ليوناردو دافنشي: رحلات العقل
4-بورجيا
كان آخر ما سمعناه عن ليوناردو هذه السنة هو وصول آرائه إلى حول تحف آل ميديتشي فرانسسكو مالاتايستا في مايو 1502. وعاد إلى الترحال مرة أخرى في أوائل الصيف؛ فقد صار يعمل لحساب شخص جديد: سيزار بورجيا، الابن غير الشرعي للبابا إلكساندر السادس، المعروف بمكره وقسوته، تجسيداً لأمير ميكافيللي. وقد أحاطت بعائلته حكايات الفسوق وسفاح القربى: فأخته الصغرى لوكريزيا بورجيا كانت سيئة السمعة بصفة خاصة. كان بعض هذه الحكايات أسطورياً والبعض الآخر لا. مثل الأسمر، ولكن بدرجة أكبر، فلم يكن بورجيا راعياً للمحترمين. وقد اعتقد فرويد بأنَّ هؤلاء الرجال الأشداء الذين كان كان ليوناردو منجذباً إليهم ليسوا سوى بدائل لأبِ طفولته الغائب.
كانت عائلة بورجيا- في الأصل بورجا- أسبانية الأصل (وقد كانت مصارعة الثيران واحدة من إنجازاته الفظيعة). في 1492 اعتلى الكاردينال رودريغو بورجا العرش البابوي باسم الكساندر السادس، في عمر الستين، وكان فاجراً وقد كرّس حياته بشكل تام لتنشئة أطفاله غير الشرعيين. وهنالك صورة له بريشة بنتوريكيو حيث يظهر رجلاً متهدلاً أصلعَ في رداءٍ فخم راكع في تكلف أمام أيقونة مقدسة.
وقد قال عنه جيكيارديني:" ربما كان أكثر شراً وأحسن حظاً من جميع البابوات الذين سبقوه...لقد كان يجمع بين كل موبقات الجسد وشرور الروح بأقصى درجاتها". ولم يكد جيكارديني الفلورنسي أن يكون محايداً في رأيه هذا، بيد أنّ هنالك من شاركوه الرأي.
كان سيزار ابناً لرودريغو من عشيقته الرومانية، جيوفانا أو فانوتسا كاتاني. وقد ولد في عام 1476، وولدت لوكريزيا من نفس الأم بعد أربع سنوات. وكان قد رُسِّم كاردينالاً في عمر السابعة عشرة، بيد أنّ أحد زوار قصره في تراستيفيري وجد أنَّ أسلوبه قد يوحي بأي شيء سوى الكنسية. " لقد كان مستعداً للذهاب في رحلات الصيد، وهو يرتدي زيّاً علمانياً من الحرير، وفي كامل عدته الحربية. لقد كان ذكياً وفيه جاذبية، وهو يتقمص شخصية أمير عظيم. لقد كان رشيقاً ومرحاً واجتماعياً. لم يكن لهذا الكاردينال أيُّ ميل تجاه الكهنوتية، ولكنه يكسب من منصبه ما يربو على 16000 دوكات بالسنة". وفي 1497 عُثر على أخيه الأصغر جيوفاني يطفو على مياه نهر التيبر وهو مذبوح: مستهل سلسلة من الاغتيالات التي تشير أصابع الاتهام فيها إلى سيزار. وقد قيل إنّ سيزار قد حسد أخيه على نفوذه العلماني (كان دوقاً على غانديا)، بينما لم يمنح هو سوى المناصب الكنسية. وفي 1498 "تخلى عن البزة القرمزية" في سبيل أن يصبح قائداً عاماً للكنيسة، وبالتالي قائداً للكتائب البابوية.
ساوم في فرنسا على تحالف بين البابا والملك الجديد، لويس الثاني عشر. وفي 1499 تزوج من شارلوت دي البرت، التي تربطها والملك لويس صلة قرابة من الدرجة الثانية، وأصبح بالتالي دوقاً على فالينسية، ومن هنا اكتسب لقبه الإيطالي إل فالينتينو، والذي اشتهر به بين معاصريه. وفي تلك السنة شارك إلى جانب لويس الثاني عشر في القوة الفرنسية التي اجتاحت إيطاليا، ودخلت ميلانو. وربما كانت تلك هي المرة الأولى التي رآه فيها ليوناردو. وكان شعاره، يحمل اسمه الامبراطوري :"Aut Caesar aut nullus" " إما قيصر أو لا أحد".
