Sunday, March 17, 2019

ليوناردو دافنشي: رحلات العقل - 3 - الماركيزة اللحوح





ليوناردو دافنشي: رحلات العقل
3-الماركيزة اللحوح

لدى عودته إلى فلورنسا بعد تلك الزيارة الخفيفة لروما، عاد ليوناردو إلى كنيسة البشارة المقدسة، وفي بداية أبريل 1501 فكان لديه اجتماع مع رجل الكنيسة النافذ الأخ بيترو نوفيلارا، نائب عموم الكرمليين، الذي أتى حاملاً طلبات تكاد تكون قاطعة من إيزابيلا دا إيستي. ودورُ نوفيلارا الوجيز كحامل رسالة الماركيزة؛ هو فَتحُ نافذة جديدة على ظروف وانشطة ليوناردو، وفي الحقيقة على ذهنيته أيضاً في فلورنسا عام 1501. والقصة بسيمائها العجيبة من كرٍ وفرٍ تُحكى من خلال الخطابات الثلاثة المترجمة هنا بكاملها للمرة الأولى. 
إيزابيلا دا إيستي إلى الأخ بيترو نوفيلارا، مانتوفا، 29 مارس 1501
المحترم جداً
إن كان بالإمكان العثور على ليوناردو الفلورنسي الرسام هناك في فلورنسا، فنحن نلتمس إليك التعرف على أوضاعه، وما إذا كان قد بدأ في أي عمل، إذ أنني سمعت أنَّ لديه تكليفاً، وماهية هذا العمل، وما إذا كنت تتوقع أن يظل هناك لبعض الوقت. ومن ثَمَّ يا سيدي الموقر إن استطعتم-بأية طريقة-  معرفة ما إذا كان يقبل تكليفنا برسم صورة لدراستنا: إن كانت لديه الرغبة، فسوف نفوضه في اختيار موضوع الصورة ووقت التسليم. وإن وجدت منه مطالاً وتلكؤاً فيمكنك على الأقل محاولة إقناعه بأن يرسم لي صورة للسيدة العذراء، بذلك الأسلوب الذي يتسم بالعذوبة والورع والذي هو نتاج موهبته الفطرية. هل يمكنك سؤاله أن يتعطف علينا بإرسال رسم آخر للوحة التي رسمها لنا، لأنَّ سيادة زوجنا قد أهدى اللوحة التي كانت لدينا. فإن استطعت إنجاز جميع ما طلبت سأكون ممتنة لك جداً، ولليوناردو ذاته على ما حباني به. ...

الأخ بيترو نوفيلارا إلى إيزابيلا دا إيست: فلورنسا 3 أبريل 1501
السيدة الفاضلة الماجدة
أثناء الأسبوع المقدس هذا عرفت شيئاً مما يزمع الفنان ليوناردو القيام به، وذلك عن طريق تلميذه سالاي وبعض من المقربين الآخرين، وللتأكد من نواياه فقد أحضروه إليَّ في يوم الأربعاء المقدس [7 أبريل]. باختصار لقد ألهته تجاربه في الرياضيات كثيراً عن الرسم إلى حد أنّه لم يعد قادراً على إبقاء فرشاة الرسم في يده طويلاً. ولقد أحطناه علماً برغباتك ووجدنا فيه توقاً شديداً لتلبيتها، نظير ما أظهرتموه من عطف تجاهه في مانتوفا. 
لقد أخذنا راحتنا في الحديث، ووصلنا إلى هذه النتيجة- أنّه سيخدم سيادتكم أكثر من أي شخص آخر في العالم إن استطاع التحلل من التزامه تجاه سمو ملك فرنسا بطريقة ودية لا تنتقص من احترام الأخير في غضون شهر من الزمان على الأكثر حال جرت الأمور وفق ما يأمل. وعلى أية حال، حالما أكمل اللوحة الصغيرة التي يرسمها لأحد الأشخاص في روبيرتيه، من خاصة ملك فرنسا، فسوف يشرع في رسم الصورة وإرسالها إلى معاليكم. لقد منحته عملتين تذكاريتين تشجيعاً له[dui boni sollicitadori]. والصورة الصغيرة التي يعمل عليها هي السيدة العذراء وقد جعلها تجلس كمن تستعد للغزل، والطفل قد وضع قدمه في سلة الغزل، والتقط المغزل، ويحدق بشدة في القضبان الأربعة التي تتخذ شكل صليب، ويقبض عليه بشدة وهو يبتسم كما لو أنّه كان يتوق لهذا الصليب، ولا يريد أن يسلمه لوالدته، التي يبدو أنّها تريد انتزاعه منه. هذا هو جل ما استطعت الظفر به منه. قمت بالأمس بإلقاء خطبتي، فليمنحنا الله بركتها ويجعل ثمارها بكثرة من استمعوا إليها.

