قصة سان ميشيل لأكسِل مونتي
ترجمة: علي كنعان
الحلقة رقم (17)
XVIII
السلبيتريير( 1)
لم أنقطع إلا نادرا عن حضور دروس الثلاثاء الشهيرة للبروفيسور شاركو في السلبيتريير، وهي مكرسة يومئذ بصورة رئيسة لتاريخه العظيم وللتنويم المغناطيسي. كان المدرج الفسيح ممتلئا حتى آخره بجمهور متنوع قادم من باريس بأسرها، كتاب، صحفيون، كبار الممثلين والممثلات، والمتأنقات بزي نصف عالمي، وهم مفعمون بفضول مرضي ليشهدوا الظواهر المدهشة للتنويم المغناطيسي الذي كاد ينسى من أيام مسمير وبريد. ولقد تعرفت إلى غي دو موباسان أثناء إحدى هذه المحاضرات، وكان ذا شهرة واسعة جراء "كرة الشحم" و"بيت تيليير". لقد اعتدنا أن نخوض في أحاديث لا تنتهي عن التنويم المغناطيسي وكل أنواع الاضطرابات العقلية، ولم يمل قطّ من المحاولة أن يسحب مني الشيء القليل الذي أعرفه عن هذه الموضوعات. وكان يريد أن يعرف أيضا كل شيء عن الجنون، فقد كان يجمع حينئذ مادة لكتابه المرعب "الهورلا"، صورة أمينة عن مستقبله المأسوي ذاته. ورافقني مرة في زيارة عيادة البروفيسور برنهايم في نانسي التي فتحت عيني على مغالطات مدرسة السلبيتريير في ما يتعلق بالتنويم المغناطيسي. وأقمت في ضيافته أيضا مدة يومين على متن يخته. وأتذكر جيدا سهرتنا طوال الليل ونحن نتحدث عن الموت في الحجرة الصغيرة لـ"بل آمي" لدى رسوه خارج ميناء أنتيب. كان خائفا من الموت. وقال إن فكرة الموت لم تغادر عقله إلا نادرا. كان يريد أن يعرف كل شيء عن مختلف السموم، سرعة تأثيرها وميزتها النسبية في عدم الألم. وكان يسألني بإلحاح خاص عن الموت في البحر. وأعلمته باعتقادي أن الموت في البحر بلا طوق نجاة هو موت سهل نسبيا، وربما كان أفظع موت ممكن مع طوق النجاة. وأستطيع الآن أن أراه يركز عينيه الكئيبتين على أطواق النجاة معلقة على باب القمرة قائلا إنه سيرميها من المركب في الصباح التالي. وسألته إن كان ينوي أن يرسلنا إلى قاع البحر خلال رحلتنا الموعودة إلى كورسيكا. وجلس ساكتا بعض الوقت. أخيرا قال: "لا"، وفي تصوره أنه يريد، برغم كل شيء، أن يموت بين ذراعي امرأة. وقلت له إنه في هذه الحالة سيحظى بفرصة مواتية ليرى رغبته محققة. ولما كنت أتكلم صحت إيڤون وطلبت كأسا أخرى من الشامبانيا، وهي شبه دائخة، ثم استغرقت في النوم من جديد، ورأسها في حضنه. كانت راقصة باليه، لم تكد تبلغ الثامنة عشرة، وقد نشأت على مداعبات آثمة من بعض المتسكعين العجائز في كواليس الأوبرا، وهي تنجرف اليوم بلا سند نحو دمار تام على متن "بل آمي" في حضن عاشقها الرهيب. كنت أعلم أن لا طوق نجاة يمكن أن ينقذها، وأعرف أنها سترفضه لو قدمته إليها. وأعلم أنها أعطت قلبها كما أعطت جسدها لهذا الذكر الذي لا يشبع، والذي لا يصلح لأي شيء إلا لجسدها. أعرف ما سيؤول إليه مصيرها، فلم تكن الفتاة الأولى التي أراها نائمة، ورأسها في حضنه. إلى أي مدى كان مسؤولا عن أفعاله، هذا شأن آخر. الخوف الذي كان ينتاب دماغه القلق ليل نهار كان ظاهرا تماما في عينيه، وأنا أعتبره قبل اليوم رجلا محكوما بالهلاك. وكنت أعلم أن السم الزعاف في قصته "كرة الشحم" قد بدأ فعله في تدمير هذا الدماغ الرائع. هل كان يعلم ذلك بنفسه؟ غالبا ما كنت أحسبه على علم بذلك. مخطوطة قصته "فوق الماء" كانت موضوعة على الطاولة بيننا، وقد قرأ لي منها بعض الفصول، وهي في تقديري أفضل ما كتبه حتى الآن. فقد كان ما يزال ينتج بسرعة محمومة رائعة بعد أخرى، شاطرا دماغه المستثار بالشمبانيا والإتير والمخدرات بجميع أصنافها. وقد عجلت في تدميره نساء بعد نساء في سلسلة لا تنتهي، نساء مجلوبات من جميع الأحياء، من فوبورغ(2 )سان جرمان إلى الشوارع، ممثلات، راقصات باليه، فتيات متاجر، مخمورات، وحتى بغايا مبتذلات – وقد اعتاد أصحابه أن يسموه "الثور الحزين". كان فخورا بنجاحه إلى أقصى حد، ويتحدث دائما عن سيدات من الطبقة العليا ملفوفات بالأسرار يأتي بهن إلى شقته في شارع كلوزيل خادمه المخلص فرانسوا – أول أمارات جنون عظمته. وغالبا ما اعتاد أن يندفع صاعدا درجات شارع ڤيليير ليجلس في زاوية من غرفتي متطلعا إلي بصمت وبتلك النظرة المرَضيّة الثابتة من عينيه، وهي نظرة أعرفها جيدا. وغالبا ما اعتاد أن يقف ليحدق إلى نفسه في المرآة فوق رف المدفأة وكأنه يحدق إلى غريب. وأخبرني في أحد الأيام أنه كان جالسا يكتب مستغرقا في عمله على روايته الجديدة فإذا به يفاجأ برؤية غريب يدخل مكتبه بالرغم من يقظة خادمه. جلس الغريب إلى الطرف المقابل له من طاولة الكتابة وراح يملي عليه ما كان يهم بكتابته. وكان على وشك أن يدق الجرس لفرانسوا ليطرده حين رأى، وقد غشيه الرعب، أن الغريب هو فرانسوا ذاته.
بعد يومين كنت واقفا بجانبه في كواليس الجراند أوبرا أراقب الآنسة إيڤون تراقص الأربعة، وتبتسم خلسة لعاشقها وعيناه المتقدتان لا تفارقانها. وفي وقت متأخر كنا نتناول العشاء في الشقة الأنيقة الصغيرة التي أخذها موباسان لها. أزالت الحمرة عن وجهها، فصعقت أن أرى كم كانت شاحبة ومرهقة بالمقارنة مع أول مرة رأيتها في اليخت. أخبرتني أنها تتناول الإتير دائما حين ترقص، ولا شيء ينعشني مثل الإتير، ورفقاؤها كلهم يأخذون الإتير، وحتى السيد مدير فرقة الباليه ذاته – وبالفعل رأيته يموت به بعد سنوات في دارته الريفية في كابري. وشكا موباسان أنها صارت أنحل مما ينبغي وهي تجعله يقظان في الليل من جراء سعالها الذي لا يتوقف. وفحصتها في الصباح التالي بطلب منه، وكان ثمة علة خطرة في قمة إحدى رئتيها. قلت لموباسان أنها بحاجة إلى راحة تامة، ونصحته أن يرسلها شتاء إلى منتون. قال موباسان إنه يرغب بأن يعمل من أجلها كل ما يستطيع، وهو فوق ذلك غير مولع بالنساء النحيفات. لكنها رفضت بصراحة أن تسافر، وقالت إنها تفضل أن تموت ولا تتركه. ولقد سببت لي الكثير من القلق خلال الشتاء والكثير من المرضى الجدد. وأخذت رفيقاتها يترددن واحدة بعد أخرى إلى شارغ ڤيليير ليستشرنني خلسة، مخافة أن يخفض طبيب الأوبرا القانوني أجرتهن إلى النصف. كانت كواليس فرقة الباليه عالما جديدا علي، لا يخلو من خطر على المستكشف الغر، للأسف، وليس فقط على أولئك العذارى الحاملات أـكاليل شبابهن إلى مذبح الإلهة تيربسيكور( 3). ومن حسن حظي أن إلهة رقصهن طردت من أولمبي مع التوترات الأخيرة لباليه غلوك شاكون وموزارت مينويه، وما تبقى لعيني اليوم ألاعيب بهلوانية خالصة وبسيطة. ولم يكن الأمر كذلك مع المتفرجين الآخرين في الكواليس. ولم أتوقف أبدا عن التعجب من تلك البساطة التي فقد بها أولئك العجزة توازنهم في باليه دون جوڤاني وأنا أشاهد هؤلاء الفتيات أنصاف العاريات محافظات على توازنهن وهن على رؤوس أصابع أقدامهن.