كانت الخطة التي وعده لويس بتقديم الدعم العسكري لها، هي غزو رومانيا وهي إقليم مترامي الأطراف ولا يتبع لحاكم معين يقع إلى الشمال من روما التي كان تتبع إسمياً إلى سلطان البابا ولكنها كانت تحكم فعلياً من خلال أمراء وأساقفة مستقلين.
قام بورجيا خلال الأشهر القليلة التي تلت الحملة بتشكيل قاعدة للقوات في وسط إيطاليا، بمعزل تام عن القوات الفرنسية، فحوّل ببراعة ذلك الإقليم الخرِب، إلى "مديرية" عرفية كما وصفها ميكافيللي لاحقاً.
وبنهاية عام 1500 كان قد فرض سيادته على إيمولا، وبيسارو، وريميني، تشيزينا. وقد سقطت فاينزا في قبضته في ربيع 1501، الشيء الذي خوّله للسيطرة على طريق فلورنسا التجاري الرئيسي للبحر الإدرياتيكي. وتقدم بورجيا الآن متبجحاً بلقبه الجديد دوق رومانيا ليهدد فلورنسا نفسها. فقامرت الجمهورية على امتعاض لكسب بورجيا كمرتزق إلى صفها بأجر سنوي يبلغ 30000 دوكات- وهو التفاف من الجمهورية حول ما كان بالأساس دفعاً بالمال مقابل الحماية.
انثنى بورجيا ناحية ساحل بحر طرانة(يعرف أيضاً بالبحر التيراني)، حيث ضم إلى سلطانه ميناء مدينة بيومبينو.
ثم هدأت الأمور لفترة، إلى أن وصلت أنباء مزعجة في بداية صيف عام 1502. ففي الرابع من شهر يونيو ثارت مدينة أريزو فجأة على الحكم الفلورنسي، وأعلنت انحيازها إلى بورجيا. بعد بضعة أسابيع، وفي واحدة من ضرباته الخاطفة غير المسبوقة، انتزع بورجيا أوربينو، طارداً منها حليفه السابق غويدوبالدو دا مونتيفيلترو. وسرعان ما تم إرسال فرانسسكو سوديريني، أسقف فولتيرا، كمبعوث فلورنسي إلى بورجيا في أوربينو، ورافقه الموظف المدني الثلاثيني اللامع نيكولو ميكافيللي.
وروى ميكافيللي مقابلته مع بورجيا في رسالة بتأريخ 26 يونيو. لقد حل الظلام، وغُلِقت أبواب القصر، وانتشر عليها الحراس، كان الدوق في مزاج حاد، يطلب "ضمانات واضحة" للنوايا الفلورنسية. " أعرف أن مدينتكم مثقلة القلب حيالي، ولكنها ستتخلى عني مثلما تفعل مع قاتل، فإن لم تقبلوا بي صديقاً فسوف تعرفوني كعدو." فتمتم المبعوثون بالإيجاب وطلبوا انسحاب قوات الدوق من أريزو.
كان الجو مكهرباً في توتر. وذُيّلت رسالة ميكافللي بنبرة من الرعب الساحر.
كان هذا الدوق يراهن بأنّه لا يوجد شيء أعظم بالنسبة إليه من أن يُخسر. فقد حرم نفسه في سبيل المجد وتوسيع نفوذه من الراحة، لم تثنه المصاعب ولا الأخطار. ولقد كان يصل إلى المكان المعين قبل أن يعرف أي شخص آخر أنّه غادر الآخر، لقد فاز بولاء جنوده، فهو يجذب إليه أفضل الرجال في إيطاليا، وكان الحظ الحسن حليفه على الدوام. ولهذه الأسباب جميعاً كان مظفراً وعظيماً.
