Wednesday, March 6, 2019

قصة سان ميشيل لأكسِل مونتي - الحلقة رقم 13 - الڤيكونت موريس





قصة سان ميشيل لأكسِل مونتي
                                       ترجمة:  علي كنعان
الحلقة رقم (13) 
XIV
الڤيكونت موريس

لم أتزوج ولم ألجأ للشراب، بل اخترت شيئا آخر. لقد تخليت عن شارع ڤيليير نهائيا. جاءت روزالي بالشاي والفيغارو إلى غرفة نومي في الساعة السابعة، وبعد نصف ساعة كنت أمضي  خارجا ولم أعد لاستشاراتي حتى الثانية. ومن جديد خرجت مع آخر مريض لأرجع في وقت متأخر من الليل، أدب متسللا إلى غرفة نومي كلص. ضاعفت أجرة روزالي، فالتزمت بوظيفتها. لكنها شكت من أنها لا تعمل شيئا إلا أن تفتح الباب. أما نفض السجاد، إصلاح ملابسي، تنظيف أحذيتي، غسل الأغطية الكتانية، طهو طعامي وكل شيء آخر.. كانت تقوم به مامسل أغاتا. ومن إدراكها لضرورة التواصل بينها وبين العالم الخارجي وحاجتها للشجار مع شخص ما تحت يدها، فقد تقبلت وجود روزالي باستسلام مقيت. وقد ابتسمت لها مرة، قالت روزالي وفي صوتها نبرة من الارتعاش. وسرعان ما هجر توم شارع ڤيليير أيضا خوفا من مامسل أغاتا. كان يمضي أيامه متنقلا معي في العربة لزيارة المرضى، ونادرا ما تناول وجبة في المنزل، ولم يدخل المطبخ قطّ كما تحب جميع الكلاب أن تفعل. وحالما يرجع من عمله اليومي، كان ينسل إلى سلته في غرفة نومي حيث يعرف أنه في أمان نسبي. ومع ازدياد عملي، فقد صار أصعب فأصعب أن نختلس وقتا لنزهتنا المعتادة بعد ظهيرة الأحد في حديقة بولونيا. إن الكلاب مثل الناس بحاجة ماسة لتنشق أمنا الأرض بين حين وآخر ليحافظوا على أمزجتهم النفسية. فلا شيء أجمل من جولة سريعة بين الأشجار الحميمة وإن كانت نصف مشذبة كما في أشجار حديقة بولونيا، ولعبة الاختباء والبحث بين الأدغال عرضا مع صاحب شارد. وبينما كنا نتمشى، يوما،  في ممر جانبي مستأنسين بصحبة ممتعة، سمعنا فجأة من ورائنا لهاثا يائسا وتنفسا صعبا مصحوبا بنوبات سعال واختناق. حسبت أنها حالة ربو، لكن توم شخصها فورا بأنها حالة نصف اختناق لكلب صغير، بلدغ أو بج، وهو يجري بسرعة قصوى متوسلا بآخر نفس أن ننتظره. وبعد دقيقة انهار لولو عند قدمي، وهو عاجز عن التنفس من فرط السمنة، ولا يقوى على الكلام من شدة الإرهاق، وكاد لسانه الأسود أن يندلق من فمه، وقد جحظت عيناه المحتنقتان بالدم من محجريهما، بهجة وانفعالا.
"لولو! لولو!" زعق صوت يائس من عربة منطلقة على الطريق العام. 
وصاح خادم وهو يعدو نحونا من وراء الأجمة: "لولو! لولو!" وقال الخادم إنه كان يواكب  المركيزة ولولو في الدقائق الخمس من نزهتهما المعتادة بجانب العربة، لما بدأ لولو فجأة يتنشق بهياج في كل اتجاه، ثم اندفع بين الأشجار بتلك السرعة حتى غاب عن النظر حالا. عادت الخادمة بالمركيزة إلى العربة وهي في حالة إغماء، وهو بنفسه أمضى نصف ساعة مفتشا عن لولو بينما كان سائق العربة يخب على الطريق العام ذهابا وإيابا، سائلا كل عابر عن لولو. وانفجرت المركيزة بفيض من دموع الفرح، حين وضعت لولو في حضنها، وهو ما يزال عاجزا   عن الكلام من ضيق التنفس. وقالت وهي تنشج إنه معرض للإصابة بالسكتة. وصحت في أذنها عبر البوق أنه في حالة انفعال، لا أكثر. والحقيقة أنه كان على وشك السكتة كما يمكن لبج سمين أن يكون عرضة لها. ولقد قبلت دعوة سيدته لتناول الشاي معها، إذ كان الأمر إلزاميا بكليته. ولما وثب توم إلى حضني، اجتاحت لولو نوبة من الغيظ كادت تخنقه. وفي بقية الطريق كان يستلقي بلا حراك في حضن سيدته وهو في حالة انهيار تام، يرمق توم بإحدى عينيه بضراوة، ويغمزني بمحبة بالأخرى.