أصيبت إيڤون بنزيفها الأول وأصبحت العلة خطرة. وكما هو شأن جميع المؤلفين الذين يكتبون عن المرض والموت، كان موباسان يكره أن يسهر إلى جانبها في المأوى القريب. وقد شربت إيڤون عشرات من زجاجات من زيت كبد القد لكي تسمن، فقد كانت تعلم أن عاشقها لا يحب النساء النحيفات. كان ذلك كله بلا جدوى، وفي الحال لم يبق من شبابها الجميل إلا عيناها الرائعتان لامعتين بالحمى والإتير. بقي جزدان موباسان مفتوحا لها، لكن ذراعيه سرعان ما طوقتا جسد إحدى رفيقاتها. ورشقت إيڤون وجه منافستها بقارورة من الزجاج، ولحسن الحظ أخطأتها قليلا. ولقد نجت مع حبس شهرين، وذلك بفضل تأثير موباسان القوي وشهادة مني تفيد أنها لن تعيش أكثر من شهرين. وحالما خرجت من السجن رفضت العودة إلى شقتها رغم توسلات موباسان. لقد اختفت بين المجهول الضخم في المدينة الواسعة مثل الحيوان المحكوم بالهلاك يختبئ ليموت. وبعد نحو شهر وجدتها بمحض المصادفة في سرير في سان لازار – وهي في المرحلة الأخيرة لدى مأوى كروسيس لجميع النساء الساقطات والمهجورات في باريس. قلت لها إني سأعلم موباسان، وكنت متأكدا أنه سيأتي لرؤيتها حالا. وبعد ظهيرة اليوم ذاته زرت بيت موباسان، فقد كان واضحا أنها لن تعيش طويلا، وما من وقت لإضاعته. كان فرانسوا الأمين في موقعه المعتاد مثل سِربروس( 4)، يحرس سيده ضد أي متطفل. حاولت أن أدخل بلا طائل، كانت الأوامر صارمة، فليس مسموحا بدخول أي زائر، وتحت أي ظرف، وكانت القصة ذاتها عن السيدة المكتنفة بالأسرار. وكل ما استطعت أن أفعل أني خربشت ملاحظة لسيده عن إيڤون، وقد وعد فرانسوا أن يسلمها في الحال. وأنا لا أعرف إن كان استلمها أم لا، وأرجو ألا يكون، لأن من المتوقع تماما أن فرانسوا كان يحاول دائما أن يحافظ على سيده المحبوب بعيدا عن ورطاته مع النساء. ولما جئت إلى سان لازار في اليوم التالي، كانت إيڤون ميتة. وأخبرتني الراهبة أنها أمضت الصباح بطوله وهي تضع الحمرة على وجهها وترتب شعرها، وحتى إنها استعارت من مومس عجوز في السرير المجاور شال حرير أحمر صغيرا، كأثر أخير من بهائها الغابر، لكي تغطي كتفيها النحيلين. وقالت للراهبة إنها تنتظر سيدها، لقد انتظرت طوال اليوم لكنه لم يأتِ قط. وفي الصباح وجدوها ميتة في سريرها، وقد ابتلعت آخر قطرة من حصتها من الكلورال (المنوم).
بعد نحو شهرين رأيت غي دو موباسان في حديقة ميزون بلانش في باسي، في مأوى الأمراض العقلية المشهور. كان يمشي مستندا إلى ذراع خادمه الأمين فرانسوا، وهو يلقي بحصيات صغيرة على مساكب الورد بطريقة الباذر في لوحة ميلليه. وكان يقول: "انظر، انظر. إنها ستنبت جميعا مثل موباسان الصغير في الربيع، ولم يبق إلا أن تمطر".
. . .
وفي ما يتعلق بي، أنا الذي كرست سنوات من وقتي الفائض لدراسة التنويم المغناطيسي، فلم تكن هذه العروض على مسرح سلبيتريير أمام جمهور باريس كلها إلا مهزلة عبثية، خليط مشؤوم من الصدق والخداع. كان بعض هذه المواضيع بلا ريب سرنمات حقيقية تقوم بأمانة في حالة يقظة بتنفيذ مختلف الإيحاءات الموجهة إليهم أثناء النوم – إيحاءات ما بعد النوم. إن العديد منها كان مجرد خدعات، وهم يعرفون تماما ما هو متوقع منهم أن يفعلوه، مبتهجين بأن يقدموا حيلهم المتعددة أمام الجمهور، وهم يخدعون