عاد ميكافيللي إلى فلورنسا بحلول نهاية ذلك الشهر. ولم يمض وقت طويل قبل وصول الأخبار بأنّ الدوق "العظيم" قد استولى على كاميرينو، ويتجه ببصره صوب بولونيا.
كان هذا هو السياق الذي دخل فيه ليوناردو في خدمة سيزار بورجيا في صيف عام 1502. لم يكن بورجيا عدواً رسمياً لفلورنسا، ولكنه كان جاراً خطراً وغير مأمون الجانب. وقد امتد سلطانه بالفعل حتى بيزا، ولم يتوقع الفرنسيون مقاومته إن قرر مهاجمتهم، فقد تنبه الفرنسيون الآن إلى هذا البارون الجديد المتعطش للسلطة والذي يعتبر صنيعتهم إلى حدٍ ما، وهو يعد فلورنسا بالمال والجنود، لكنه لم يكن ممن يُعتمد عليهم. وقد كانت لعبة التقارب، تكتيكاً فلورنسياً لحظياً ليس إلا: فقد كان الحفاظ على شعرة معاوية معه، شراً لا بد منه، "للتعرف عليه جيداً" بحسب التعبير السائد في عصر النهضة. نحن لا نعرف كيف ومتى بالضبط دخل ليوناردو في خدمة بورجيا، ولكن من الجائز أنّ خدماته عُرضت على بورجيا من قبل سوديريني وميكافيللي- عرض للمساعدة التقنية التي هي الأخرى لا تخلو من جانب استخباراتي. بالنسبة لبورجيا الذي كان يجذب إليه "أفضل الرجال في إيطاليا"، ويعتبر ليوناردو مهندساً عسكرياً ماهراً، وبالنسبة للفلورنسيين فهو زوج من الأعين والآذان- "رجلنا في بلاط إل فالينتينو."
ويمكن تتبع حركات ليوناردو بمساعدة كتيب الجيب الذي حمله معه خلال هذا الصيف، مخطوطة باريس ل، على الرغم من أنّ التسلسل الزمني لم يكن واضحاً على الدوام. وفي الصفحة الأولى من الدفتر نجد قائمة من الملاحظات التي تبين جمعه لبعض الأدوات الضرورية- بوصلة، حامل سيف بمنطقة، نعال لحذاء طويل، طاقية خفيفة، "حزام سباحة"، وصدرية جلدية. وأيضاً "كتاب بورق أبيض للرسم" وبعض الفحم. وهنالك قائمة أخرى ببنود على صفحة غير مثبتة موجودة الآن ضمن صفحات مخطوطة أرونديل، وهي تعود للفترة الزمنية ذاتها على الأرجح. وتبدأ بعبارة "أين فالنتينو؟" (يستحضر المرء تعليق ميكافيللي حول عمليات بورجيا الخاطفة كالبرق: إنه يصل إلى "مكان معين قبل أن يعرف أي شخص آخر أنّه غادر الآخر".) وتشتمل هذه القائمة على بند "sostenacolo delli ochiali"، والذي قد يكون إما إطاراً لنظارات أو دعامة لجهاز بصري يستخدم في رسم الخرائط والمساحة. (إن كان الأول فهذا أول دليل على ضعف بصره الذي أصبح مشكلة في آخر سني حياته.) وتذكر القائمة شيخاً فلورنسيا بعينه، وذكر الدبلوماسي فرانسسكو باندولفيني مرة أخرى يشير إلى السمة شبه الرسمية لمغامرة ليوناردو مع بورجيا. وصل ليوناردو إلى أوربينو في أواخر يوليو 1502، ولكن طريقه هناك كان متعرجاً- جولة سريعة خلال أجزاء متعددة من سلطنة بورجيا المبعثرة: رحلة بحث. أخذته أول خطوة فيها إلى ساحل البحر المتوسط، إلى بيومبينو، ثم معقل جديد لبورجيا، وهو الآن بلدة صغيرة يعبرها السياح بسرعة للوصول إلى العبّارة البحرية المتجهة إلى جزيرة إيلبا. وقد تعلقت ملاحظاته بتحصينات المدينة وسعة