Wednesday, March 6, 2019

قصة سان ميشيل لأكسِل مونتي - الحلقة رقم 16 - الأطباء





قصة سان ميشيل لأكسِل مونتي
                                       ترجمة:  علي كنعان
الحلقة رقم (16) 
  
 XVII

 الأطباء

كان هناك عدد كبير من الأطباء يمارسون المهنة تلك الأيام في باريس. وقد نشب حسد مهني شديد بينهم، ولا عجب أن أنال منه نصيبي. ولم يكن زملاؤنا الفرنسيون يحبوننا كثيرا لاحتكارنا الجالية الأجنبية الثرية، ومجموع زبائنها المربحين بلا شك أكبر بكثير من زبائنهم. وقد أثيرت مؤخرا في الصحافة ضجة احتجاج ضد العدد المتزايد باستمرار من الأطباء الأجانب في باريس، وغالبا ما كان هناك تلميح إلى أنهم غير مزودين حتى بشهادات نظامية من جامعات معترف بها جيدا. ونتج عن ذلك أمر من مدير البوليس يقضي بأن على جميع الأطباء الأجانب أن يحضروا وثائق الدبلوم للمصادقة قبل نهاية الشهر. وأنا بشهادتي دكتور في الطب من كلية باريس، كان كل شيء على ما يرام، وكنت على وشك أن أنسى، لكني جئت إلى مفوضية الحي في آخر يوم. مفوض البوليس، الذي لم يكن يعرفني جيدا، سألني إن كنت أعرف الدكتور س.، الذي يعيش في الشارع ذاته الذي أنا فيه. أجبت أن كل ما أعرف عنه أن عليه أن يقوم بممارسة كبيرة جدا، وغالبا ما سمعت باسمه يذكر، وغالبا ما أعجبت بعربته الأنيقة تنتظر خارج منزله.
قال المفوض أن ليس لي أن أعجب بها طويلا، لأنه موضوع لديهم على القائمة السوداء، وهو لم يحضر مع شهادته، لأنه ليس لديه ما يقدمه لأنه دجال، ولا بد من إلقاء القبض عليه أخيرا. يقال إنه يكسب مئتي ألف فرنك سنويا، أكثر من عديد من المشهورين في باريس. قلت ليس هناك من سبب يمكن ألا يجعل من الدجال طبيبا جيدا، فالدبلوم لا تعني مرضاه كثيرا ما دام قادرا على مساعدتهم. وسمعت نهاية القصة بعد نحو أسبوعين من المفوض ذاته. فقد أتى الطبيب س. بنفسه في آخر لحظة إلى المفوض، ملتمسا مقابلة خاصة معه. جاء مقدما شهادته كدكتور في الطب من جامعة ألمانية مشهورة، وقد توسل للمفوض أن يحافظ على سره، وقال إنه مدين بخبرته الهائلة إلى الظرف الذي جعل كل شخص يعتبره دجالا. وقلت للمفوض إن هذا الرجل سيغدو قريبا مليونيرا إذا كانت معرفته بطبابته بمقدار نصف معرفته النفسانية.
ولما كنت عائدا إلى البيت لم أحسد زميلي على مئتي ألف فرنك من الدخل، لكني حسدته لمعرفته بالمبلغ الذي سيصل إليه دخله. كنت دائما تواقا لمعرفة مقدار ما أكسب. فقد بدا مؤكدا أني كنت أكسب كثيرا من المال. فقد كان في حوزتي دائما وفرة من النقود كلما أردت المال لشيء ما. كانت لدي شقة جميلة، عربة أنيقة، وطاهية ممتازة؛ وبما أن مامسل أغاتا غادرت الآن، فغالبا ما كنت أدعو أصدقائي للغداء في شارع ڤيليير ولدينا الأفضل من كل شيء. ولقد بادرت مرتين في السفر إلى كابري، مرة لأشتري منزل السيد ڤنسنزو ، والمرة الثانية لأقدم مبلغا كبيرا من المال إلى المالك المجهول للكنيسة الصغيرة الخربة في سان ميشيل- وقد استغرق ذلك مني عشر سنين حتى أنهيت الأمر. وكعاشق مغرم بالفن في ذلك الحين، امتلأت غرفي في شارع ڤيليير بدزينة من الساعات القديمة الأنيقة المنسجمة مع كل ساعة من ليالي اليقظى غالبا. ولم يكن من النادر أن يقاطع هذه الفترات من الثروة لحظات ليس معي فيها أي مال إطلاقا، وذلك لسبب ما لا يمكن تفسيره. وكانت روزالي تعرف ذلك، والبواب يعرفه، وحتى الباعة يعرفونه. وكان نورستروم يعرفه لأني غالبا ما كنت أستلف المال منه. وقال إن ذلك لا يمكن تعليله إلا بخلل ما في جهازي العقلي، والعلاج أن أحتفظ بحسابات صحيحة وأرسل فواتير منتظمة إلى مرضاي مثل كل شخص آخر. قلت إنه متعذر أن أحتفظ بحسابات، أما ما يتعلق بكتابة فواتير فهذا ما لم أفعله قطّ من قبل ولن أفعله. إن مهنتنا ليست تجارة بل فن، وهذه المتاجرة في الألم إهانة لي. كنت أتورد خجلا حين يضع مريض قطعة عشرين فرنكا على طاولتي، وحين يضعها في يدي كنت أشعر وكأني أرغب بصفعه. قال نورستروم إن ذلك ليس إلا غرورا