الأطباء والجمهور معا بمكر مدهش من الهستيريا. وهم جاهزون دائما لـ"وخزة هجوم" من الهستيريا الكلاسيكية الكبرى لشاركو، قوس قزح وكل شيء، أو ليعرض أطوار التنويم الثلاثة: النعاس، الإغماء التخشبي، السرنمة، وقد اخترعها المعلم كلها ومن العسير أن تراها خارج السلبيتريير. كان بعضهم يشتمُّ بابتهاج قارورة النشادر، حين يخبر أنها ماء الزهر، وآخرون يأكلون قطعة فحم نباتي حين تقدم لهم كشوكولا. وأخرى يمكن أن تزحف على الأرض بأطرافها الأربع، وهي تنبح بضراوة حين يقال لها إنها كلبة، وتصطفق بذراعيها وكأنها تهم بالطيران حين تتحول إلى حمامة، وترفع تنورتها بزعقة رعب حين يرمى قفاز لدى قدميها بإيحاء أنها أفعى. وأخرى يمكن أن تسير وفي ذراعيها قبعة تهزهزها شمالا ويمينا وتقبلها برقة حين يقال لها إنها طفلها الوليد. التنويم الإيحائي شمالا ويمينا، عشرات المرات يوميا في حالة شبه غشية، وعقولهن مرتبكة بكل أنواع الإيحاءات العبثية، وهن شبه واعيات ولسن مسؤولات بالتأكيد عن أفعالهن، ومحكومات عاجلا أو آجلا بإنهاء أيامهن في قاعات الهياج، إذا لم يكن مأوى المجانين. وفي حين أستنكر هذه العروض الاحتفالية من يوم الثلاثاء في المدرج باعتبارها غير علمية وغير جديرة بالسلبيتريير، فإن من غير الإنصاف ألا أعرف أن ذلك العمل الجدي كان قائما في الأجنحة لاستقصاء العديد من ظواهر التنويم المغنطيس التي ما زالت غامضة. وأنا بذاتي قمت، في ذلك الوقت تماما وبإذن من رئيس العيادة، بإجراء بعض التجارب المهمة في التخاطر والإيحاء بعد التنويم مع واحدة من هؤلاء الفتيات، واحدة من أفضل المسرنمات اللواتي التقيتهن في حياتي.
كان لدي قبل ذلك شكوك مهمة لتصحيح نظريات شاركو التي يقبلها طلابه، معصوبي العيون، والجمهور بلا اعتراض، بوساطة ما لا يمكن أن يوضح إلا بنوع من الإيحاء إجمالا. ورجعت من زيارتي الأخيرة لعيادة البروفيسور بنهايم في نانسي، وأنا غير متيقن ولكني داعم بحزم لما يسمى مدرسة نانسي في الاعتراض على تعاليم شاركو. كان الحديث عن مدرسة نانسي يعتبر في تلك الأيام تصرفا شبه مساس بالجلالة. وكان شاركو ذاته يفور غضبا لدى ذكر اسم البروفيسور بنهايم. وظهرت لي مقالة في "جازيت دي هوبيتو" مستوحاة من زيارتي الأخيرة لنانسي وقد أراها للمعلم أحد مساعديه الذي كان يكرهني بشدة. وبدا أن شاركو لأيام يتجاهل حضوري كليا. وبعد مرور بعض الوقت ظهرت في "الفيجارو" مقالة عنيفة بقلم "إغنوتس"، أحد الصحافيين الكبار في باريس، يستنكر هذه الاستعراضات العامة حول التنويم المغنطيسي، باعتباره مشهدا خطيرا وسخيفا، بلا قيمة علمية، ولا يليق بمعلم السلبيتريير العظيم. كنت حاضرا حين قدمت المقالة لشاركو في حلقة الصباح، وأدهشني ازدراؤه الشديد لمجرد نشر المقالة في صحيفة، وبدا لي أنه كان يفضل تجاهلها. وكان ثمة كثير من الغيرة بين طلابه، وكان لي نصيب كبير منها. من أطلق الكذبة، لا أدري، ولكن سرعان ما أرعبني أن أدرك أن ثمة إشاعة أن "إغنوتس" قد حصل على معظم معلوماته المؤذية مني. ولم يقل لي أبدا شاركو كلمة عنها، لكن موقفه الودي المألوف تجاهي قد تغير من ذلك اليوم. ثم جاءت الضربة، واحدة من أقسى ما تلقيت في حياتي. لقد جهز القدر الشرك، وأنا وقعت فيه مباشرة بدافع من تهوري المعتاد.
