ليوناردو دافنشي: رحلات العقل
4-الطــــــوفان
وعندها تحدث الرعد....
ت. اس. إليوت، الأرض المقفرة
هنالك ثلاث كلمات مكتوبة بخط ليوناردو على ظهر رسم تجسّد الملاك، وهي مكتوبة في الأصل بالطبشور الأحمر، ثم خط عليها بالطبشور الأسود أو الفحم الذي استخدمه على الرسم في الجهة الأخرى وهي:
Strapen
Bronten
Ceraunobolian
قائمة عجيبة عبارة عن كلمات إغريقية ثلاث تعني "إيماض البروق"، و"العواصف"، و"الصواعق". وهي تتعلق بوصف بليني للشجاعة الاسطورية التي كان يتحلى بها الرسام الأغريقي ابيليس، الذي استطاع "تصوير ما يستحيل تصويره"، وتحديداً مثل تلك الظواهر الجوية.
وكثيراً ما وضع ليوناردو في مقارنة مع ابيليس في القصائد المدح، وذكره بإعجاب كأحد من قاموا برسم "الخيال المحتشد بالمعاني العظيمة"، والآن وفي المراحل الأخيرة من مهنته كرسام، نجده يتأمل القوة السحرية للفنان، أو الرسام لالتقاط تأثيرات الطبيعة الشاردة والعصية على التعبير في إثارة عنيفة- العواصف والشدّة.
وكثيراً ما كان ليوناردو ينجذب لدراما العواصف. تلك الجزئية منذ أولى سنوات حياته حول المغارة تبدأ بالفعل بوصف عاصفة ما- " تهب رياح لولبية بسرعة من خلال وادٍ رملي عميق، تتسارع حركتها وهي تبتلع في جوفها كل ما يعترض طريقها الغاضب". وفي مفكرته التي تعود إلى أوائل تسعينيات القرن الخامس عشر هنالك قطعة حول "كيفية تصوير عاصفة".
ينبغي عليك في البداية رسم السحب مبعثرة ومقطعة، تسير مع الرياح، وتختلط بسحب الرمال التي تهب من ساحل البحر، وقد تطايرت الأوراق والأغصان في الهواء أيضاً وسط الأشياء الخفيفة الأخرى التي تتطاير هنا وهناك..وبينما ترمي الرياح بزخات من مياه البحر، ويتحول شكل الهواء العاصف إلى ضباب خانق وكثيف".
في هذه الأوصاف ثمة حس للقوى الموجهة والتيارات الداخلة في تشكيل الصورة، والمواد المختلفة التي تتحرك عبرها في مختلف الاتجاهات، وهي دلالات لقوى العاصفة الخفية. لقد لمحناه في ساحل بمبينو الذي جرفه المطر، يدرس الآلية المعقدة للكسارات الساحقة. وفي مرة أخرى بالقرب من فلورنسا، حيث شاهد تأثير إعصار ما وهو مذعور.
تضرب دوامات الهواء العائدة المياه وتزيحها فتصنع فجوة عظيمة، ثم ترفعها في الهواء على شكل عمود بلون السحاب. لقد رأيتها وأنا على الشاطيء الرملي لنهر آرنو. كان الرمل قد انجرف إلى عمق يفوق طول الإنسان، وقد ابتلعت الدوامة الرمل والحصى وقذفتهما كتلاً مبعثرة في مساحة واسعة. وقد بدت في الهواء على شكل برج جرس كبير، و تمددت قمتها مثل فروع شجرة صنوبر عملاقة.
وهنالك توثيق آخر لإعصار أو عاصفة في مذكرة تعود إلى عام 1508: " لقد رأيت حركات الهواء وهو يعصف حتى إنّها اقتلعت في هبوبها أسقف لقصور هائلة ورمت بها بعيداً."
والآن وهو في روما يعود بكثافة إلى "ضراوة" حركات التدويم هذه، ويخط سلسلة من الكتابات والرسومات حول موضوع "الطوفان". وهي جميعها تمثل إضافات لملف من نوع ما: فهي جزء من أطروحة التلوين التي كان ينوي كتابتها منذ البداية، أو ربما تمثل أفكاراً للوحة فعلية للطوفان المذكور في الإنجيل. فهنالك ما يقارب نصف دزينة من النصوص حول هذا الموضوع، تعود جميعها إلى حوالي عام 1515. كان أطولها الذي امتد على صفحتي إحدى أوراق ويندسور، وهو مفصّل في قسمين اثنين تحت عنوانيّ: " وصف الطوفان" و" كيف نصوره في لوحة". كان الأسلوب فخماً وبليغاً، كما كان دائماً في مثل هذا النوع من المواضيع. وهنالك فقرة بعنوان "الأقسام"، فيها خلاصة لمكونات العاصفة حسب أسلوب ليوناردو. فهي تبدأ بالطبيعة- الفيضانات، الحرائق، الزلازل، الدوامات،...الخ.- ثم يركز بعدها على الأبعاد الإنسانية للكارثة:
الأشجار المكسورة محملة بالناس. ركام السفن المحطمة يرتطم بالصخور. قطعان الخراف، وقطع البَرَد، والصواعق، ودوامات الهواء. الناس على الأشجار التي لم تعد قادرة على حمايتهم، احتشد الناس على كل مرتفع: الأشجار، الصخور، الأبراج، والتلال، القوارب والطاولات والسلال وكل وسائل الطفو. اكتست التلال بمناظر الرجال والنساء والحيوانات والبرق من بين السحب يضيء كل شيء.