وخداعا خالصا من جانبي، وأن علي أن أمسك بكل المال الذي يمكن أن يقع تحت يدي، كما يفعل جميع زملائي، حتى لو ناولها لي متعهد دفن الموتى. وقلت إن مهنتنا مهمة مقدسة في مستوى مهنة الكاهن، إن لم تكن أسمى، واكتساب فائض من المال ينبغي أن يحظره القانون. ينبغي أن تدفع الحكومة للأطباء دفعا مجزيا كما هو شأن القضاة في إنجلترا. ومن لا يحبون هذا التنظيم ينبغي أن يتركوا المهنة ويذهبوا للبورصة أو يفتحوا حانوتا. ينبغي لأطباء أن يتصرفوا كالحكماء محترمين ومحميين من جميع الناس. وعلى الأغنياء من المرضى أن يتقبلوا بسرور ما يحب الأطباء أن يأخذوا منهم من أجل مرضاهم الفقراء ومن أجلهم، ولكن ليس لهم أن يحصوا عدد زياراتهم أو يكتبوا فواتير. ما القيمة المقدرة بالمال لقلب الأم التي أنقذت حياة طفلها؟ ما هي الأجرة المناسبة لإزالة رهبة الموت من عينين مسكونتين بالرعب، ولو بكلمة مواسية أو بمجرد تربيتة على الجبين؟ كم فرنكا كان عليك أن تأخذ لقاء كل ثانية انتزعتها من الجلاد وأنت تكافح الموت بحقنة مورفين؟ وحتامَ علينا أن نظل نصرف على آلام البشر كل هذه الأدوية والعقاقير المرخصة الغالية برقع عصرية لكنها ذات جذور طالعة من خرافة القرون الوسطى؟ نحن نعلم جيدا أن كمية من عقاقيرنا الفعّالة يمكن أن نعدها على أطراف أصابعنا وتعطينا إياها أمنا الطبيعة الكريمة بسعر رخيص. ولماذا ينبغي عليّ، أنا طبيب الطبقات العليا، أن أتجول في عربة أنيقة، بينما على زميلي في أحياء الفقراء أن يمشي على قدميه؟ ولماذا تنفق الدولة من المال على تعليم فن القتل أكثر بمئات المرات مما تنفق على فن العلاج؟ لماذا نبني متشفيات أكثر وكنائس أقل، لأن بإمكانك أن تصلي لله في كل مكان، لكنك لا تستطيع أن تجري عملية في بالوعة! لماذا نبني كل هذا العدد من المساكن المريحة للقتلة المحترفين ولصوص المنازل في حين نكتفي بالقليل للبائسين المشردين في الأحياء الفقيرة؟ لماذا لا ينبغي لنا أن نعلمهم أن عليهم أن يغذوا أنفسهم؟ فما من رجل أو امرأة لا يستطيع أن يكسب خبزه اليومي، حتى لو كان محتجزا  في سجن، إذا أعطي الخيار بين الأكل أو عدم الأكل. وهناك من يقول لنا باستمرار أن غالبية نزلاء السجون من الأغبياء وذوي العقول الضعيفة، وهم تقريبا أشخاص لا يشعرون بالمسؤولية. وهذا خطأ. إن مستوى ذكائهم ليس أدنى وإنما أعلى من العادي، وهذه هي القاعدة. إن جميع المدانين بجريمة أولى يجب أن يحكموا بفترة سجن أقل بكثير وأن يعيشوا على حصة أقل من الطعام مصحوبة بعقوبات جسدية صارمة ومتكررة. وينبغي أن يهيئوا مكانا لآباء الأطفال المهجورين وغير الشرعيين، وللقوادين وعددهم الآن كبير في وسطنا. والقسوة على الحيوانات التي لا عون لها هي أفظع إثما عند الله من لصوص المنازل، ومع ذلك لا تزيد العقوبة عن غرامة ضئيلة. ونحن جميعا نعلم أن تراكم الثروة المفرط هو غالبا لدى اللصوص المتوارين بذكاء عن الفقراء. فأنا لم أصادف إطلاقا مليونيرا في السجن. إن حيلة اكتساب المال من أي شيء تقريبا هي منحة خاصة لقيمة أخلاقية مريبة جدا. وينبغي للحائزين على هذه الملكة العقلية أن يسمح لهم فقط بأن يستمروا في طريقهم على أن يدركوا، كما هو شأن النحل، بأن حصة كبيرة من تلك الأقراص الذهبية يجب أن توزع بين أولئك الذين ليس لديهم عسل يضعونه على خبزهم اليومي.
أما باقي نزلاء السجون، المجرمين المحترفين، القتلة بدم بارد.. إلخ، فينبغي أن نمنحهم موتا رحيما لا كعقوبة، لأننا لا نملك الحق في أن نحاكم أو نعاقب، ولكن من أجل الحماية، بدلا من أن يمضوا بقية حياتهم في راحة نسبية وبمعدل نفقة تزيد عن كلفة سرير دائم في مستشفى. وبريطانيا كانت على حق، كما هي العادة. وحتى هؤلاء الذين يرتكبون أفعال الشر بهذا الشكل،  ليس لهم فعلا أي حق بأن يتذمروا من معاملة المجتمع لهم بفظاظة. إنهم يكافأون على جرائمهم بأعظم امتياز يمكن أن يمنح لإنسان حي، وهو امتياز محرم عادة على زملائهم من الناس كمكافأة لفضائلهم – أعني به الموت السريع.