في يوم من أيام الأحد، ولدى خروجي من المستشفى، صادفت فلاحين عجوزين جالسين على مقعد تحت أشجار الدلب في الباحة الداخلية. عبقت رائحتهما من الريف، من البساتين، من الحقول وحظيرة البقر، فشعرت برغبة سارة أن أنظر إليهما. سألتهما من أين جاءا وماذا يفعلان هناك. رفع الرجل العجوز يده إلى طاقيته الصوف، وهو في بلوزة زرقاء طويلة، وردت علي المرأة العجوز بقبعتها البيضاء الأنيقة بانحناءة وابتسامة ودية. قالا إنهما وصلا إلى هناك في ذلك الصباح من قريتهما في النورمندي لزيارة ابنتهما التي تشتغل خادمة مطبخ في السلبيتريير منذ أكثر من سنتين. كان عملا جيدا جدا، وقد أخذتها إلى هناك إحدى الراهبات من قريتها وهي الآن تتدرب على الطهي في مطبخ المستشفى. لكن هناك كثير من العمل في المزرعة، ولديهم الآن ثلاث بقرات وستة خنازير، وقد جاءا ليأخذا ابنتهما إلى البيت، وهي فتاة صحية وقوية جدًّا، وهما تقدما في العمر ولم يعودا قادرين على شغل المزرعة وحدهما. كانا متعبين جدًّا من رحلة الليل الطويلة في القطار حتى اضطرا للاستراحة قليلا على المقعد. هل يمكن أن أكون لطيفا وأدلهما أين يقع المطبخ؟ قلت إن عليهما أن يعبرا ثلاث حدائق داخلية ويسيرا في ممرات لا تنتهي، وكان من الأفضل أن آخذهما بنفسي إلى المطبخ وأساعدهما في إيجاد ابنتهما. ويعلم الله كم كان هناك من خادمات طهي في المطبخ الضخم الذي يعد الطعام لما يقارب ثلاثة آلاف فم! توجهنا هرولة إلى جناح المطبخ، ولم تتوقف المرأة العجوز عن إخباري عن بستانهم من التفاح ومحاصيلهم من البطاطا، والخنازير، والأبقار، والجبنة الممتازة التي تصنعها. وأخرجت من سلتها قطعة من الجبنة التي صنعتها لجينيڤييڤ، لكنها ستكون مسرورة جدًّا إذا قبلتها. تطلعت إلى وجهها وهي تناولني الجبنبة.
كم عمر جينيڤييڤ؟
هي في العشرين تماما.
هل هي جميلة وذات مظهر حسن؟
أجابت الأم العجوز ببساطة: "أبوها يقول إنها تبدو شبيهة بي تماما".
وأومأ الرجل العجوز برأسه موافقا.
سألت بارتعادة لاإرادية وأنا أنظر من جديد بإمعان إلى وجه الأم المتغضن: "هل أنتما متأكدان أنها تشتغل في المطبخ؟"
وبدلا من أي جواب فتش الرجل العجوز في جيب بلوزته الضخم وأخرج رسالة جينيڤييڤ الأخيرة. كنت لسنوات طالبا ماهرا في الخط، فميزت في الحال الخط اليدوي الملتوي والبسيط إلى حد غريب، لكنه أنيق بشكل ملحوظ، وقد جرى تحسينه بالتدريج خلال مئات من التجارب في كتابة يدوية أوتوماتيكية، وحتى تحت إشرافي بالذات.
"من هنا"، قلت لهما وأنا أقودهما مباشرة إلى قاعة سانت أغنيس، جناح الهستيريات الكبرى.
كانت جينيڤييڤ جالسة على طاولة طويلة وسط الجناح، وهي تدلي ساقيها بجاربيها الحرير، وفي حضنها نسخة من صحيفة "الضحك"( 5) وصورتها ذاتها على الصفحة الأولى. وإلى جانبها كانت تجلس ليزيت، وهي راقصة أخرى من أشهر نجوم الفرقة. شعر جينيڤييڤ المرتب بغنج كان مزينا بشريطة حرير زرقاء، وحول عنقها عقد من اللآلئ المزيفة، وكان وجهها الشاحب مطليا بالحمرة، وشفتاها مصبوغتان. وبرغم هذا المظهر كانت تبدو أشبه ما تكون ببائعة مغامرة تتجول في الشوارع أكثر مما هي من نزيلة مستشفى. كانت جينيڤييڤ السيدة الأولى( 6) في عروض الثلاثاء المسرحية، معرضة للفساد والدلال من كل شخص، وهي مسرورة جدًّا بنفسها وبمن يحيطون بها. حدق الفلاحان العجوزان إلى ابنتهما مصعوقين. والتفتت جينيڤييڤ ناظرة إليهما بغير اكتراث، نظرة بلهاء، ويبدو أنها لم تعرفهما في بادئ الأمر. وفجأة أخذ وجهها يختلج وبصرخة حادة هوت على رأسها فوق الأرض في نوبة تشنج، وتبعتها ليزيت مباشرة كما في باليه قوس قزح الكلاسيكية. واستجابة لقانون المحاكاة هبت اثنتان أخريان من المصابات بالهستيريا تشنان هجومهما من سريريهما، إحداهما بضحك