تقدم لنا هذه الخطابات لمحة من ليوناردو النجم العصي المنال. وقد تم تدبير اللقاء من خلال سالاي، باعتباره سكرتيره الشخصي. وقد عومل رجل الدين بتهذيب ومراوغة. فقد "جُلب" إليه ليوناردو وقد وصلا إلى "خلاصة"، ولكنه عندما يكتب لسيادتها يجد أنَّ ثمار الاجتماع فوق كل ذاك لم تكن وفيرة: هذا جُلُّ ما استطعت الظفر به منه". 

سيدة المغزل (نسخة ريفورد)، بريشة ليوناردو ومساعديه، 1501-4
ولقد علمنا أيضاً عن ظروف ليوناردو: أنّه قد سئم الرسم، "ولم يعد قادراً على ملازمة الفرشاة"، وأنّه يمضي وقته على الدراسات الرياضية والهندسية، ومازال متأثراً بلوكا الباكيولي (الذي سرعان ما سيُشاهد هو الآخر في فلورنسا). ونجد تأكيداً لتعاملات ليوناردو مع الفرنسيين، والتي يفترض أنّها بدأت قبل مغادرته ميلانو، لأنّه يصف نفسه بصاحب "الالتزام" تجاه الملك لويس. ومن الصعب معرفة ما كان هذا الالتزام: ربما هو ليس أكثر من الرسم الذي يستطرد نوفيلارا في وصفه، والذي هو لأحد "خواص" الملك، السيد فلوريموند روبرتيه.  وربما كان نوفيلارا يبالغ قليلاً في ما يخص التزام ليوناردو: فهو حريص على ألا يعطي انطباعاً برفض ليوناردو الصريح تلبية رغبات الماركيزة. 
"الصورة الصغيرة" التي كان يعمل عليها ليوناردو في أوائل عام 1501 كانت هي سيدة المغزل. واللوحة معروفة في عدة نسخ: اثنتان منها يعتقد أنّ المعلم قد ساهم فيهما بريشته وكلاهما من المجموعات الخاصة، وهما المعروفتان بريفورد وبوكليوش، بيد أنّ الأولى في الحقيقة لم تعد ضمن مجموعة ريفورد في مونتريال، بل ضمن مجموعة خاصة في نيويورك، والأخيرة – حتى كتابة هذه السطور لم تعد معلقة على مقعد دوق بوكليغ في حجرة الدرج بقلعة دراملانريغ ، ، والتي تعرضت للسرقة في شهر أغسطس من عام 2003 من قبل لصين تنكرا في هيئة سائحين.   ويبين شريط قناة CCTV التلفزيونية عملية نقل اللوحة تحت معطف أحد الرجلين بينما يسيران تجاه سيارة بيضاء اللون، الشيء الذي يعيد إلى الأذهان عملية سرقة الموناليزا من متحف اللوفر عام 1911، والتي غادرت فيها المعرض تحت رداء العامل فيسينزو بيروجيا. هذه السرقات تتسم بأسلوب الاختطاف- وفي الحقيقة أبقى بيروجيا الموناليزا حبيسة في غرفته لسنتين مخبأة في صندوق تحت الموقد، الشيء الذي يعد أشبه بالخطف منه بالسطو. ووصف نوفيلارا للوحة دقيق في إيجاز، ولكنه عجيب في إيراده تفاصيل "سلة الغزل" لدى قدم الطفل، وهو الشيء الذي لم يوجد في أي من النسخ المعروفة. ولم تكشف المسوحات التي أجريت بواسطة الأشعة الحمراء وتحت الحمراء عن أي أثر لذلك، بيد أنَّ الاختبارات التي خضعت لها لوحة ريفورد لم تكشف عن أي غطاء واضح- سقف ذي سقف مسطح غريب وباب أو نافذة طويلة في الواجهة تقع في وسط المسافة إلى يسار رأس السيدة العذراء.  
وقد تم وضع هذا اللون ليصبح جزءاً من المنظر الضبابي الرائع للنهر والصخر الذي يمتد حتى الجبال الجليدية الزرقاء على البعد. وفي هذا المشهد يتوقع المرء أن يرى رعشة رائعة أخرى من الموناليزا. فهنالك في الحقيقة صدى دقيق: في كلا المنظرين، جسر مقوس يمتد حتى أدنى مجرى النهر (لوحة 22). وقد تم التعرف عليه فهو جسر بوريانو، بالقرب من أريزو وهي منطقة سافر ليوناردو إليها بالفعل ورسم خارطة لها في صيف 1502. 