نصحني روستروم بأن أكف عن إصلاح المجتمع – فقد اعتبر أن ذلك ليس من شأني – وأن أثابر على الطب. وليس لي أي حق في التذمر إلى هذا الحد مما يحصل. ولديه على أية حال شكوك ثابتة بما يتعلق بالعمل اللطيف على مشروعي بأن أتجول كحكيم بين مرضاي مبادلا خدماتي بسلع قابلة للحمل. وهو مستمسك باعتقاده أن النظام القديم بكتابة فواتير أضمن. قلت إني لست واثقا من ذلك إلى هذا الحد. ومع أن ذلك صحيح وهو أن بعض مرضاي، وبعد أن أرسلت إليهم أكثر من رسالة أطالبهم بدفع فواتيرهم ولم يردوا عليها، انصرفوا بعيدا بدون أن يدفعوا لي شيئا – وهذا ما لم يحدث مع الإنجليز – وآخرون أرسلوا في الغالب مبالغ تزيد عما طالبتهم بها، إن كنت قد أرسلت فاتورة. مع أن معظم مرضاي بدوا أنهم يفضلون التخلي عن مالهم أكثر من بضائعم. وأنا اتبعت نظامي بنجاح في ظروف متعددة. ومن مقتنياتي الثمينة كاب لودن( 1) قديم أخذته من الآنسة سي يوم كانت مغادرة إلى أميركا. وبينما كانت تتجول معي في عربتي لكسب الوقت ولتقول لي كل ما تود قوله من امتنانها اللانهائي وعجزها عن مكافأة لطفي، لمحت كاب لودن على ظهرها، وكان ذلك كل ما أريد. لذلك طويته على ركبتي وقلت إني سأحتفظ به. قالت إنها اشترته من سلزبورغ قبل عشر سنين وهي مغرمة به. قلت:  وأنا كذلك. اقترحت أن نواصل السير إلى أولد إنجلاند مباشرة، وستكون في غاية السرور أن تهديني أغلى كاب اسكوتلندي يمكن الحصول عليه. قلت إني لا أريد أي كاب اسكوتلندي. ولا بد أن أعلمك أن الآنسة سي كانت سريعة الغضب نوعا ما ولقد سببت لي كثيرا من المتاعب على مدى سنين. واهتاجت غاضبة إلى حد أنها قفزت من العربة حتى بدون أن تقول وداعا، وفي اليوم التالي أبحرت إلى أميركا، ولم أرها أبدا بعد ذلك.

وأنا أتذكر أيضا حالة السيدة مود ب. التي زارتني في شارع ڤيليير قبل أن تغادر إلى لندن. قالت إنها كتبت ثلاث مرات طالبة فواتيرها، لكن بلا جدوى، وأنا أوقعتها في وضع حرج جدا، فلا تدري ماذا تفعل. كانت غامرة في ثنائها على مهارتي وطيبتي، وليس للمال أن يؤدي مدى امتنانها، ولا يمكن لكل أملاكها أن تكافئ إنقاذ حياتها. وكان ظريفا جدًّا في تقديري أن تقول لي كل ذلك صبية ساحرة إلي هذه الدرجة. وفي حين كانت تتكلم، رحت أتأمل بإعجاب عباءتها الحرير الجديدة بلونها الأحمر الغامق، وهي كانت كذلك بنظرة جانبية بين حين وآخر في المرآة الفنيسية فوق العباءة. وقلت لها، وأنا أنظر بإمعان إلى قامتها الرشيقة الطويلة، إني سآخذ عباءتها، وهي كل ما أريد. وانفجرت بضحكة مرحة سرعان ما تحولت إلى ذعر مطلق حين أعلنت أني سأرسل روزالي إلى فندقها في الساعة السابعة لتجلب العباءة. نهضت على قدميها شاحبة بهياج وقالت إنها لم تسمع في حياتها بمثل ذلك. قلت لها هذا مناسب جدا. فقد قالت لي أن ليس ثمة من شيء لا يمكن أن تعطيه لي. وأنا اخترت العباءة لأسبابي الخاصة. انفجرت باكية واندفعت خارجة من الغرفة. وبعد أسبوع قابلت زوجة السفير الإنجليزي في المفوضية السويدية. وأخبرتني هذه السيدة اللطيفة أنها لم تنس زوجة الحاكم الإنجليزي المصدورة التي أوصيتها بها، حتى إنها أرسلت إليها دعوة لحضور حفلة في حديقتها من أجل الجالية الإنجليزية.
وقالت زوجة السفير: "لا شك أنها تبدو مريضة جدا، لكن من المؤكد أنها لا يمكن أن تكون فقيرة كما قلت، وأنا متأكدة أنها تشتري ثيابها من محل فخم".