تشنجي والثانية في فيض من الدموع. وسرعان ما طردت الراهبات العجوزين اللذين أخرسهما الرعب خارج الجناح. لحقت بهما على الدرج وأخذتهما إلى المقعد تحت أشجار الدلب. وكانا لا يزالان في حالة جعلتهما عاجزين حتى عن البكاء. ولم يكن من السهل أن أبين الحالة لهذين الفلاحين البائسين. ولم أكن قطّ على علم كيف جرى انتقال ابنتهما من المطبخ إلى قاعة المهسترات. تحدثت إليهما بقدر ما أستطيع من لطف وقلت إن ابنتهما ستكون قريبا في حالة جيدة. بدأت الأم العجوز بالبكاء، وبدأت عينا الأب الصغيرتان المتلألئتان تشعان بضوء شرير. رحت أحضهما على العودة إلى قريتهما، ووعدتهما أن ابنتهما سترسل إلى البيت في أسرع وقت ممكن. أراد الأب أن يأخذها بعيدا في الحال، لكن الأم ساندتني قائلة إن من الحكمة أن نتركها حيث هي حتى تتحسن حالتها، وكانت واثقة أن ابنتها في أيد أمينة. وبعد أن كررت وعدي أن أتدبر في أقرب وقت مع البروفيسور ومدير المستشفى أمر الشكليات الضرورية لإرسال جينيڤييڤ إلى أهلها بعهدة راهبة، نجحت بوضعهما في عربة تأخذهما إلى محطة أورليان ليستقلا القطار التالي. إن التفكير في الفلاحين العجوزين جعلني يقظا الليل بطوله. كيف لي أن أحافظ على وعدي؟ كنت أعلم أكثر مما ينبغي أني في ذلك الوقت أبعد ما أكون عن الرجل المناسب الذي يمكنه الحديث مع شاركو عن ابنتهما، وكنت أعلم جيدا كذلك أنها لن توافق على مغادرة السلبيتريير والعودة إلى بيتها المتواضع القديم بإرادتها الحرة ذاتها. ولم يكن أمامي إلا حل واحد، أن أقهر إرادتها وأضع إرادتي ذاتها في مكانها. كنت أعرف جينيڤييڤ جيدا باعتبارها ممتازة في الخضوع للتنويم. فقد تدربت على أيدي الآخرين وعلى يدي بتنفيذ الإيحاءات بعد التنويم بأن تتحول إلى ما يشبه سقوط حجر بفعل القدر وبدقة شبه فلكية تقريبا من فقدان الذاكرة، أي في تجاهل تام لما تؤمر أن تقوم به في حالة يقظتها. وتقدمت إلى رئيس الجناح بأن أستمر في تجاربي مع جينيڤييڤ بالتخاطر، في برنامج ذلك اليوم تماما. وهو نفسه كان مهتما جدًّا في الموضوع، وأتاح لي أن أعمل بلا إزعاج في غرفته ذاتها لمدة ساعة بعد ظهر كل يوم وتمنى لي حظا سعيدا. لقد قمت بالكذب عليه. وفي اليوم الأول أوحيت لجينيڤييڤ تحت تنويم عميق أن تبقى في السرير الثلاثاء القادم بدلا من الذهاب إلى المدرج، حتى تكره حياتها في السلبيتريير وترغب في العودة إلى والديها. وطوال أسبوع وأنا أردد لها هذه الإيحاءات دون أي نتيجة واضحة. وفي الأسبوع التالي كانت غائبة وقد فاتنا الكثير خلال عرض الثلاثاء في المدرج. أخبروني أنها أصيبت بالزكام وهي في الفراش. وبعد يومين وجدتها وفي يدها دليل الخطوط الحديد، وبسرعة وضعته في جيبها حالما رأتني، وهي علامة ممتازة يمكن أن أعتمد عليها بأنها فاقدة الذاكرة. وبعد ذلك أوحي لها أن تذهب الثلاثاء القادم- يوم عطلتها- إلى السوق الرخيصة لتشتري قبعة جديدة. ورأيتها تعرضها بزهو كبير أمام ليزيت في الصباح التالي. وبعد يومين أمرتها أن تغادر قاعة سانت أغنيس الساعة الثانية عشرة من ظهيرة اليوم التالي في حين تكون الراهبات مشغولات بتوزيع وجبة الغداء، وأن تتسلل من غرفة البواب أثناء تناول غدائه، وأن تقفز إلى عربة تأخذها مباشرة إلى شارع ڤيليير. ولدى عودتي إلى البيت من أجل الاستشارة وجدتها جالسة في غرفة الانتظار. سألتها ما الأمر، فبدت مرتبكة وغمغمت بشيء ما عن رغبتها برؤية كلابي والقرد الذي حدثتها عنه. كانت تستمتع مع روزالي في حجرة الطعام بفنجان من القهوة فوضعتها في عربة لترجع بها إلى المستشفى.
قالت روزالي وهي تضع إصبعها على جبينها: "يا لها من فتاة لطيفة، لكني أظن أن عليها أن تقوم بترتيب داخل السقف. وقد قالت لي إنها لا تعرف أبدا لماذا جاءت إلى هنا".
