ليوناردو دافنشي: رحلات العقل
5-خريف في إيمولا
بينما يسْحِّب الصيف أذياله متراجعاً، حلّ إل فالينتينو ببلاطه المتنقل في بلدة إيمولا، وهي عبارة عن حصن صغير على الطريق الروماني القديم بين بولونيا وريميني. وسوف تكون مقراً شتوياً له، وإن كان الحصن منيعاً فربما يجعله مقراً دائماً. هنالك خرائط أرضية للحصن بين أوراق ليوناردو، وكذلك بعض القياسات المكتوبة: كان عمق الخندق 40 قدماً، وعرض الأسوار 15 قدماً- قياسات حيوية في عالم بورجيا الحافل بالكر والفر.
هنا، في أول نهار اليوم السابع من أكتوبر عام 1502، وصل نيكولو ميكافيللي، الذي بعث مرة أخرى ليساوم الدوق المارق. وهو رجل نحيل وشاحب اللون ذو ابتسامة خفيفة، ميكافيللي- إل ماكيا، كما كان يناديه أصحابه، Macchia اللطخة أو البقعة، لم يك بعد مشهوراً، وكان بالكاد كاتباً، ولكنه كان معروفاً بدقته واتقاد قريحته. لقد كان في الثالثة والثلاثين من العمر، ذا حظ من العلم ونافذ ذا علائق مع علية القوم، بيد أنّه لم يك غنياً. وكان قد مرّ بسني سقوط آل ميديتشي العاصفة، وعاصر دولة سافونارولا الدينية، وكان سكرتيراً للمستشارية الثانية، وهو منصب مؤثر بخلاف افتقاره للبريق والفخامة، ويبلغ راتبه 128 فلوريناً ذهبياً. كان موظفو المستشارية من سلك الخدمة المدنية بالضرورة، يتم تعيينهم من قبل مجلس الشعب للمحافظة على استمرارية الأنشطة الدبلوماسية والسياسية بينما يتم تداول المناصب الرسمية عبر الانتخاب. كان ميكافيللي هو الجندي المجهول، كاتب الخطابات الرسمية، حارس البوابة الإعلامية، والمعني بحلّ المشاكل السياسية بشكل متزايد. لقد أنصف نفسه حقاً في المفاوضات مع لويس الثاني عشر في عام 1500، عندما طلب الدعم الفرنسي المستمر في حرب الاستنزاف الفلورنسية ضد بيزا، وقد وجدت تأملاته حول المهمة الدبلوماسية التي امتدت لستة أشهر متضمنة في كتاب الأمير.
ظل ميكافيللي ثلاثة أشهر في بلاط إل فالانتينو. تخللت رسائله من إيمولا مناشدات بالتوجيه بعودته إلى فلورنسا. لقد قبل المهمة بعد تلكؤ، متوقعاً أنّ تحفها المخاطر، والمُنغِصات، وكان لا يعرف لها هدفاً ولا معنى. الدوق، كما كان يشير إليه دائماً، كان رجلَ عمل لا قول: وقد اشتهر بمقولته "الكلام بخسٌ"- ولكن الكلام كان كل هو كل ما يستطيع ميكافيللي تقديمه له. فقد كان سفير فلورنسا ولسانها المبين، ولكنه لم يعط تفويضاً بالتوقيع على أية اتفاقية. لقد تم تجاهل مناشداته بإعادته إلى فلورنسا. وكان مجلس الشعب يريده هناك، ليخبرهم عن "آمال الدوق". أما زوجته المشاكسة مارييتا، والتي تزوجها في السنة السابقة، فقد اشتكت مرّ الشكوى من غيابه.
حتى إنّ وصوله إلى إيمولا تزامن مع أخبار اندلاع ثورة في معاقل بورجيا من قبل حلف من القادة الساخطين- من بينهم فيتيلوتسو فيتللي، الذي أطلق شرارة الثورة في أريتسو- وخلع الملوك المحليين مثل دوق أربينو. سخر بورجيا من مجلس حربهم في ماجيوني: " مجلس المهزومين". وقال، ببلاغة لم تفت على ميكافيللي، " تحترق الأرض تحت أقدامهم، ويعوزهم لإخمادها ماءٌ لا يمكنهم ورده."
