لن أتوقف عن حث ليوناردو على القيام بهذا الأمر، وكذلك بيرجينو من ناحية أخرى. قدم لي كل منهما الكثير من الوعود، وتبدو عليهما الرغبة الشديدة في خدمة سيادتكم، بيد أنني أخشى أنّه ستكون هنالك منافسة بينهما على التأخير[gara de tarditate]. ولا أدري أي منهما سيفوز بهذا ولكني أراهن على ليوناردو!
لم تستسلم إيزابيلا، وبعد ذلك بسنوات قليلة وجدت مبعوثًا ذا تأثير أكبر، شخصًا تربطه بليوناردو وشائج عائلية- اليخاندرو امادوري، كاهن مرتل، وشقيق أولى زوجات أب ليوناردو، البيرا. ولكن، كما نستشف من خطاب أمادوري إليها، فإنَّ هذا المسعى أثبت فشله بالقدر نفسه الذي بلغه سابقه.
وبحلول صيف عام 1504 كان ليوناردو على استعداد لتركيب رسوماته التمهيدية الصغيرة ونماذجه الطينية في لوحة واحدة من الحجم الكامل على الكارتون، مرسومة وملونة على مزيج الأوراق المعلقة في إطار بحجرة الطعام بدير القديسة ماريا نوفيلا. وفي يونيو أحضر خباز يدعى جيوفاني دي لاندينو "88 رطلاً من الطحين المنخول...لتغليف الكارتون". ومن الصيدلية وصلت 28 رطلاً من الرصاص الأبيض السكندري، و36 رطلاً من صودا الخبز، ورطلان من الجصّ، والتي طلبها ليوناردو جميعاً من أجل العمل على اللوحة. كما تم الدفع لأحد الحدادين نظير الدبابيس الحديدية والحلقات والعجلات من أجل "عربة ليوناردو"- "il carro di Leonardo": منصة أخرى، هذه المرة على عجلات، لتمكنه من التحرك حول المساحة الكبيرة من اللوح الكارتوني.
------------------------------------------------
ليوناردو دافنشي: رحلات العقل
تأليف: تشارلز نيكول
ترجمة: أميمة حسن قاسم
محاولة استعادة شيء من ليوناردو الإنسان هي مهمة هذا الكتاب- ذلك هو، ليوناردو الإنسان الحقيقي، الذي عاش في وقت حقيقي، وأكل أطباقاً حقيقية من الحساء، مقابل ليوناردو الرجل الخارق، متعدد التخصصات.
بتكليف ورعاية من الشاعر الإماراتي محمد أحمد السويدي، وبدافع من حب المعرفة والسعي لنشرها قامت القرية الإلكترونية بتوفير هذه النسخة من كتاب ليوناردو دافنشي: رحلات العقل | تأليف: تشارلز نيكول | ترجمة: أميمة حسن قاسم
وسوف نقوم بنشرها على حلقات تباعاً هنا في جوجل بلس نأمل أن تحوز إعجابكم وأن تكون مساهمة في #نشر_المعرفة
صفحتنا الرسمية في فيس بوك :
منصتنا في جوجل بلس لمتابعة باقي مشروعاتنا
(جميع الحقوق محفوظة)
No comments:
Post a Comment