إن النجاح في هذه التجربة التمهيدية جعلني أقرر، بتهوري المعتاد، تنفيذ خطتي حالا. وقد أمرت جينيڤييڤ أن تأتي إلى شارع ڤيليير بالاحتراس ذاته وفي الساعة ذاتها بعد يومين. كان يوم الاثنين، وقد دعوت نورستروم على الغداء، وأردته أن يكون هناك كشاهد في حال بعض التعقيدات غير المتوقعة. ولما أعلمته بخطتي، حذرني من النتائج الخطيرة التي يمكن أن تحدث لي، سواء في الفشل أو النجاح، وإلى جانب ذلك كان واثقا أنها لن تحضر.
وقال نورستروم: "افترض أنها أخبرت أحدهم".
"إنها لا تستطيع أن تقول شيئا عما هي ذاتها لا تعرفه، وهي لا تدري أنها ستأتي إلى شارع ڤيليير حتى تدق الساعة الثانية عشرة".
قال بإصرار: "لكن، ألا يمكن أن تخرج من حالتها تحت التنويم المغناطيسي؟"
"ليس هناك إلا رجل واحد يستطيع أن ينتزعها من تلك الحالة – وهو شاركو بذاته. لكن، بما أنه لا يعيرها إلا قليلا من الانتباه، باستثناء وقت محاضراته في أيام الثلاثاء، فقد أقصيت هذا الاحتمال".
وقلت إن الوقت، إلى جانب ذلك، متأخر أكثر مما ينبغي للمناقشة، فقد كنت متأكدا أنها غادرت المستشفى ولعلها تظهر في أقل من نصف ساعة.
دقت ساعة الجد في الصالة الواحدة إلا ربعا، وتصورت أنها تمضي بأسرع ما يمكن، ولأول مرة أزعج صوتها العميق أذني.
وقال نورستروم وهو يشعل سيجاره الكبير: "بودي أن تتخلى عن كل هذا الهراء المتعلق بالتنويم المغنطيسي. لقد تلقيت الضربة على الرأس، وسوف ينتهي بك الأمر إلى الخبل، إذا لم تكن مخبولا من قبل، فأنا لا أعتقد بالتنويم المغنطيسي، ولقد حاولت أن أوحي به مرات عديدة، لكني لم أنجح قطّ".
رددت غاضبا: "وأنا بالذات لا يمكن أن أفكر بالتنويم المغناطيسي، لو أنك فعلت".
رن جرس الباب الخارجي، فقفزت لأفتح الباب بنفسي. كانت الآنسة أندرسون، الممرضة التي طلبت إليها أن تكون هنا في الساعة الواحدة لترافق جينيڤييڤ إلى أهلها. كان عليها أن تمضي معها في قطار الليل السريع إلى النورمندي ومعها رسالة مني إلى خوري القرية أبين له فيها الحالة ليحول دون رجوع جينيڤييڤ إلى باريس بأي ثمن.
جلست إلى مائدة الطعام من جديد ورحت أدخن بغيظ سيجارة بعد سيجارة.
سأل نورستروم: "ماذا ستقول الممرضة عن كل هذا؟"
"لن تقول شيئا، إنها إنجليزية. وهي تعرفني جيدا، وتثق بحكمتي بشكل مطلق".
دمدم نورستروم وهو ينفخ دخان سيجاره: "كم أتمنى لو كنت كذلك".
دقت ساعة كرومويل فوق رف المدخنة الساعة الواحدة والنصف، وعززها بدقة غريبة من كل غرفة صوت نصف دزينة من الساعات القديمة.
قال نورستروم ببرود: "الفشل، وهذا أفضل بكثير لكلينا. وأنا جد مسرور لأني لم أتورط بهذه المشكلة".