الميناء. وهنالك ملاحظة حول حركة الأمواج سجلت على أنّها " ما يفعله البحر في بيومبينو". يظهر في بعض الرسومات التمهيدية الشاطيء حول بوبيولونيا، ما يدل على أنّه سافر عبر الطريق الساحلي من ليفورنو. ويدخل من بيومبينو إلى البر شرقاً إلى أريزو الواقعة تحت سيطرة المتمردين، حيث التقى ربما فيتيللوزو حليف بورجيا للمرة الأولى. ومن ثم يقود الطريق إلى مرتفعات الأبينيني، حيث يجمع بعض البيانات الطبوغرافية التي سوف تظهر لاحقاً في الخرائط التي رسمها للإقليم. ويجوز أنّه رأى الجسر الخماسي الأقواس الرائع الذي يمتد فوق نهر آرنو عند بوريانو، وصخور المداخن المكدسة، والبالزي التي يتسم بها الجزء الأعلى من وادي آرنو من لاتيرينا إلى بيان دي سكو. وقد أُثير جدل حول إمكانية رؤية هذا الجسر وهذا المشهد الطبيعي في خلفيات لوحة السيدة العذراء والمغزل، والموناليزا. فالتوازي البصري بينهما قوي جداً، والتوقيت صحيح، بيد أنَّ الجبال التي تظهر في المناظر الطبيعية التي رسمها ليوناردو (وأولها يبدأ من لوحة سيدة الإكليل في 1474) هي في رأي الكثيرين توليفة بين الحقيقة والخيال.
وفي أربينو، في القصر المنيف ذي اللون العسلي في مونتيفيلترو، يلتقي مرة أخرى بالدوق ذي الجاذبية: لقدت انقضت ثلاث سنوات تقريباً منذ أن رآه آخر مرة في ميلانو، وقد تركت السنون بصماتها على وجهيهما. ويرسم ليوناردو في دفتره المصغر سلالم القصر ويلاحظ أنّ هنالك برجَ حمام جميلاً. هذه الملاحظات اللطيفة العرضية المجنونة والمذهلة: هنالك الكثير مما نود معرفته حول الشهور التي أمضاها في بلاط بورجيا، ولكنه لا يقول إلا القليل جداً. باستثناء استعلامه "أين الفالنتينو؟"، لم يذكر بورجيا (أو "بورجيز" كما كان يكتبها) سوى في الملاحظة التي تتعلق بإحدى المخطوطات: "سوف يجلب لي بورجيز كتاب أرخميدس عن أسقف بادوفا، وفيتيلوتسو صاحب بورجو دي سان سيبولكرو." هذه المخطوطات غنائم حرب: نهب فكري. رسم بالطبشور الأحمر لرجل ملتحٍ غزير الحاجبين، يظهر من ثلاث زوايا، هو على الأرجح صورة شخصية لبورجيا.
صورة شخصية بالطبشور الأحمر بريشة ليوناردو يعتقد أنّها لسيزار بورجيا
نيكولو ميكافيللي في صورة شخصية بريشة شانتي دي تيتو في القصر القديم
لم يطل اجتماعهما كثيراً، لأنّ بورجيا رحل شمالاً إلى ميلانو في شهر يوليو ليؤكد صداقته السابقة مع لويس الثاني عشر. ربما كان ليوناردو يأمل أن يذهب معه، لكنه لم يفعل. وبدلاً عن ذلك- وفقاً لتعليمات خاصة دون شك، انطلق في جولة سريعة حول أراضي بورجيا الشرقية. ويمكن إعادة جمع مسار الرحلة من عدة ملاحظات موجزة ومؤرخة:
30 يوليو- "برج الحمام في أوربينو"
1 أغسطس- "في المكتبة في بيسارو".
8 أغسطس- " أصنعُ توليفات منسجمة من عدد من مساقط المياه المختلفة كما رأيتها في ريميني في اليوم الثامن من أغسطس"
10 أغسطس- " في احتفال سان لورينزو في شيزينا"
15 أغسطس- " في عيد القديسة ماري في منتصف أغسطس في شيزينا".