هذه الصور الذهنية للاجئين، والزوارق المؤقتة، وقطعان الخراف في العاصفة الثلجية، تشير إلى تخطيط للوحة من مقاس كبير أو جدارية جصّية. وكذلك المذكرة الأخرى المعنونة ب"تصوير الطوفان" والتي تقول:" سوف يرى نبتون في وسط المياه برمحه ثلاثيّ الشعب، وايولو برياحه التي تهتز من شدتها الأشجار." ولكن إن كان هنالك مشروع مزعوم لتجسيد طوفان نوحٍ مروع يضاهي يوم الدينونة على حائط كنيسة سيستين لمايكل آنجلو فقد آل إلى العدم.
أو ربما تمخضت عنه "رسومات الطوفان" (لوح 27)، والتي في مجموعها تشكل تحفته الأخيرة. هنالك سلسلة من عشر رسومات بالطبشور الأسود في حجم موّحد على ورق أبيض (6×8 بوصات). وهي متفجرة، مختلجة، تتعرج فيها حركات القلم وتشتد لتعبر عن تدويمات متقلبة من الطاقة، والمياه المقذوفة بفعل الطرد المركزي، وانفجار الصخور المتطايرة. ما الذي يُعرض هنا تحديداً؟ ربما كنا ننظر إلى طوفان كارثي تفصله عنا مسافة زمنية فلكية في الماضي، أو إلى صاعقة انشطار نووي مستقبلي، بسحابته التي تحاكي فطر عيش الغراب، وتداعياته. إنّها علمية في أحد جوانبها: جزء من بحث ليوناردو في "أعمال الطبيعة الرائعة". إنّها اختبار له: ليصوّر بدقة- الشيء الذي يعني بالضرورة أن يفهمه بدقة- ميكانيكية الثورة، وأن يعتبرها نمطاً ما يتسم بالقوة والمرونة، مثل الأنماط الهندسية المتكررة لنظرية الفوضى.
ويجوز للمرء أن يقول إنّها محاولات لتشريح عاصفة ما. وهي أيضاً تخبرنا أنّ الفشل يحدق بالمحاولة. وتتحدث أيضاً عن تصنيفات مكنونة في تركيبات ذهنية خادعة، جُرفت في "طوفان" القوة المدمرة هذا.
وتبلغ الرسومات من القوة أن تتفجر من الورق تفجراً؛ فيمكنك استشعار الحدث الطبيعي من مكوناتها- الفجاءة، التوتر، عنف الإشارات، وأحياناً يكون من السهل أيضاً استشعار الأحداث الذهنية [accidenti mentali]، والتي تشبه اندفاع الاضطراب العقلي وفوضى الأفكار: عاصفة ذهنية. تتسم بعض الرسومات بقدرتها على إحداث الهلوسة، كما لو أنّه كان يمر بنوع من الابتلاءات الشامانية الباطنية. ولكن وبينما تواصل النظر إليها وفيها، يخال إليك أنّ فيها أيضاً نوعاً من السلام، فتصبح فاتنة، تتحلل مجالات قوتها منحنية الأضلاع إلى أشكال تشبه الماندالا . ومرة أخرى يراودك شعور بسطح الرسومات: علامات من الطبشور الأسود على ورق أبيض خشن، تشابكات، حلم يستردُ من الهاوية مرة أخرى.
------------------------------------------------
ليوناردو دافنشي: رحلات العقل
تأليف: تشارلز نيكول
ترجمة: أميمة حسن قاسم
محاولة استعادة شيء من ليوناردو الإنسان هي مهمة هذا الكتاب- ذلك هو، ليوناردو الإنسان الحقيقي، الذي عاش في وقت حقيقي، وأكل أطباقاً حقيقية من الحساء، مقابل ليوناردو الرجل الخارق، متعدد التخصصات.
بتكليف ورعاية من الشاعر الإماراتي محمد أحمد السويدي، وبدافع من حب المعرفة والسعي لنشرها قامت القرية الإلكترونية بتوفير هذه النسخة من كتاب ليوناردو دافنشي: رحلات العقل | تأليف: تشارلز نيكول | ترجمة: أميمة حسن قاسم
وسوف نقوم بنشرها على حلقات تباعاً هنا في جوجل بلس نأمل أن تحوز إعجابكم وأن تكون مساهمة في #نشر_المعرفة
صفحتنا الرسمية في فيس بوك :
منصتنا في جوجل بلس لمتابعة باقي مشروعاتنا
(جميع الحقوق محفوظة)
No comments:
Post a Comment