في اليوم الحادي عشر من أكتوبر هاجم قلعة فوسومبروني التي أسقطها الثوار قبل بضعة أيام ونهبها. ولابد أنّ ليوناردو، بصفته مهندسًا عسكريًا يعمل لحساب الدوق، كان حاضراً حينها على الأرجح. وفي مذكرة حول القلعة في مخطوطة أتلاتنتكس يقول: " لاحظ أن ممر الهروب لا يؤدي مباشرة إلى القلعة الداخلية، بل إنَّ الزعيم سوف يكون في موقع أقوى كما حدث في فوسومبروني."
لقد تم في إيمولا تجسيد أحد نقوش التأريخ الصغيرة اللاذعة: توغلت ثلاثة من أسماء النهضة العظيمة في أحدى قلاع سهول رومانيا العاصفة، وقد كان يبدو أنَّ كلًا منها يراقب الآخرين بحذر نصفه إعجاب والنصف الآخر ارتياب قلِق.
ويبدو أنّ هنالك علاقة حميمة قد ربطت بين ليوناردو وميكافيللي: سوف نجدهما مرتبطين ببعضهما في عدد من المشروعات الفلورنسية المعينة خلال السنة القادمة- المشاريع التي تشير إلى أنَّ ميكافيللي يقدّر مهارات ليوناردو كمهندس وكفنان. ونحن لا نعلم شيئاً عن تفاصيل تعاملاتهما في إيمولا: فاسم ليوناردو لم يرد في برقيات ميكافيللي. وربما كان هذا صمتاً دبلوماسياً: كان ميكافيللي يعرف أنّ شفرة برقياته ستُفك وستقرأ قبل مغادرتها إيمولا، وأنّه ربما لم يكن يريد أن يتسبب في خسارة ليوناردو لمنصبه اللطيف نوعاً ما كفلورنسي في خدمة سيزار، فاحتمال أنّ ليوناردو كان متخفياً هناك غير بعيد رغم كل شيء. عليه كتب ميكافيللي في الأول من نوفمبر أنّه، بحديثه إلى أمين سر بورجيا، كان أغوبيتو أحدهم، ثم تحقق مما استقاه بالتحدث مع "مصدرٍ آخر مطلّع على أسرار الزعيم". وفي الثامن من نوفمبر تحدث مع صديق "مجهول" كان تحليله لنوايا سيزار "جدير بالاهتمام". ومن المعقول هنا أنّ المصدر غير المعّين هو ليوناردو وفي الحالتين كلتيهما.
وقد حصلنا من وجود ليوناردو في هذا المشهد العنيف للقوى السياسية على عمل جميل يتمثل في خارطته لمدينة إيمولا. وهي مليئة بالتفاصيل وملوّنة برقة، لقد كانت توصف بأنّها "أدق وأجمل خارطة في زمانها". وقد نجت صفحة من الرسومات التمهيدية الكروكية للخارطة، كثيرة الطيات، وقد كتبت عليها مقاييسها الطبيعية كما لو أنّه كان يمشط شوارع إيمولاً قياساً بخطوته حاملاً هذه الورقة في يده.
خارطة إيمولا، 1502
كانت خرائط ليوناردو هي الثمار الحقيقية لرحلات العام 1502 الدؤوبة. كانت من بينها خارطة رائعة بزاوية نظر الطائر لوادي شيانا(لوحة 17). وفي الخرائط الحديثة ما يمت بكبير صلة للمنطقة الوسطى الواقعة بين أريزو وشيوزي، وبعيداً عن هذه المنطقة تغدو المقاييس أكثر افتراضيةً. (استنزفت-مذّاك- مياه البحيرة- لاغو دي شيانا- التي تظهر طويلة في مركز الخارطة). ونجد بقايا الخاتم الشمعي على ظهر الخارطة حول الأطراف: ربما تم استخدامه لتثبيت الخارطة على حائط أو لوح. وقد تمت كتابة أسماء القرى والأنهار بنص تقليدي من اليسار إلى اليمين، ومرة أخرى يشير هذا الشيء إلى أنَّ الخارطة كانت مستخدمة لعرضها على جهة ما. وهنالك احتمال كبير أنّها رسمت لصالح بورجيا، لكنْ هنالك احتمال مغاير بأنّها قد رُسمت بعد بضع سنين كجزء من الخرائط المعدة لتغيير مجرى نهر آرنو. ويظهر في ورقة مقواة بوندسر رسم للمنطقة الوسطى هذه بزاوية عين الطائر، تم فيها إدراج المسافات بين عدد من البلدات في المناطق المجاورة، وقد علِّمت هذه المسافات ما يدل على أنّ ليوناردو اعتبرها مرجعاً عند رسم الخارطة النهائية. وهنالك ورقة أخرى تبين الطرق والغدران حول كاستيليوني ومونتسيكو بدرجة من التفصيل عظيمة، وتقدير بعض المسافات بالذراع الذي يفترض أنّ أداة قياسه كانت ذراع ليوناردو نفسه.