قالت العين: "لقد تشممت كثيرا من الأشياء في حياتي، لكني لا أستطع أن أنسى أبدا رائحتك الخاصة جدا، وأنا أحبها أكثر من رائحة أي شخص آخر. يا لفرحتي أن أجدك أخيرا! هلا أخذتني في حضتك بدلا من ذلك الهجين. لا خوف، فسأتدبر أمره حالما أسترد أنفاسي!"
وقال توم بشموخ: "لا يهمني ما تقول، أيها المسخ الصغير الأفطس. لم أر منظرا كهذا قطّ، إنه يكاد يجعلني خجلا أن أكون كلبا! إن بطلا ذكيا مثلي من نوع البودل لا يهر متهافتا على السجق، لكن عليك أن تضبط لسانك الأسود لئلا يندلق من فمك البشع تماما".
وبعد كوبنا الثاني من الشاي، دخل مسيو لابيه قاعة الاستقبال في زيارته المعتادة بعد الظهر. وقد لامني الراهب اللطيف لأني لم أخبره بعودتي إلى باريس. كان الكونت يسأل عني غالبا وسيكون مسرورا برؤيتي. وكانت الكونتيسة قد ذهبت إلى مونت كارلو لتغيير الجو. والكونتيسة الآن في حالة صحية ونفسية ممتازة. ومن المؤسف أنه لا يستطيع أن يقول الشيء ذاته في شأن الكونت الذي عاد إلى حياة الخمول، قابعا النهار بطوله في كرسيه وهو يدخن غليونه. ويظن القس أن الڤيكونت موريس كان مغتاظا مني لأني ضحكت عليه بمثل تلك النكتة السمجة في شاتو رامو. فقد أوحيت له ولطبيب تلك القرية الصغيرة أن يعتقدا أنه مصاب بالقولنج لكي أمنعه من الحصول على الميدالية الذهبية في منافسة الرماية التي أجرتها جمعية تير الفرنسية. ورجاني القس أن أبقى بعيد عن طريقه، فهو معروف بمزاجه العنيف الذي لا يمكن التحكم به، وهو في خصام دائم مع الناس، ومنذ أقل من شهر مضى اشتبك في مبارزة أخرى، ولا يعلم إلا الله ماذا يمكن أن يحدث لو قابلني.
قلت: "لا يمكن أن يحدث أي شيء. وليس لدي ما أخافه من هذا البهيمة، لأنه هو الذي يخاف مني. لقد أثبت الخريف الماضي في حجرة التدخين في شاتو رامو أني كنت أقوى من الاثنين، وأنا مسرور أن أسمع منك أنه لما ينس درسه بعد. إن تفوقه الوحيد علي هو أنه قادر أن يرمي بمسدسه عن بعد خمسين يردة سنونوة أو قبرة، في حين أني من المحتمل أن أخطئ فيلا من المسافة ذاتها. لكنه ليس ميالا أبدا لاغتنام تفوقه هذا، وهو لن يتحداني إطلاقا لأنه يعتبرني أدنى  منه اجتماعيا. أنت ذكرت التنويم المغنطيسي بالإيحاء، وأنا قرفت من هذه الكلمة بذاتها، وهي كثيرا ما ترمى في وجهي لأني كنت طالبا لدى شاركو. افهموا، مرة وإلى الأبد، أن كل هذا الهراء عن قوة الإيحاء نظرية تمت دراستها وأنكرها العلم الحديث. وهي ليست حالة إيحاء، إنما حالة خيال. هذا الأحمق يتصور أني قمت بتنويمه مغنطيسيا، ولست أنا الذي وضع هذه الفكرة السخيفة في رأسه، بل هو الذي وضعها بنفسه، ونحن نسميها الإيحاء-الذاتي. وهذا هو الأفضل لي. فهو يجعله أضعف من أن يؤذيني وجها لوجه، على الأقل".