الأخ بيترو نوفيلارا إلى إيزابيلا دا إيستي، 14 أبريل 1501
وتصميم أيقونة المغزل تبدو أصلية بالنسبة لليوناردو، بيد أنّها جزء من تقليد المسيح الطفل الذي يتأمل رموز آلامه المستقبلية، كما في لوحات ليوناردو الفلورنسية الأولى حيث كانت الرموز هي الزهور- القرنفل الأحمر الدموي للوحة ميونخ العذراء والطفل، وبقلة الماء المرة على شكل الصليب في لوحة عذراء بينوا. فليوناردو يضفي نبرة نبوية بالدراما الفريدة في لوحاته، وقوة الحضور اللحظي- انسياب حركة الطفل، والذي يبدو محتجزا في لحظة أشبه بلحظة نشوة الهاجس التراجيدي. قولبة الشخصيات كانت مثالية: وهذه هي أول اللوحات الشخوصية المعروفة منذ اكتمال العشاء الأخير قبل أربع سنوات،  وهي تستمر في تصوير الإيماءات المهمة بتلك الطريقة الماهرة والدقيقة: الاقتراحات العقلية. ولا يستطيع أي من هذا تغيير شعور المرء بأنَّ اللوحة تتبختر على حافة الخضرة: فمن بين جميع أعمال ليوناردو الذاتية؛ تقترب هذه من "العاطفية المتضخمة" للأسلوب "الليوناردي". وتمد السيدة العذراء يدها لتعكس وضعية يد السيدة العذراء في لوحة سيدة الصخور، بيد أنّ تلك الحركة لم تعد هي الإيماءة المعروفة للبركة، فالوجه قد تغير. الفتاة الممشوقة القوام في تلك المغارة المسحورة ازدادت لحماً وشحماً، فاتسع وجهها، وأصبحت أقل تديناً. لقد تلاشت البراءة.
في يوليو عاودت الماركيزة الهجوم. لقد أرسلت خطاباً شخصياً إلى ليوناردو، وقد ضاع الآن. تم تسليمه إليه من قبل أحد وسطائها الآخرين، أحدهم مانفريدو دي مانفريدي، كما يبدو من تقرير الخطاب إلى إيزابيلا المؤرخ في 31 يوليو 1501:
لقد سلمت الخطاب الذي أرسلتموه سيادتكم إلى ليوناردو الفلورنسي بيدي. ولقد أخبرته أنّ باستطاعته إرسال خطابه إليك عبري إن أراد وبذلك أعفيه من تكاليف البريد، وقد قرأ خطابك، وقال إنّه يريد تلبية أمرك، لكن لم أسمع منه شيئاً آخرَ، وقد أرسلت أحد رجالي أخيراً إليه ليعرف منه ما يود أن يفعل. لقد أرسل إليَّ مجيباً بأنّه الآن ليس في وضع يسمح له بإرسال ردٍ آخر لسيادتكم، لكنْ يجب علي أن أحيطكم علماً بأنّه شرع بالفعل في العمل الذي أردتم أن ينفذه لسيادتكم. باختصار، هذا هو أقصى ما استطعت الحصول عليه من المدعو ليوناردو. 