كان يستخدم دفتره المصغر في شيزينا، عاصمة رومانيا، أكثر شيء. فالمكان مفعم بالصور، والأزياء بشكل خاص. وقد تم وصف رسم لنافذة، " نافذة في يشزينا: صنع لها إطار من القماش، النافذة صنعت من الخشب، الاستدارة في أعلاه تساوي ربع دائرة." وفي مكان آخر يرسم خطافاً بعنقودين من العنب- "هذه هي طريقة حمل عناقيد العنب في شيزينا"- ويلاحظ بعين فنان، أنّ العمال الذين يحفرون الخنادق المائية ينظّمون أنفسهم على شكل هرم. لقد لاحظ وجود نظام اتصالات ريفي: "الرعاة في إقليم رومانيا، على سفح الابينيني، يصنعون مغارات عظيمة في الجبال على شكل قرن، ويضعون قرناً حقيقياً في جزء منها، ويندمج هذا القرن الصغير مع التجويف الذي صنعوه، فيحدث صوتاً هائلاً." الأرض مسطحة: إنّه يدرس جدوى طواحين الهواء، التي ما زالت مجهولة في إيطاليا. وينتقد تصميم العربات المحلية التي تجرها الجياد، وهي ذات عجلتين صغيرتين في المقدمة، واثنتين مرتفعتين في الخلف: هذا التصميم غير مستحب لقوة الدفع، لتركز وزن كبير على العجلتين الأماميتين". فيثير هذا العيب السخرية على الإقليم البدائي المفكك: إقليم رومانيا هو "capo d'ogni grossezza d'ingegno""زعيم أكبر مملكة للحمقى". النغمة ليست مثالية، فمزاجه سيء.
في 18 أغسطس 1502 تم رسم وثيقة موشاة بصورة رائعة-جواز سفر ليوناردو. مؤشر في بافيا، عندما كان بورجيا في البلاط الفرنسي.
سيزار بورجيا الفرنسي، بنعمة من الله دوق رومانيا وفلنسية، أمير الأدرياتيك، سيد بيومبينو..وغيرها، أيضاً نائب وقائد عام الكنيسة الرومانية المقدسة، وجميع ملازمينا، وحراسنا، وقادتنا، ومليشياتنا، وجنودنا وسائر من يُقدم له هذا الإخطار. لقد أمرنا وأصدرنا تعليماتنا بأنَّ حامله، هو معماريّنا الأكثر تميزاً والمحبوب، والمهندس العام ليوناردو فينشي، والذي فوضناه بمسح المكان وتحصين ولاياتنا، ويجب أن يقوم بذلك وتُكفل له جميع المساعدات التي يتطلبها الأمر وجميع ما يراه هو الصواب.
يعطي المستند ليوناردو الحرية للتنقل في مناطق نفوذ بورجيا، وجميع نفقاته "مدفوعة له ومن أجله"-ويجوز لنا أن ندخل توماسو وسالاي في هذه الصيغة. فيجب أن "يقابل بود، ويسمح له بالمعاينة والقياس والمساحة الدقيقة لما يريد." والمهندسون الآخرون "يمنعون من الاختلاف معه ويمتثلون لرأيه." إنّه مستند يبرز لدى الحواجز على الطرق ونقاط التفتيش، والعسس المرتابين وحراس القلعة كتذكير بالأخطار هناك على حدود إقطاعية بورجيا الجديدة.
مسلحاً بتلك الصلاحيات، انخرط ليوناردو في العديد من أعمال التحصينات في شيزينا وبورتو تيشزيناتيكو على الإدرياتيكي. وهنالك رسم يظهر فيه الميناء الأخير والقناة ويعود إلى 6 سبتمبر 1502، في الساعة التاسعة صباحاً. ثم يعود بورجيا من ميلانو، وتبدأ الحملات مرة أخرى. وتشير إحدى ملاحظات مخطوطة أتلانتكس إلى أنّ ليوناردو كان حاضراً عند الاستيلاء على فوسومبروني في الحادي عشر من أكتوبر. وهنالك نقش ينبض بالحياة في كتاب كميات القوى لمؤلفه لوكا باكيولي تقدم لنا لمحة عن ليوناردو في رحلته مع قوات بورجيا:
في أحد الأيام وجد سيزار فالنتينو، دوق رومانيا والحاكم الحالي لبيومبينو، نفسه وجيشه أمام نهر بعرض 24 خطوة، وليس من جسر، ولا ما يُصنع به جسرٌ، عدا كومة من الخشب قُطعت جميعها بطول 16 خطوة. ومن هذا الخشب وبدون استخدام حديد ولا حبال ولا أية بناء، صنع مهندسه النبيل جسراً قوياً بما يكفي ليعبر الجيش من فوقه.