لقد ساءني قول نوستروم أن قصوري عن كتابة فواتير وتأمين أجرتي في جيبي بدون أن أتورد خجلا نابع من الغرور والخداع. إذا كان نورستروم محقا، فعلي أن أعترف أن جميع زملائي على ما يبدو متحررون من هذه العلة بشكل استثنائي. فهم جميعا يرسلون فواتير كما يفعل الخياطون تماما، ويقبضون بكل اطمئنان الجنيه الذهبي الذي يضعه مرضاهم في أيديهم. وكان من اللباقة في كثير من غرف الاستشارة أن المريض ينبغي عليه أن يضع المال على الطاولة حتى قبل أن يفتح فمه ليحكي عن معاناته. وكانت القاعدة المقررة قبل العملية أن نصف المبلغ يجب أن يدفع مقدما. وقد علمت عن حالة رفعوا المريض فيها من تحت التخدير وأجلوا العملية حتى يتحققوا من صحة الشيك. حين يطلب الطبيب المشهور الاستشارة من أحدنا، نحن الأقل بريقا، فإن الرجل الكبير يضع جزءا من أجرته في يد الرجل الصغير كأمر منطقي. أتذكر اندهاشي أول مرة استدعاني فيها اختصاصي لحالة تحنيط حين قدم لي خمسمئة فرنك من أجرته. كانت كلفة التحنيط عالية إلى درجة مخزية.
إن العديد من الأساتذة الذين اعتدت أن أستشيرهم في حالات صعبة كانوا ذوي شهرة عالمية، في الذروة العليا من شجرة اختصاصهم، بدقتهم الاستثنائية وسرعتهم المذهلة في تشخيصهم. كان شاركو، على سبيل المثال، خارقا في طريقة الوصول إلى أصل الداء، وغالبا بمجرد إلقاء نظرة سريعة على المريض لا أكثر من عينيه الصقريتين الفاترتين. ويبدو أنه اعتمد على عينيه أكثر مما ينبغي في السنوات الأخيرة من حياته، إذ كان فحص مرضاه في الغالب سريعا وسطحيا إلى أبعد حد. ولم يعترف أبدا بخطأ أو أذى للشخص الذي يمكن أن يجرؤ أن يشير إلى أنه وقع في خطأ. ومن الجانب الآخر كان متحفظا بشكل مدهش قبل أن يعلن عن تقديره لحالة مميتة، حتى في الحالات الميؤوس منها بشكل واضح. وقد اعتاد أن يقول إن ما لا نتوقع محتمل دائما. كان شاركو أعظم طبيب مشهور في زمنه. كان المرضى يتقاطرون من جميع أنحاء العالم إلى غرفة استشارته في فوربورغ سان جرمان، وغالبا ما ينتظرون أسابيع قبل أن يسمح لهم بالتوجه  إلى حرمه الداخلي حيث كان يجلس بجوار النافذة في مكتبته الضخمة. وكان بقامته القصيرة، وصدر الرياضي ورقبة الثور، من الرهبة البالغة أن تنظر إليه. إنه قناع لإمبراطور روماني:  وجه حليق شاحب، جبين منخفض، عينان ثاقبتان باردتان، أنف معقوف، وشفتان رقيقتان قاسيتان. ولما كان يغضب، فإن وميض عينيه يبدو رهيبا كالبرق، وليس من المحتمل لأي شخص واجه تين العينين يوما أن ينساهما. كان صوته آمرا، صارما، وساخرا في الغالب. ولم تكن قبضة يده الصغيرة المترهلة مريحة. كان له قلة من الأصدقاء بين زملائه، وكان مرضاه يخافون منه وكذلك مساعدوه الذين لم يقل لهم أي كلمة تشجيع لطيفة إلا نادرا في مقابل ما يفرض عليهم من أعمال مرهقة. كان لا مباليا إزاء آلام مرضاه، ولم يعرهم إلا أقل اهتمام من يوم المباشرة بالتشخيص حتى يوم فحص الجثة بعد الوفاة. وغالبا ما كان يفضل من بين مساعديه أولئك الذين يدفعهم قدما إلى مراكز متميزة وهم أقل جدارة منها بكثير. إن كلمة من شاركو كانت كافية نتيجة أي فحص أو مساعدة، وفي الحقيقة كان الحاكم الأعلى في كلية الطب بكاملها. 
ولما كان يشارك جميع مختصي الأعصاب قدرهم، فقد كان محاطا بحاشية من السيدات العصابيات، معبودات البطل مهما كلف الأمر. ومن حسن حظه أنه كان غير مكترث بالنساء. ولم يكن له أي تسلية من عمله المتواصل إلا الموسيقا . ولم يكن مسموحا لأحد أن يتفوه بكلمة عن العلاج في أمسيات الخميس المكرسة تماما للموسيقا . كان بيتهوڤن هو المفضل لديه. وكان مولعا جدًّابالحيوانات، وفي كل صباح عند نزوله بتثاقل من عربته اللندوية( 2) في المبنى الداخلي للسلبيتريير، يخرج من جيبه كسرة من الخبز لاثنين من الروزنانت. وهو يقطع دائما أي حديث عن الرياضة وقتل الحيوانات. ونفوره من الإنجليز نابع، على ما أظن، من كراهيته لصيد الثعالب. 