"لكن، هل بوسعك أن تنومه إذا أردت أن تفعل ذلك؟"
"نعم، بسهولة، وهو يستجيب لذلك بشكل ممتاز، وسيكون شاركو مسرورا لعرضه في محاضراته يوم الثلاثاء في سالبيتريير".
"بما أنك تقول أن لا وجود لما يسمى قوة الإيحاء، هل تقصد أن بإمكاني مثلا أن أجعله يطيع أوامري كما يطيع أوامرك؟" 
"نعم، من المسلم به أنه يعتقد أنك تمتلك هذه القوة، وهو واثق أنه لا يؤمن بها".
"لمَ لا؟"
"الصعوبة الحقيقية تبدأ هنا، والجواب المقنع لسؤالك لا يعطى اليوم. هذا علم جديد نسبيا، وهو ما زال في طفولته".
"أيمكنك أن تدفعه إلى ارتكاب جريمة؟"
"لا، ما لم يكن قادرا على ارتكاب مثل هذه الجريمة بمبادرته هو بذاته. وبما أني مقتنع أن لهذا الرجل ميولا إجرامية، فالجواب في هذه الحالة الخاصة هو بالإيجاب".
"وهل يمكنك أن تجعله يتخلى عن الكونتيسة؟"
"لا، ما لم يكن هو نفسه راغبا بذلك وخاضعا لعلاج منهجي بإيحاء التنويم المغنطيسي. وحتى في هذه الحالة سيأخذ وقتا طويلا، لأن الغريزة الجنسية أعتى قوة في طبيعة البشر".
"عدني أن تبقى بعيدا عن طريقه، فهو يقول إنه سيجلدك بالسوط في أول لقاء له معك".
"مرحبا به، فليحاول. وأنا أعرف كيف أتعامل مع طارئ كهذا، فلا تشغل بالك. إني قادر تماما على العناية بنفسي".
"من حسن الحظ أنه مع فرقته في تور، وليس من المحتمل أن يرجع إلى باريس إلا بعد وقت طويل".
"أبانا العزيز، أنت أشد سذاجة مما كنت أظن، هو بالفعل في مونت كارلو مع الكونتيسة وسوف يعود إلى باريس عندما ترجع بعد أن يروق الجو".

في اليوم التالي تماما استدعوني لأرى الكونت باستشارة خاصة. كان القس مصيبا، فقد وجدت الكونت في حالة مضطربة جسديا وعقليا. فليس في وسعك أن تفعل الكثير لرجل متقدم في السن يقعد في كرسيه طوال اليوم يدخن سيجاره بلا انقطاع، ولا يفكر إلا بزوجته الشابة الجميلة التي سافرت إلى مونت كارلو لتغيير الجو. ولا تستطيع أن تفعل الكثير له أيضا حين تعود لتستأنف مركزها المرموق كسيدة من أشد السيدات في مجتمع باريس حظوة بالإعجاب والاشتهاء، وهي تقضي نهاراتها في أرقى المحلات تجرب حللا جديدة وتمضي أمسياتها بين المسارح والمراقص، بعد قبلة باردة كالصقيع على وجنة الزوج، قبلة "ليلة سعيدة". وكلما رأيت الكونت أزداد محبة له، فقد كان في كماله من أعظم ما رأيت في حياتي من طراز أرستوقراطي فرنسي في النظام القديم. والسبب الفعلي لمحبتي إياه كان بلا ريب شعوري بالأسف عليه. ولم يكن ليتضح لدي في تلك الأيام أن أولئك الناس الذين أحبهم فعلا كانوا ممن أرثي لهم. وأظن أن ذلك هو السبب في أني لم أحب الكونتيسة أول مرة رأيتها فيها، ذلك أني رأيتها ثانية بعد لقائنا الأخير تحت أشجار الليمون في حديقة شاتو رامو لما كان القمر بدرا وأنقذتني البومة من أن أتعلق بحبها أكثر مما ينبغي. لا، لم أحبها إطلاقا وأنا جالس أرقبها بجانب القس، عبر مائدة غرفة الطعام، وهي تضحك بمرح من نكات الكونت موريس السخيفة، وكان بعضها عني شخصيا، كما استنتجت من نظرته الشزراء المتغطرسة نحوي. ولم يقل لي أي منهما كلمة واحدة. وإشارة التقدير الوحيدة التي تلقيتها من الكونتيسة كانت مصافحتها لي وهي شاردة قبل الغداء. وقد تجاهل الكونت وجودي كليا. كانت الكونتيسة في جمالها كما هو دائما، لكنها لم تكن المرأة ذاتها. كانت تبدو في صحة ممتازة ومزاج رائع، ولم يكن في عينيها الواسعتين أي أثر من تعبير الشوق. ولدى النظرة الأولى، رأيت أن هناك قمرا، بدرا في حديقة مونت كارلو ولا من بومة منذرة في أشجار الليمون. وبدا الكونت موريس مسرورا بنفسه بشكل استثنائي، وكان ثمة مظهر لا تخطئه العين للبطل الفاتح في هيئته كلها التي كانت مغيظة إلى أبعد حد. 