وقد رُسمت خارطة أخرى بوضع اتجاه الشمال ناحية يسار الورقة بذات الطريقة التي كانت عليها خارطة وادي شيانا، ولكنها بمقياس أكبر، يظهر فيها إقليم وسط إيطاليا بجميع أنهاره، والتي تشمل ساحل المتوسط من شيفيتافيشيا وحتى لا سبيزيا، على طول 170ميلاً تقريباً، كما تمتد إلى الجهة المقابلة حتى ساحل الإدرياتيكي عند ريميني. ويبدو من هذه الخرائط أنّ ليوناردو قد استند إلى خارطة مخطوطة تعود إلى عام 1470 والتي كانت آنذاك في المكتبة بأوربينو، ولكنه قام بتحويلها باستخدام ظلال الكونتور، خلافاً لما كان سائداً من "مبالغة" في رسم الخرائط في القرن الرابع عشر، ومما أضفى عليها المزيد من الموضوعية في بيان التضاريس. وقد تسنى لليوناردو دراسة الخارطة في أوربينو في أواخر شهر يوليو من عام 1502. ويدعم هذا فكرة أنّ هذه الخرائط قد صنعت في سياق عمله مع بورجيا، وربما جرى رسم بعضها فعلياً في مدينة إيمولا.
أصيب ميكافيللي بالمرض. وكتب في يوم 22 نوفمبر من إيمولا: " ساءت حال جسدي بعد إصابتي بالحمى الشديدة قبل يومين." وفي اليوم السادس من شهر ديسمبر كرر طلبه لاستدعائه، " حتى أوفر على الحكومة هذه النفقات، وعلى نفسي المشقة، إذ أنني وعلى مدى الاثني عشر يوماً السابقة أشعر بالإعياء الشديد، وأخشى إن استمر الحال على ماهو عليه أن أعود على نقالة."
تفاوض بورجيا مع المتمردين: صلح زائف. ثم كتب ميكافيللي في يوم 26 من شهر ديسمبر متجهماً من سيسينا، " عُثر صباح اليوم على السيد ريمينو ملقىً في الميدان وهو مقطوع إلى نصفين، ما يزال مرمياً هناك، ليتمكن الجميع من رؤيته." بجانبه مدية مدماة، وووتد خشبي، كما يفعل الجزارون لبقر جثث الحيوانات. لم يكن ريمينو أو راميرو دي لوركا ثائراً، بل كان سفاحاً موالياً جلب عليه حكمه الوحشي الكراهية وبالتالي أُهدر دمه. " ما زال السبب وراء موته غامضاً" أضاف ميكافيللي، " عدا أنّ ذلك يسعد الأمير، الذي يرينا أنّه يستطيع أن يهب الملك وينزعه من الرجال كل بما هو أهل له."
وفي صباح 31 ديسمبر دخل بورجيا سينيغاليا. وبذريعة الصلح التقى هناك بزعماء عصابات التمرد: فيتيلوزو فيتيللي، وأوليفروتو دا فيرمو، والإخوة آل أورسيني. ولكن لم يكن الاجتماع سوى مصيدة. فتم اعتقال المتمردين وتكبيلهم: تم تجريد جنودهم المشاة المعسكرين خارج أسوار البلدة من أسلحتهم. وخربش ميكافيللي في ذلك المساء رسالة رائعة:" استمر إخلاء المدينة رغم أنّ الساعة الآن قد شارفت على الحادية عشرة. إنّني مشغول الفكر جداً. لا أعرف إن كنت سأستطيع إرسال هذه الرسالة فليس لدي من يحملها، لأنّي أرى أنّه لن تشرق عليهم شمس الغد وفيهم ذو روح." لقد كان على حق، إلى حد ما: لقد تم خنق فيتيلوزو واوليفروتو تلك الليلة، أما الإخوة آل أورسيني فقد بقوا أحياء لبضعة أسابيع بعدها، ثم خُنقوا في قلعة بييفي. هل كان ليوناردو هو الآخر حاضراً في سيسنا وسينيغاليا عندما استبدل راعيه العدالة بسكين الجزار والمخنقة ؟ لا يُستبعد ذلك.