كان الدكتور بوتان يشاطر شاركو في موقع أعظم طبيبين مشهورين في باريس في تلك الأيام. ولم يكن هناك إطلاقا من رجلين يكره أحدهما الآخر أكثر من هذين الطبيبين العظيمين. كان طبيب مستشفى نيكر بسيطا جدا، ورجلا ذا مظهر غير مهم، ويمكن أن يمر دون أن يلحظه أحد بين الناس، في حين يتميز رأس شاركو فريدا بين ألف. وهو يبدو في معطفه القديم غير اللائق وكأنه في أسمال بالية، مقارنة مع زميله اللامع. كانت ملامحه باهتة، وكلماته قليلة وكأنه يتفوه بها بصعوبة بالغة. وكان محبوبا كإله بين جميع مرضاه من أغنياء وفقراء، وهم في نظره سواء تماما. كان يعرف اسم كل مريض في مستشفاه الضخم، يربت على وجنة الصغير والكبير، يصغي إلى قصص أوجاعهم بصبر لا محدود، وغالبا ما يدفع من جيبه الخاص لإضافة شيء لذيذ لأطباقهم الفقيرة. كان يفحص أفقر المرضى في مستشفاه بالعناية الشديدة ذاتها كما يفحص النبلاء وأصحاب الملايين، وكان لديه الكثير من الطبقتين كلتيهما. وما من علامة اضطراب في الرئتين أو القلب مهما كانت غامضة يمكن أن تخفى على أذنه المرهفة بشكل استثنائي. ولا أعتقد أن ثمة إنسانا يمكن أن يعرف ما يختلج في صدر إنسان آخر أكثر منه. وأنا مدين له بالقليل الذي أعرفه عن أمراض القلب. وكان البروفيسور بوتان وغوينو دو موسي هما الطبيبين الوحيدين، تقريبا، اللذين كنت أجرؤ على اللجوء إليهما عند الحاجة للاستشارة في حالة مريض لا يملك بنسا. وكان الثالث هو البروفيسور الجراح الشهير تيللو. كانت عيادته في فندق ديو تسير على الطريقة ذاتها التي يسير عليها بوتان في مستشفى نيكر، وكان كأب لكل مرضاه، فأفقرهم هم الذين كانوا على ما يبدو محط اهتمامه الأكبر في العمل على سلامتهم. وهو أفضل مدرس رأيته في حياتي، وكتابه "علم التشريح الطبغرافي" هو أيضا أفضل مرجع كتب في موضوعه. كان جراحا ممتازا وكان يتولى دائما وضع كل الضمادات بنفسه. وهناك سمة شمالية تقريبا لدى هذا الإنسان في تصرفاته البسيطة المستقيمة وعينيه الزرقاوين، فهو في الواقع من بريتون. كان طيبا وصبورا بشكل استثنائي معي ومع عيوبي الكثيرة، ومن المؤكد أنها ليست غلطته في أني لم أصبح جراحا ناجحا. وأنا مدين له بالكثير، في واقع الأمر، وأنا مقتنع حتى بأني مدين له بأني ما زلت قادرا على السير على قدمي. وأظن أن من الأفضل أن أحكي لكم هذه القصة هنا بين هلالين.
.    .    .
كنت أعمل بجهد شاق جدًّاخلال الصيف الحار الطويل بلا يوم واحد من الراحة، وأنا منهك بالأرق وما يصحبه عادة من كآبة. كنت سريع الغضب مع مرضاي، سيئ المعاملة مع كل شخص. وحتى صديقي نورستروم، ذو الدم البارد، بدأ يفقد صبره معي، لما جاء الخريف. وأخيرا قال لي مرة، ونحن نتعشى معا، إذا لم أذهب حالا مدة ثلاثة أسابيع لاستراحة علاجية في مكان هادئ، فسوف أنهار تماما. كانت كابري أشد حرارة مما تطاق، وسويسرا هي المكان الأمثل لي. وكنت أستجيب دائما لحصافة صديقي العليا. كنت مدركا أنه مصيب، رغم أن مقدماته المنطقية خاطئة. لم يكن الإرهاق بالعمل، لكن شيئا آخر هو الذي حط بي إلى تلك الحالة المؤسفة؛ لكن دعونا لا نتحدث عن ذلك هنا. بعد ثلاثة أيام كنت في زيرمات وباشرت العمل فورا لأتبين هل الحياة فوق خط الثلج أشد بهجة من تحته. صارت فأس الجليد دميتي الجديدة في ممارسة اللعبة القديمة في الخسارة والفوز بين الحياة والموت. فقد بدأت حيثما انتهى معظم المتسلقين الآخرين في الصعود إلى ما بعد ماترهورن. وأمضيت الليل تحت كتف الجبل الغضبان في عاصفة ثلجية عاتية، مشدودا بحبل الفأس إلى صخرة مائلة بضعفي حجم المائدة في غرفة طعامي. وكنت مهتما أن أعلم من دليليَّ أننا كنا معلقين على الصخرة ذاتها التي هوى منها هادو، هدسون، اللورد فرنسيس دوغلاس، وميشيل كروز إلى نهر ماترهورن الجليدي تحتها بأربعة آلاف قدم، أثناء أول صعود قام به ويمبر. ومع الفجر فوجئنا بالعثور على بورخارت. كشطت الثلج الطري عن وجهه، وديعا ساكنا كإنسان مستغرق في النوم. لقد مات متجمدا. ورأينا في أسفل الجبل دليليه يسحبان بينهما رفيقه دافيس، وهو شبه فاقد الوعي، وقد أنقذا حياته معرضين نفسيهما للخطر.