وقلت للقس ونحن جالسان في حجرة التدخين بعد الغداء: "المسألة أن الحب أعمى بكل تأكيد، إن كان هذا يعد حبا. إنها جديرة بمصير أفضل من الوقوع بين ذراعي هذا الأحمق المنحط".
"هل تعلم أن الكونت دفع له ديونه في القمار منذ أقل من شهر لينقذه من تسريح الجيش له، وهناك إشاعة عن شيك يمس الشرف. ويقولون إنه ينفق مبالغ خرافية على مومس مشهورة. تصور أن هذا هو الرجل الذي سيأخذ الكونتيسة الليلة إلى رقصة بالأقنعة في الأوبرا".
"كم أتمنى لو كنت راميا".
"لا تتكلم هكذا، بحق السماء. أتمنى أن تذهب بعيدا، لأنه سيأتي إلى هنا بالتأكيد لتناول البراندي والصودا".
"الأفضل له أن يحذر من البراندي والصودا، ألم تلاحظ كيف كانت يده ترتعش لما وضع دواءه المسموح له به في كأس النبيذ؟ وعلى أية حال، فتلك بشارة حسنة للسنونوات والقبرات. لا تنظر بقلق هكذا نحو الباب، إنه يمضي وقتا ممتعا وهو يمارس الحب مع الكونتيسة في قاعة الاستقبال. وعدا عن ذلك، فأنا سأذهب وعربتي عند الباب".
صعدت الدرج لأرى الكونت لحظة قبل المغادرة، فوجدته في السرير، وقال إنه نعسان جدا، يا له من رجل محظوظ! وبينما كنت أرجو له ليلة سعيدة، سمعت عواء كلب يائسا في الأسفل. كنت أعرف أن توم ينتظرني في زاويته المعتادة من القاعة بدعوة دائمة من الكونت الذي كان محبا جدًّا للكلاب وقد أعد له سجادة ليكون مرتاحا. هبطت الدرج وثبا بأقصى سرعة. كان توم يتكور متلويا بجانب الباب الخارجي وهو يئن واهنا، والدم يتدفق من فمه. وكان الكونت موريس يقف منحنيا فوقه وهو يركله بغيظ. فانقضضت على المتوحش بصورة مباغتة افقدته توازنه فتدحرج على الأرض. وبضربة ثانية مسددة بإحكام طرحته أرضا من جديد، بينما كان يحاول الوقوف على قدميه. التقطت قبعتي ومعطفي منطلقا إلى عربتي والكلب بين ذراعي أقودها  بأقصى سرعة إلى شارع ڤيليير. كان واضحا من البداية أن الكلب يعاني من جراح داخلية. سهرت معه طوال الليل، وكان تنفسه يزداد عسرا شيئا فشيئا، والنزف لم يتوقف أبدا. وفي الصباح أطلقت النار على صديقي الوفي بنفسي لأريحه من معاناة أقسى.

كان أمرا سارا لي حين تلقيت بعد الظهر رسالة من ضابطين زميلين للڤيكونت موريس يلتمسان فيها أن نكون على تواصل ومعي اثنان، فقد قرر الڤيكونت بعد تردد أن يمنحني شرف كذا.. وكيت.