في الأسابيع الأولى من عام 1503 استولى إل فالينتينو على بيروجيا وسيينا. وتشير التعليقات المقتضبة في مفكرة ليوناردو إلى أنّه كان معه في سيينا. لقد أعجب بجرس الكنيسة الهائل، الذي يبلغ قطره 10 أذرع، ويطلق العنان لنفسه فيتذكر "أنّ طريقة حركة الجرس واصطفاقه كانت محكمة". ومرة أخرى كانت ملاحظاته رقيقة، وهادئة، وانصرافية: لقد كان ينظر في الاتجاه الآخر. وفي العشرين من شهر يناير، وأثناء حصار سيينا، استقبل ميكافيللي المبعوث الفلورنسي الجديد- جاكوبو سالفياتي، وودع إل فالينتينو وليوناردو، وانطلق عائداً إلى فلورنسا، وهو على قناعة بأنّه شهد نموذجاً جديداً للقيادة السياسية يمتاز بالحسم، والوضوح، والقسوة، وبعيدة كل البعد عن الدين والأخلاق. وبعد عشر سنوات، كتب في "الأمير" عن بورجيا:
إن كنت لألخص كل أعمال الدوق لما عرفت كيف السبيل إلى لومه. على العكس، لقد بدا لي ضرورة تقديمه، كما فعلت كنموذج لجميع من وصلوا إلى الحكم عن طريق الحظ وعلى أكتاف الغير. لأنّه لولا ذلك لما استطاع أن يصبح ماهو عليه."
قَدِم بورجيا إلى روما في شهر فبراير عام 1503، ليحادث أبيه المريض، البابا إلكساندر السادس. ربما ذهب ليوناردو معه، ولكنه إن فعل فلابد أنَّ الزيارة كانت قصيرة، لأنّه عاد إلى فلورنسا في مطلع شهر مارس.
كان القرار بترك العمل مع بورجيا- إن كان الأمر بيده- لا يخلو من حكمة؛ فقد وصلت ثروات بورجيا إلى أوجها، وذلك لأنّه وبوفاة أبيه في الثامن عشر من أغسطس عام 1503، انفرطت قاعدة سلطته الأساسية المستندة على النفوذ البابوي. ورفض البابا الجديد يوليوس الثاني الاعتراف به دوقاً على رومانيا، وطالبه بالتراجع عن الأراضي التي ضمها إلى سلطانه. ثم أعقب ذلك قصة طويلة من الاعتقال والهرب، والأعمال المناهضة للسلطة البابوية في نابولي، والموت المبكر في اسبانيا في عام 1507، في مهمة له كقاتل مأجور في الثلاثين من عمره أو نحو ذلك.
------------------------------------------------
ليوناردو دافنشي: رحلات العقل
تأليف: تشارلز نيكول
ترجمة: أميمة حسن قاسم
محاولة استعادة شيء من ليوناردو الإنسان هي مهمة هذا الكتاب- ذلك هو، ليوناردو الإنسان الحقيقي، الذي عاش في وقت حقيقي، وأكل أطباقاً حقيقية من الحساء، مقابل ليوناردو الرجل الخارق، متعدد التخصصات.
بتكليف ورعاية من الشاعر الإماراتي محمد أحمد السويدي، وبدافع من حب المعرفة والسعي لنشرها قامت القرية الإلكترونية بتوفير هذه النسخة من كتاب ليوناردو دافنشي: رحلات العقل | تأليف: تشارلز نيكول | ترجمة: أميمة حسن قاسم
وسوف نقوم بنشرها على حلقات تباعاً هنا في جوجل بلس نأمل أن تحوز إعجابكم وأن تكون مساهمة في #نشر_المعرفة
صفحتنا الرسمية في فيس بوك :
منصتنا في جوجل بلس لمتابعة باقي مشروعاتنا
(جميع الحقوق محفوظة)
No comments:
Post a Comment