بعد يومين قذف شريكورن، العملاق المتجهم، بانجرافاته المعتادة من الصخور المتقلقلة ضد المتطفلين. لقد أخطأتنا، لكنها كانت طلقة دقيقة بأية حال ومن مسافة يمكن لقطعة صخرية منها أن تسحق كاتدرائية، وقد مرت مدوية على مسافة منا تقل عن عشرين ذراعا. ومع انبلاج الفجر في الوادي تحتنا، بعد يومين، أخذت أعيننا المسحورة تراقب الآنسة جونغفراو(3 ) وهي تكتسي بحلتها النقية من الثلج. وقد تمكنا أن نرى بصعوبة وجنتي العذراء الورديتين تحت نقابها الأبيض. وشرعت في الحال أن أتغلب على الساحرة. بدت أول الأمر وكأنها ستقول نعم، لكن لما حاولت أن أنتزع بعض الأهداب الناصعة من حاشية معطفها اعتراها الخجل فجأة وطفقت تخبئ نفسها وراء غيمة. حاولت كما ينبغي لي، لكني لم أفلح إطلاقا في مقاربة المحبوبة. وبقدر ما كنت أتقدم منها كانت تتراءى لي بأنها تنسحب بعيدا عني. وفي الحال سطع غطاء من البخار والضباب ليخفي بأشعة الشمس شكلها كاملا عن عيوننا وكأنه ستارة من نار ودخان أسدلت حول أختها برونهيلد في الفصل الأخير من ووكيري( 4). ساحرة عجوز مهمتها أن تراقب العذراء الجميلة كممرضة عجوز غيرى، أخذت تغرينا أبعد فأبعد عن هدفنا بين المنحدرات الصخرية المهجورة والجروف الفاغرة والجاهزة لابتلاعنا في أية لحظة. وفي الحال أعلن الأدلاء أنهم ضلوا طريقهم ولم يبق إلا أن نعود أدراجنا من حيث أتينا وكلما أسرعنا كان أفضل. وسحبني دليلاي، مهزوما وملتاعا، بالحبل المتين نزولا إلى الوادي من جديد. ولا عجب أن أكون محزونا، فقد كنت  للمرة الثانية في تلك السنة منبوذا من فتاة شابة. لكن الشباب مداوٍ عظيم لجراح القلب. وسرعان ما يتغلب عليها الإنسان برأس بارد وقليل من النوم. لقد حصلت على النوم وإن كان قليلا، لكني لم أفقد رأسي لحسن الحظ. ويوم الأحد التالي- وأنا أتذكر حتى التاريخ لأنه كان عيد ميلادي- قمت بتدخين غليوني على قمة مون بلان، حيث يدلق معظم الناس ألسنتهم لاهثين لالتقاط الأنفاس، كما قال دليلاي. لقد رويت في مكان آخر ما حدث في ذلك اليوم، ولكن لأن الكتاب الصغير نافد، فعلي أن أعلمك به لتعلم كم أنا مدين للبروفيسور تيللو.

إن تسلق مون بلان، شتاء وصيفا، سهل بشكل نسبي. فما من أحد إلا الأحمق يحاول الصعود في الخريف قبل شمس النهار وصقيع الليل يأخذ الوقت الكافي لتثبيت الثلج الطري على منحدرات الجبل الفسيحة. إن ملك الألب يعتمد في دفاعه ضد المتطفلين على انجرافات الثلج الطرية كما يعتمد شريكورن على قذائفه من الصخور المتقلقلة. 
كان وقت الغداء حين أشعلت غليوني على القمة. كان جميع الغرباء في فنادق شاموني يتناوبون النظر في تلسكوباتهم إلى الذبابات الثلاث الزاحفة على القبعة البيضاء التي تغطي رأس الجبل الملك العجوز. وبينما كانوا يتناولون غداءهم، كنا نتلمس طريقنا عبر الثلج في الممر تحت مون مودي، لنظهر فورا في تلسكوباتهم من جديد على جراند بلاتو. لم يتكلم أحد، فكلنا يعلم أن أية نأمة صوت يمكن أن تحدث انجرافا. وفجأة تطلع بواسو إلى الوراء وأشار بفأس الجليد إلى خط أسود وكأن يد عملاق تجره عبر المنحدر الأبيض.