ولقد أفلحت بمشقة في إقناع الكولونيل ستاف، الملحق العسكري السويدي، أن يكون شاهدي خلال هذه المهمة. وكان الثاني صديقي الرسام الفلندي الشهير إدلفيلد. وكان على نورستروم أن يساعدني كجراح.
قلت لنورستروم ونحن جالسان إلى مائدة الغداء المعتادة في مقهى ريجنس: "لم أنعم في حياتي من قبل بمثل هذا الحظ الذي واتاني في هذه الساعات الأربع والعشرين الأخيرة. وأبوح لك بصدق أني كنت خائفا بصورة فظيعة أن أقع في حالة خوف. وبدلا من ذلك، فإن فضولي لمعرفة كيف سأواجه الموسيقا قد شغلت أفكاري باستمرار إلى درجة أني لم يكن لدي وقت للتفكير بأي شيء آخر. وأنت أدرى بمدى اهتمامي بعلم النفس".
في ذلك المساء، لم يكن نورستروم مهتما بعلم النفس بكل وضوح، وفوق ذلك فهو لم يكن مهتما به من قبل إطلاقا. كان ساكتا على غير عادته وكئيبا. ولمحت في عينيه الغائمتين تعبيرا حنونا لا ريب فيه، وهذا ما كاد يجعلني أشعر بالخجل من نفسي. 
وقال لي بصوت شبه مبحوح: "اسمع، يا أكسل، اسمع..".
"لا تنظر إلي هكذا؛ وفوق كل شيء لا تكن رقيق العاطفة، إنها لا تناسب جمال أسلوبك. حك رأسك العجوز الساذج وحاول أن تفهم الوضع. كيف يمكنك أن تتصور ولو لحظة أن أكون بمثل تلك الحماقة لأجابه هذا المتوحش صباح غد في غابة سانت كلود ما لم أعرف أنه لا يستطيع أن يقتلني. الفكرة أسخف من أن نفكر فيها لحظة واحدة. وهذه المبارزات الفرنسية، عدا عن ذلك، هي مسخرة تماما، وأنت تعرفها جيدا كما أعرفها. ونحن كلانا قمنا كطبيبين بإسعاف أكثر من واحد في هذه الأعمال المسرحية حيث يقوم الممثلون بين حين وآخر بالتسديد  على شجرة بدل أن يضرب واحدهم الآخر. دعنا نتناول قارورة الشمبانيا ونمضي مباشرة للنوم، البرغاندي تجلب لي النعاس، فأنا لم أنعم بالنوم إلا نادرا منذ مات كلبي المسكين، وعلي أن أنام الليلة بأي ثمن".
كان الصباح باردا وضبابيا. وكان نبضي ثابتا في الثمانين لكني شعرت باختلاج غريب في ربلتي ساقي وصعوبة كبيرة في التكلم، وحاولت جاهدا ولم أفلح في تجرع قطرة واحدة من قارورة  البراندي التي ناولني إياها نورستروم من جيبه لدى خروجي من العربة. وشعرت بانزعاج شديد من الشكليات التمهيدية لأني لم أفهم كلمة مما كانوا يتحدثون عنه. وفكرت:  كم كان سخيفا كل هذا، وكم فيه من وقت مهدور، ألم يكن أبسط من ذلك بكثير لو تلقى جلدة معتبرة على الطريقة الإنجليزية وانتهى الأمر! وقال أحدهم إن الضباب لم ينقشع بما يكفي ليسمح برؤية واضحة. وأدهشني أن أسمع ذلك، لأن الضباب بدا لي أشد كثافة من أي وقت مضى. وكنت ما أزال قادرا على رؤية الڤيكونت موريس بوضوح واقفا أمامي بهيئته المعتادة من اللامبالاة الوقحة، والسيجارة  بين شفتيه، وهو في غاية الاطمئنان، على ما حسبت. في تلك اللحظة طفق أبو الحناء يغرد من الأجمة ورائي، فتساءلت ما الذي دفع هذا الخل الصغير أن يفعل ذلك في هذا الوقت المتأخر من السنة في غابة سان كلود، بينما كان الكولونيل ستاف يضع مسدسا طويلا في يدي.