للمرء أن يتعاطف مع مانفريدو، العالق بين طلبات إيزابيلا التي لا ترفض، ومطال ليوناردو العنيد.  والصورة التي"طلبتها إليه" سيادتها ربما كانت إما لوحة شخصية تضيفها إلى مرسمها، والذي تتحدث عنه في خطابها إلى نوفيلارا. ويؤكذ مانفريدو لها بأنَّ ليوناردو قد بدأ بالفعل في العمل عليها قبل ما يربو على السنة. فهنالك شيء ما مشجعُ في عزلة ليوناردو، فهو يرفض الرقص على نغمة الرعاية. هو ليس في حاجة ماسة: لقد تم تعويضه بسخاء عن البشارة، وعند "مقابلة نفقاته" من خزائن الخدمة الواسعة، كان لديه تكليفٌ، وربما وعود أخرى من البلاط الفرنسي.  فقد رغب في إشباع اهتماماته الأخرى في الحياة: وذلك لأنّ الحساب والهندسة يعدانه بالوصول إلى "اليقين الأعظم"، والعلوم الميكانيكية والتقنية والتي أصبحت تعبيء صفحات مخطوطة مدريد ببطء، ومن أجل الحلم الرائع بالطيران والذي لم يفارق مخيلته  قيد أنملة-  السفر من "عنصر إلى آخر"، السفر بعيداً عن كل هذا الهذر. 
وفي 19 نوفمبر 1501 سحب خمسين فلوريناً أخرى من مدخراته في سانتا ماريا نوفا.  وفي مايو 1502، عقب طلب آخر من إيزابيلا، قام بمشاهدة وتقييم بعض المزهريات العتيقة التي كانت ضمن مقتنيات آل ميديتشي في السابق. " لقد عرضها على ليوناردو الرسام" - قالت وهي تكتب إلى فرانسسكو مالاتيستا، وهو وكيل آخر لها، في 12 مايو. " لقد امتدحها جميعاً، لا سيما الكريستالية منها، لأنّها كانت من قطعة واحدة وفي غاية الصفاء..وقال ليوناردو أنّه لم ير قطعة أفضل منها أبداً."                   
وبين هذه الملاحظات العارضة الموثقة للحياة اليومية للفنان، بين زيارته للمصرف ومعاينة معرض تاجرة التحف، يقع يوم ذو دلالة أكثر شخصية وأكثر غموضاً: بلغ ليوناردو الخمسين من العمر في 15 أبريل 1502.


------------------------------------------------
 ليوناردو دافنشي: رحلات العقل
تأليف: تشارلز نيكول
ترجمة: أميمة حسن قاسم
محاولة استعادة شيء من ليوناردو الإنسان هي مهمة هذا الكتاب- ذلك هو، ليوناردو الإنسان الحقيقي، الذي عاش في وقت حقيقي، وأكل أطباقاً حقيقية من الحساء، مقابل ليوناردو الرجل الخارق، متعدد التخصصات.
بتكليف ورعاية من الشاعر الإماراتي محمد أحمد السويدي، وبدافع من حب المعرفة والسعي لنشرها  قامت القرية الإلكترونية بتوفير هذه النسخة من كتاب ليوناردو دافنشي: رحلات العقل | تأليف: تشارلز نيكول | ترجمة: أميمة حسن قاسم
وسوف نقوم بنشرها على حلقات تباعاً هنا في جوجل بلس نأمل أن تحوز إعجابكم وأن تكون مساهمة في #نشر_المعرفة
صفحتنا الرسمية في فيس بوك :
منصتنا في جوجل بلس لمتابعة باقي مشروعاتنا 
(جميع الحقوق محفوظة)

No comments:

Post a Comment