"نحن ضعنا جميعا"، غمغم في حين انشق الحقل الثلجي الهائل إلى شطرين وبدأ الانجراف بدوي رعدي، قاذفا بنا نزولا عبر المنحدر بسرعة مدوخة. لم أشعر بشيء، ولم أعرف أي شيء. فجأة وبدافع لا إرادي مماثل لتجربة سبالانزاني الشهيرة التي جعلت ضفدعه المقطوع الرأس يحرك كفه نحو النقطة التي كان ينخسها بدبوس – هذا الدافع اللاإرادي ذاته أجبر الحيوان الكبير الفاقد الحس أن يرفع يده بردة فعل نحو الألم الحاد في جمجمته. لقد حرض الإحساس المحيطي المتبلد غريزة الوقاية-الذاتية  في دماغي – آخر ما يموت. وبدأت أعمل بجهد يائس لأخلص نفسي من طبقة الثلج التي كنت مدفونا تحتها. رأيت الجدران المتلألئة من الجليد الأزرق حولي، ورأيت ضوء النهار فوق رأسي من خلال فتحة الصدع الذي قذفني فيه الانهيار الثلجي. ومن الغريب أن أتذكر أني لم أشعر بأي خوف، ولم أكن مدركا أي فكرة، سواء من الماضي أو الحاضر أو المستقبل. ثم صرت أدرك شيئا فشيئا وبإحساس غامض يتلمس طريقه ببطء عبر دماغي المخدر حتى توصلت أخيرا إلى فهمي. لقد ميزته فورا، فقد كان هوايتي القديمة، فضولي الذي لا شفاء منه، وهو أن أعرف كل ما يمكن أن نعرفه عن الموت. لقد جاءتني الفرصة أخيرا، فهل أستطيع أن أحافظ على فكري صافيا وأنظر مباشرة وبإمعان في وجهه دون إحجام. كنت أعرف أنه هناك، وخيل إلي أني على وشك أن أراه يتقدم نحوي في كفنه الجليدي. ماذا يمكن أن يقول لي، أيكون فظا ومنتقما أو أنه سيشفق علي ويتركني تماما حيث أستلقي في الثلج ويدعني أتجمد في نوم أبدي؟ تلك حالة لا يمكن فهمها على ما يبدو، إنما أعتقد أنها كانت آخر أثر حي باق من عقليتي السليمة، فضولي حول الموت، وهو الذي أنقذ حياتي. وكل ما شعرت به حالا هو إمساك فأس الجليد وأصابعي حوله بإحكام، وشعرت بالحبل حول خصري. الحبل! أين كان رفيقاي؟ سحبت الحبل نحوي بأقصى سرعة ممكنة، فكان ثمة رجة مفاجئة، وبرز من الثلج رأس  بواسو بلحيته السوداء. أخذ نفسا عميقا وشد الحبل حول خصره حالا، وانتشل رفيقه من قبره وهو نصف مغمى عليه.
سألت: "كم من الوقت يستغرق تجمدنا حتى الموت؟"
طافت عينا بواسو بسرعة على جدران سجننا وتوقفتا بإمعان على جسر رقيق من الجليد يمتد كنتوء طائر من كاتدرائية قوطية بين جدران الجرف المنحدرة.
قال: "لو كان معي فأس جليد واستطعت أن أصل إلى ذلك الجسر، سأتمكن من شق طريقي خارجا على ما أعتقد".
ناولته الفأس التي تتشبث به أصابعي بما يشبه التشنج الخشبي.
"كن ثابتا، كرمى لله، كن ثابتا"، كرر ذلك وهو يقف على كتفي كبهلوان ثم تعلق بالجسر الجليدي فوق رؤوسنا. وشق طريقه خطوة خطوة خارج الجرف، وهو مستند بيديه على الجدران المنحدرة، ثم سحبني بالحبل إلى الأعلى. وبصعوبة شديدة رفعنا الدليل الآخر إلى الأعلى وهو شبه غائب عن الوعي. لقد جرف الانهيار آثار العلامات، ولم يكن معنا إلا فأس جليد واحدة لتنبهنا إلى خطر السقوط في بعض الجروف المخبأة تحت الثلج الطري. وكان صولنا إلى الكوخ بعد منتصف الليل معجزة أعظم حتى من خروجنا من الصدع الجليدي، كما قال بواسو. كان الكوخ شبه مطمور بالثلج، وكان علينا أن نفتح ثغرة عبر السقف حتى ندخل منها. وسقطنا خابطين رؤوسنا بالأرض. وشربت زيت المصباح الصغير برائحته الزنخة حتى آخر قطرة، بينما راح بواسو يفرك قدمي المتجمدتين بالثلج، بعد أن شق حذائي الجبلي الثقيل بسكينه. أمضى فريق الإنقاذ من شاموني الصباح بطوله وهم يبحثون عن أجسامنا بلا جدوى في مسار الانهيار، وقد وجدونا غارقين جميعا في النوم على أرض الكوخ. وفي اليوم التالي أخذت إلى جنيف في عربة قش ثم وضعت في قطار الليل السريع إلى باريس.
كان البروفيسور تيللو واقفا يغسل يديه بين عمليتين، وأنا أسير مترنحا في مدرج أوتيل ديو في الصباح التالي. ولما فكوا لفافات القطن عن ساقي حدق في قدمي، وأنا حدقت كذلك، فقد كانتا سوداوين كساقي زنجي.
ودوى صوت البروفيسور: "أيها السويدي الشقي، من أين أتيت بحق الشيطان؟" 
وألقى علي نظرة قلقة من عينيه الزرقاوين الحنونتين جعلتني أشعر بالخجل تماما من نفسي. قلت إني كنت أقضي إجازة علاج في سويسرا، وقد أصبت بهذا الحادث على الجبل، كما يحدث تماما لأي سائح، وأنا آسف جدا.