وهمس: "سدد إلى الأسفل!"
"نار!" زعق صوت حاد.
سمعت طلقة. ورأيت الڤيكونت يدع سيجارته تسقط من شفتيه والبروفيسور لابيه يندفع بسرعة نحوه. وبعد لحظة ألفيت نفسي جالسا في عربة الكولونيل ستاف ونورستروم على المقعد المقابل، وعلى وجهه تكشيرة عريضة. ربت الكولونيل على كتفي، ولكن لم يتكلم أحد.
"ماذا جرى، ولماذا لم يطلق؟ أنا لن أقبل أي رأفة من هذا المتوحش، وأنا سأتحداه بدوري، أنا سوف..". 
قاطعني الكولونيل: "أنت لن تقوم بأي شيء من هذا القبيل، وعليك أن تشكر الله لنجاتك بأعجوبة". لقد حاول جاهدا أن يقتلك، وكان يتمنى أن يقوم بذلك لو أنك منحته الوقت لطلقة ثانية. من حسن الحظ أنك أطلقت في الوقت ذاته. ولو انتظرت جزءا من الثانية لما كنت جالسا بجانبي الآن. ألم تسمع الرصاصة تئز من فوق رأسك؟ انظر!"
وحالما تطلعت إلى قبعتي، بدأ فجأة إسدال الستارة على عملي البطولي. وبتجريد ذلك الدعي من مكياج شجاعته التشنجية المريضة، ظهر الرجل الحقيقي، الرجل الذي كان خائفا من الموت. ولم ألبث أن غصت في زاويتي من العربة وأنا أرتعش من الخوف.
وتابع الكولونيل: "أنا فخور بك، يا صديقي الشاب. كان من الجيد لقلب جندي عجوز مثلي أن يراقبك، ولم يكن في مقدوري أن أفعل أفضل من ذلك! لما هاجمنا البروسيين في غراڤلوت..". 
لكن اصطكاك أسناني حال دون التقاط بقية الجملة. شعرت بالوهن والإغماء، وأردت أن أطلب من نورستروم أن يفتح النافذة لنسمة هواء، لكني لم أتمكن أن أنطق بكلمة. أردت أن أفتح الباب ركلا وأندفع هاربا كأرنب، لكني لم أستطع تحريك ذراعي أو ساقي.
وقال نورستروم بضحكة خافتة: "لقد فقد كثيرا من الدم، والبروفيسور لابيه قال إن الرصاصة مرت بلا عائق من أسفل الرئة اليمنى، وهو سيكون محظوظا إذا نجا خلال شهرين وهو طريح الفراش".
توقف اصطكاك أسناني حالا، وأصغيت بانتباه.
"لم أكن أعلم أنك رامٍ ماهر"، قال الكولونيل الشهم. "لماذا قلت لي أنك لم تستعمل مسدسا أبدا من قبل؟"
وفجأة انفجرت بقهقهة صاخبة، ولم أدرك أقل سبب لذلك. 
قال الكلونيل عابسا: "لا سبب للضحك، لقد أصيب الرجل بجرح خطير، والبروفيسور لابيه يبدو قلقا جدا، وربما انتهى الأمر إلى مأساة".
قلت وقد استعدت القدرة على الكلام بأعجوبة: "إنه يستحق أسوأ من هذا، لقد رفس كلبي الودود المسالم حتى الموت، وهو يمضي ساعات فراغه في قتل الخطاطيف والقبرات، وهو يستحق بكل ما ينوبه. هل تعلم أن محكمة أثينا العليا حكمت بالموت على صبي لأنه سمل عيني عصفور؟" 
"لكنك لست محكمة أثينا العليا".
"لا، ولكني كذلك لست سبب موت هذا الرجل، إذا حدث الأدهى. وأنا لم يكن لدي حتى الوقت لأسدد عليه، فالمسدس انطلق من تلقاء نفسه كليا. لست أنا من أرسل تلك الرصاصة إلى رئته، بل كان أي شخص آخر. وفوق ذلك، بما أنك آسف إلى هذا الحد من أجل هذا  المتوحش، فهل لي أن أسأل إن كنت تبغي أن أخطئه حتى همست في أذني أن أسدد للأسفل لما ناولتني المسددس؟"
وتبسم الكولونيل قائلا: "يسرني أن أسمعك وقد استعدت لسانك إلى مكانه الصحيح، أيها المتباهي العريق. لم يكن في إمكاني أن أفهم إلا بصعوبة كلمة واحدة منك وأنا أسحبك إلى داخل عربتي، ولا أنت بذاتك فهمت، ما أنا واثق منه أنك كنت تغمغم طوال الوقت بشيء ما عن أبو الحناء".