لم أغمض عيني في تلك الليلة، وفي هذه المرة كانت جينيڤييڤ هي التي جعلتني يقظان وليس الفلاحان. لقد أفسدني الحظ طويلا إلى حد أن أعصابي مهيأة لانهيار مرضي. فماذا جرى؟
كنت أشعر بالغثيان وبشيء من الغشيان وأنا أدخل مدرج السلبيتريير في صباح اليوم التالي. وكان شاركو قد بدأ محاضرته ليوم الثلاثاء عن التنويم المغنطيسي. ولم تكن جينيڤييڤ في مكانها المعتاد هناك على المنصة. تسللت خارجا من القاعة وذهبت إلى غرفة الحراس. وأخبرني واحد من أطباء التمرين أنه استدعي أمس وهو على الغداء إلى قاعة سانت أغنيز حيث وجد جينيڤييڤ وهي في حالة غيبوبة تخشبية متقطعة بأعنف تشنجات رآها في حياته. لقد لقيتها إحدى الراهبات خارج المستشفى قبل نصف ساعة وهي تحاول القفز إلى عربة. لقد كانت هائجة إلى حد أنها عادت بها إلى غرفة الحارس بصعوبة شديدة، وكان عليهم أن يحملوها إلى قاعة سانت أغنيز في الطبقة العليا. لقد استماتت في الصراع طوال الليل كحيوان ضار يحاول أن يتخلص من القفص، وكان عليهم أن يضعوها في سترة ضيقة. هي الآن محجوزة في غرفة منفصلة، وقد أعطيت جرعة كبيرة من البروميد وعلى رأسها قبعة مرطبة. لا أحد يعرف سبب هذا التحول الفجائي. لقد زارها شاركو بنفسه وبذل جهدا كبيرا حتى نجح في تنويمها. وفاجأنا دخول رئيس الجناح الذي قال لي إنه كان يبحث عني في كل المستشفى. كان شاركو يريد أن يتكلم معي، وعليه أن يأخذني إلى حجرته حالما ينتهي من الدرس في المدرج. ولم ينبس بأي كلمة لي ونحن نمر بالمختبرات المجاورة. طرق الباب ودخلت الحرم الصغير المشهور للمعلم للمرة الأخيرة في حياتي. كان شاركو جالسا على كرسيه المعتاد قرب الطولة، منحنيا على المجهر. رفع رأسه وأبرق نحوي بعينيه المروعتين. راح يتكلم ببطء شديد، وصوته العميق يرتعش بالغيظ، وقال إني حاولت أن أغري بالمجيء إلى بيتي نزيلة في مستشفاه، وهي فتاة مختلة، غير واعية بأفعالها. وبناء على اعترافها ذاتها، فقد ذهبت إلى بيتي مرة من قبل، لكن خطتي الشيطانية بأن أغتنم فرصة قيامها بزيارة ثانية لم تفشل إلا بمحض الصدفة. هذا اعتداء إجرامي، وعليه أن يسلمني إلى البوليس، لكنه سيطلق سراحي كرمى لشرف المهنة والشريطة الحمراء في عروة سترتي، وسيطردني خارج المستشفى، متمنيا ألا تقع عيناه علي مرة ثانية إطلاقا.
شعرت بضربة صاعقة، وقد التصق لساني بسقف حنكي، فلم أستطع أن أتفوه بكلمة. وفجأة غادرني خوفي حين أدركت بوضوح المعنى الحقيقي لاتهامه المقيت. أجبت بغضب أنه هو وأتباعه، وليس أنا، من جلب الدمار لهذه الفتاة التي دخلت المستشفى فتاة ريفية قوية ومعافاة، وستغادره مجنونة إذا بقيت هناك مدة أطول. وأنا لم أقم إلا بتطبيق المنهاج المسموح لي حتى أعيدها إلى والديها العجوزين. لقد فشلت في إنقاذها، وأنا آسف لأني فشلت.
وصرخ: "يكفي، يا مسيو!"
التفت إلى رئيس الجناح وطلب إليه أن يرافقني إلى غرفة البواب مع أوامر منه بألا يسمح لي بدخول المستشفى مرة ثانية، مضيفا أن سلطته إن كانت لا تكفي فسوف يرفع تقريرا بالأمر إلى المساعدة العامة. نهض عن كرسيه ومشى خارجا من الحجرة، بخطواته البطيئة الثقيلة.
------------------------
(1 ) Salpêtrière: كان مصنعا للبارود في القرون الماضية، ثم تحول إلى مركز طبي لعلاج الأمراض العصبية. (G)
( 2) Foubourg: ضاحية، لكنها في النص اسم مكان، فتركتها كما وردت. (م)
( 3) Terpsichore: إلهة الرقص والموسيقا في الأساطير الإغريقية.
( 4) Cerbrus: كيربروس (باليونانية) كلب ثلاثي الرؤوس يحرس باب الجحيم في الأساطير الإغريقية والرومانية. (W)
( 5) Le Rire.
( 6) Prima Donna.
--------------------
هذه الملحمة الإنسانية لاكسيل مونتي يصعب أن نَفيها حقها في مقالة موجزة، خاصة وهو يعبر بعمق وألم عن المعركة الدائرة بين الموت والحياة... فالمعركة منظمة في أدق تفاصيلها وفق قانون من التوازن بين الحياة والموت لا يقبل التغيير... لذا أترك للقارئ متعة قراءتها، كما استمتعت. محمد أحمد السويدي
بتكليف ورعاية من الشاعر الإماراتي محمد أحمد السويدي، وبدافع من حب المعرفة والسعي لنشرها قامت القرية الإلكترونية بتوفير هذه النسخة من قصة سان ميشيل مترجمة باللغة العربية – ترجمها علي كنعان. (جميع الحقوق محفوظة)
صفحتنا الرسمية في فيس بوك :
منصتنا في جوجل بلس لمتابعة باقي مشروعاتنا

No comments:
Post a Comment