"لكنه.. هنا، إنه بالتأكيد هنا!"، صرخ الطبيب الداخلي، وهو يخرج الفيغارو من جيب سترته، وراح يقرأ بصوت عال برقية من شاموني عن نجاة أجنبي بمعجزة بعد أن جرفه مع دليليه انهيار ثلجي على منحدرات مون بلان. 
"اسم الرعد، اسم اسم اسم! دعني وحدي أيها السويدي الشقي، ماذا تفعل هنا، اذهب إلى مأوى  سانت آن للمجانين!"
وتابع كلامه وهو يضمد الجرح الفظيع في أعلى جمجمتي: "دعني أثبت لك أنها جمجمة دب من أرض اللاب، إنها ضربة صاعقة يمكن أن تدوخ فيلا، لكن بلا كسر، ولا حتى ارتجاج بالمخ! لماذا أخذت تلك الرحلة الطويلة إلى شاموني، لمَ لم تصعد إلى قمة برج نوتر-دام وتلقي بنفسك إلى الميدان تحت نوافذنا، فما من خطر هناك ما دمت تقع على رأسك!"
كنت مسرورا لأن البروفيسور مازحني وكأنها علامة مؤكدة على أني كنت في عنايته الناجعة. وأردت أن أمضي بالعربة مباشرة إلى شارع ڤيليير، لكن تيللو رأى أن علي أن أنعم بمزيد من الراحة في غرفة مستقلة لمدة يومين. من المؤكد أني كنت أسوأ طالب لديه، وهو ما زال يعلمني ما يكفي من الجراحة ليجعلني أتأكد أنه يعتزم أن يبتر أحد أعضائي. وعلى مدى خمسة أيام كان يأتي ليعاين ساقي ثلاث مرات في اليوم، وفي اليوم السادس كنت على أريكتي في شارع ڤيليير وقد زال الخطر. كانت عقوبتي قاسية على أية حال، فقد بقيت مستلقيا طوال ستة أسابيع، وغدوت عصبيا إلى درجة أني كتبت كتابا – لا تخف، فطبعته نفدت. ورحت أثب على عكازين لمدة شهر آخر، ثم أصبحت على أحسن ما يرام.
إني أرتعد لدى التفكير بما كان سيحدث لي لو أني وقعت بين يدي واحد من أولئك الجراحين القياديين الآخرين في باريس في تلك الأيام. وإن بابا روشيه العجوز في الجناح الآخر من أوتيل ديو كان سيودي بي إلى الموت بالغرغرينا أو بتسمم الدم، وهو اختصاصه، وهذا كل ما هو معروف عن طريقته في العلاج، وهي من القرون الوسطى. والبروفيسور بيان، الجزار الرهيب في مستشفى سان لويس كان يمكن أن يبتر فورا ساقي كلتيهما ويرميهما فوق أشلاء الأذرع والسيقان وأنصاف الدزينات من المبايض والأرحام ومختلف الأورام، وكلها في كومة على أرض مدرجه الملطخة بالدم وكأنها مسلخ. وبعدئذ سيغمس مبضعه ببراعة مشعوذ في ضحيته التالية، وهي نصف واعية تحت تخديره غير الكافي، ويداه الضخمتان ما تزالان مضرجتين بحمرة دمي، بينما يزعق رعبا على حمالاتهم نصف دزينة من آخرين ينتظرون دورهم من العذاب. وتنتهي المجزرة بالجملة، فيمسح بيان العرق عن جبينه، ويفرك بقعا قليلة من الدم والقيح عن صدريته وسترته – فهو يعمل دائما في لباس المساء – وإلى جانبه: "يكفي لهذا اليوم، مسيو!" ثم يندفع خارجا من المدرج إلى عربته الفخمة ليقودها بأقصى سرعة إلى عيادته الخاصة في شارع الصحة ليبقر بطون نصف دزينة من النسوة المدفوعات إلى هناك بإعلان ضخم كخراف عاجزة تساق إلى مسلخ لا ڤيليت.

----------------------
( 1) Loden:  نسيج من الصوف الخشن. (W)
  (2) Landau: عربة ذات غطاء متحرك قابل للطي. (المورد)
( 3) Jungfrau:  (هكذا وردت بالألمانية ومعناها:  العذراء) وقد أضفت (الآنسة) لإيضاح الدلالة.
( 4) Walkyrie:  أسطورة ودراما جرمانية شمالية عن عذارى أودين اللواتي يقررن من يقتل ومن ينجو في المعركة.

--------------------

هذه الملحمة الإنسانية  لاكسيل مونتي يصعب أن نَفيها حقها في مقالة موجزة، خاصة وهو يعبر بعمق وألم عن المعركة الدائرة بين الموت والحياة... فالمعركة منظمة في أدق تفاصيلها وفق قانون من التوازن بين الحياة والموت لا يقبل التغيير... لذا أترك للقارئ متعة قراءتها، كما استمتعت. محمد أحمد السويدي
بتكليف ورعاية من الشاعر الإماراتي محمد أحمد السويدي، وبدافع من حب المعرفة والسعي لنشرها قامت القرية الإلكترونية بتوفير هذه النسخة من قصة سان ميشيل مترجمة باللغة العربية – ترجمها علي كنعان. (جميع الحقوق محفوظة)
صفحتنا الرسمية في فيس بوك :
منصتنا في جوجل بلس لمتابعة باقي مشروعاتنا 

No comments:

Post a Comment