لقد قُربت القياسات لحبك مسألة رياضية، لكن ربما كانت القصة حقيقية. فلا بد أنّ مهندس بورجيا "النبيل" هو ليوناردو، ومن المفترض أنّه راوي القصة الأصلي: وهو وباكيولي كانا معاً في فلورنسا عام 1503.
وقد اتسمت هذه الفترة بالنشاط والحركة. فآثار ليوناردو بين هذه البلدات المحتلة والمدن، وتلك القلاع والحصون، والأميال الطويلة بين هذه وتلك، والثكنات، ورحلات الفجر، والاستظلال من شمس الظهيرة. لقد رمى بنفسه في عالم من العمل التقني البدني: القياس بالخطوة، وتسجيل التيارات، وفحص التحصينات- ومبدأ التجربة الحية، وربعيته ونظّاراته، ودفتر ملاحظاته.
يستشعر المرء هنا قلة الصبر ناهيك عن رغد الحياة الحضرية في العشرين سنة الأخيرة، والتي – كما بدا له الأمر- بدأ فيها الكثير من الأمور ولكنه لم ينه سوى القليل. مرة أخرى يجد المرء ليوناردو الذي ينصح الفنان بأنْ "يغادر منزله في المدينة"، و"ترك عائلته والأصدقاء والخروج إلى الجبال والوديان" و" أن يترك نفسه تصطلي بحرّ الشمس". ولكننا أيضاً نشك بأنّ خدمة ليوناردو لبورجيا قد رافقها شغف عميق بطبيعة رئيسه، والتدمير والعنف الذي كان يساهم في انتشاره بصفته مهندساً عسكرياً محبوباً لدى بورجيا. فالحرب هي "ذلك النوع من الجنون الأكثر وحشية على الإطلاق"، كما كتب ليوناردو مرة. وأثناء هذه الشهور من عام 1502 شهد منها ما شهد عياناً. وبالتالي فإنَّ تلك التلميحات اللحظية في دفتر يومياته، مبتورة من ناحية ومكتملة بذاتها- برج الحمام، نافورة، عنقود من العنب، أو تلك الملاحظات التي تقول ببساطة، " أنا هنا في هذا اليوم"، وربما كان يشوبها ذلك الشعور بالخطر الذي يتسرب إلى كل شيء يضع بورجيا يده عليه، "ما زلتُ حياً".
------------------------------------------------
ليوناردو دافنشي: رحلات العقل
تأليف: تشارلز نيكول
ترجمة: أميمة حسن قاسم
محاولة استعادة شيء من ليوناردو الإنسان هي مهمة هذا الكتاب- ذلك هو، ليوناردو الإنسان الحقيقي، الذي عاش في وقت حقيقي، وأكل أطباقاً حقيقية من الحساء، مقابل ليوناردو الرجل الخارق، متعدد التخصصات.
بتكليف ورعاية من الشاعر الإماراتي محمد أحمد السويدي، وبدافع من حب المعرفة والسعي لنشرها قامت القرية الإلكترونية بتوفير هذه النسخة من كتاب ليوناردو دافنشي: رحلات العقل | تأليف: تشارلز نيكول | ترجمة: أميمة حسن قاسم
وسوف نقوم بنشرها على حلقات تباعاً هنا في جوجل بلس نأمل أن تحوز إعجابكم وأن تكون مساهمة في #نشر_المعرفة
صفحتنا الرسمية في فيس بوك :
منصتنا في جوجل بلس لمتابعة باقي مشروعاتنا
(جميع الحقوق محفوظة)
No comments:
Post a Comment