ولما دخلنا بورت ميلو كنت قد استعدت سيطرتي كاملة على أعصابي البلهاء وشعرت بالرضى عن نفسي تماما. ومع اقترابنا من شارع دي ڤيليير، تراءى لي وجه الميدوزا مامسل أغاتا خارجا من ضباب الصباح، وهي تحدق فيّ مهددة بعينيها الشاحبتين. نظرت إلى ساعتي، كانت السابعة والنصف، فازدادت شجاعتي.
وفكرت: "إنها منهمكة الآن بفرك غبرة القدم عن غطاء المائدة في غرفة الطعام. نتفة أخرى من الحظ وسأتدبر انسلالي خلسة إلى غرفة نومي وسأومئ إلى روزالي لتحضر لي كوب الشاي".
جاءت روزالي على رؤوس أصابع قدميها حاملة فطوري و"الفيغارو".
"روزالي، أنت من صخر( 1)! بحق السماء، دعيها خارج القاعة، أعني أن تنصرف خلال نصف ساعة. روزالي الطيبة، أعطيني فرشاة قبل أن تذهبي، أنا بحاجة ماسة إليها". 
"لكن سيدي لا يمكن أن يذهب فعلا لزيارة مرضاه بهذه القبعة العتيقة، انظر! هناك ثقب دائري في مقدمتها، وهنا ثقب آخر من خلف، يا للعجب! لا يمكن أن يكون بفعل عثة، البيت كله يعج  برائحة النفثلين الكريهة منذ أن جاءت مامسل أغاتا. أيمكن أن يكون من جرذ؟ غرفة مامسل أغاتا ملأى بالجرذان، مامسل أغاتا تحب الجرذان".
"لا، يا روزالي، إنها خنفساء الموت، ولها أسنان صلبة كالفولاذ وهي قادرة على فتح ثقب كهذا في جمجمة إنسان كما في قبعته، إذا لم يكن الحظ إلى جانبه".
لماذا لا يعطي القبعة سيدي إلى دون غاتانو العجوز، عازف الرغن اليدوي، اليوم موعد مجيئه ليعزف تحت الشرفة".
"يسرني أن تعطيه أي قبعة تحبين ولكن ليست هذه، فأنا أريد الاحتفاظ بها، ومن الخير لي أن أنظر إلى هذين الثقبين، فهما يعنيان الحظ السعيد".
"لماذا لا يبحث سيدي عن قبعة رسمية مثل الأطباء الآخرين، إنها أكثر أناقة إلى حد بعيد".
"ليست القبعة هي التي ترفع من شأن الرجل، ولكنه الرأس. ورأسي على أحسن ما يرام ما دمت قادراً على إبعاد مامسل أغاتا عن ناظري".
------------------------
(1 ) في النص:  Brick، أي (آجر) وهو لا يوحي بالصلابة، وقد آثرت الصخر لأنه يدل بالعربية على القوة والصلابة.

--------------------

هذه الملحمة الإنسانية  لاكسيل مونتي يصعب أن نَفيها حقها في مقالة موجزة، خاصة وهو يعبر بعمق وألم عن المعركة الدائرة بين الموت والحياة... فالمعركة منظمة في أدق تفاصيلها وفق قانون من التوازن بين الحياة والموت لا يقبل التغيير... لذا أترك للقارئ متعة قراءتها، كما استمتعت. محمد أحمد السويدي
بتكليف ورعاية من الشاعر الإماراتي محمد أحمد السويدي، وبدافع من حب المعرفة والسعي لنشرها قامت القرية الإلكترونية بتوفير هذه النسخة من قصة سان ميشيل مترجمة باللغة العربية – ترجمها علي كنعان. (جميع الحقوق محفوظة)
صفحتنا الرسمية في فيس بوك :
منصتنا في جوجل بلس لمتابعة باقي مشروعاتنا 

No comments:

Post a Comment