Wednesday, March 6, 2019

قصة سان ميشيل لأكسِل مونتي - الحلقة رقم 14 - جون





قصة سان ميشيل لأكسِل مونتي
                                       ترجمة:  علي كنعان
الحلقة رقم (14) 
XV
جون


جلست لتناول فطوري وتصفح الفيغارو. ما من شيء مهم. وفجأة وقعت عيناي على التقرير التالي تحت عنوان رئيسي عريض: قضية فظيعة.

"جرى اعتقال مدام ريكان، وهي سيدة عاقلة من الطبقة الأولى في شارع غرانيه، لعلاقتها بموت فتاة صغيرة في ظروف مريبة. وهناك أيضا أمر باعتقال طبيب أجنبي كان قد غادر البلاد من قبل، خوفا من الاعتقال. ومدام ريكان متهمة أيضا باختفاء عدد من الأطفال المولودين حديثا وكانوا في عهدتها".

سقطت الصحيفة من يدي. مدام ريكان، سيدة عاقلة من الطبقة الأولى في شارع غرانيه! ما أكثر المكابدات التي حاقت بي، وما أكثر المآسي التي وقعت أمام عيني خلال هذه السنوات الأخيرة حتى إني نسيت كل ما يتعلق بشأنها. وبينما كنت جالسا هناك أحدق في تقرير الفيغارو، عادت إليَّ الوقائع كلها حية وكأنها حدثت البارحة بدلا من ثلاث سنوات مضت، في تلك الليلة المرعبة التي تعرفت بها إلى مدام ريكان. وأثناء جلوسي أرتشف الشاي وأقرأ الخبر في الفيغارو مرارا وتكرارا، شعرت بمسرة عظيمة أن أعلم أن هذه المرأة الرهيبة قد ألقي القبض علىها أخيرا. وشعرت بسرور مماثل لما تذكرت أني، في تلك الليلة التي لا تنسى، أتيح لي أن أنقذ حياتين، حياة الأم وحياة طفل من تعرضهما للقتل على يد تلك المرأة وشريكها الوضيع. ولمعت فجأة في رأسي فكرة أخرى. ماذا فعلت لهذين الكائنين اللذين كنت سببا في حياتهما؟ ماذا فعلت لهذه الأم التي كان قد تخلى عنها رجل آخر وهي في أمس الحاجة إليه؟
"جون! جون!" كانت تهتف تحت المخدر بنبرة يائسة: "جون! جون!"
هل قمت بعمل أفضل منه؟ ألم أتخلَّ عنها أيضا وهي في أمس الحاجة إلي؟ أي الآلام المبرحة التي لا ينبغي أن تكون كابدتها قبل أن تقع في أيدي هذه المرأة الرهيبة وذلك المتوحش من زملائي، الذي كان سيقتلها لو لم تكن في رعايتي؟ وأي العذابات التي لم تمر بها حين استردت وعيها وصحت على ذلك الواقع المروع الذي كان يحيط بها؟ والطفل شبه المختنق الذي نظر إلي بعينيه الزرقاوين حين استنشق أول نفس أمده بهواء الحياة الذي كنت أنفخه في رئتيه وشفتاي على شفتيه! ماذا فعلت له؟ لقد انتزعته من حضن الموت الرحيم لأرميه بين ذراعي مدام ريكان! كم من الأطفال حديثي الولادة رضعوا الموت قبل ذلك من صدرها الفظيع؟ ماذا فعلت بالطفل الصغير ذي العينين الزرقاوين؟ هل كان بين الثمانين بالمئة من المسافرين الصغار العاجزين في "قطار المرضعات" الذين ماتوا وفق الإحصائيات الرسمية خلال السنة الأولى من حياتهم، أو بين العشرين بالمئة الباقية الذين ربما عاشوا حتى في مصير أفظع؟ 
وبعد ساعة تقدمت بالتماس وحصلت من سلطات السجن على إذن بزيارة مدام ريكان. لقد عرفتني فورا وأبدت لي ترحيبا وديا بشكل ضايقني فعلا أمام ضابط السجن الذي رافقني إلى زنزانتها.
كان الصبي في النورماندي وهو سعيد جدا، وقد تلقت أخبارا ممتازة عنه من الوالدين اللذين يقومان بتربيته وهما يحبانه بعمق. ولسوء الحظ لم تستطع الحصول على عنوانهم، فهناك بعض التشويش في سجلها. ومن الممكن، وليس من المرجح، أن يتذكر زوجها عنوانهم.
شعرت بأن الصبي كان ميتا بالتأكيد، ولكن لئلا أترك أي شيء سائبا قلت لها بحزم إني إذا لم أستلم عنوان الوالدين المربيين في ثمان وأربعين ساعة سأتقدم إلى السلطات اتهامها بمقتل الصبي وكذلك بسرقة دبوس ماس ثمين تركته في عهدتها. وقد حاولت أن تعتصر بعض الدموع من عينيها اللامعتين ببرود وراحت تحلف أنها لم تسرق الدبوس، بل احتفظت بذكرى من تلك السيدة الشابة الجميلة التي اعتنت بها بمحبة وكأنها ابنتها ذاتها.
قلت: "أمامك ثمان وأربعون ساعة"، تاركا مدام ريكان لتأملاتها.
وفي صباح اليوم التالي، استقبلت زيارة زوج مدام ريكان الفاضل ومعه بطاقة رهن الدبوس وأسماء ثلاث قرى في النورماندي اعتادت أن ترسل إليها أطفالها في تلك السنة. وفي الحال كتبت إلى رؤساء تلك القرى المعنية، ملتمسا منهم أن يتبينوا إذا كان هناك صبي أزرق العينين في حدود الثالثة من عمره بين الأطفال الذين جرى تبنيهم في قراهم. بعد تأخر طويل استلمت جوابا بالنفي من الرئيسين، ولا جواب من الثالث. وكتبت عندئذ إلى خوارنة القرى الثلاثة، وبعد أشهر من الانتظار أعلمني خوري ڤيلاروي أنه اكتشف صبيا صغيرا لدى زوجة إسكافي يطابق وصفي. لقد وصل من باريس منذ ثلاث سنوات وله عينان زرقاوان.
لم أكن من قبل في نورماندي، وكان الوقت عيد الميلاد وفكرت في أني أستحق إجازة قصيرة. وفي يوم الميلاد فعلا طرقت باب الإسكافي. ولا من جواب. دخلت غرفة معتمة وطاولة الحذَّاء الواطئة بجوار النافذة، وقد تبعثر على الأرض جزم وأحذية، موحلة ومهترئة، من أحجام مختلفة، وبعض المعاطف الصغيرة والقمصان المغسولة حديثا كانت معلقة على حبل يتدلى من السقف لتجف. ولم يكن السرير مرتبا، والأغطية والحرامات تبدو قذرة بشكل لا يوصف. وعلى الأرضية الحجرية في المطبخ ذي الرائحة الكريهة، جلس طفل صغير نصف عار يأكل حبة بطاطا نيئة. قابلني بنظرة مروعة من عينيه الزرقاوين، وأسقط حبة البطاطا، ورفع ذراعه النحيلة بدافع غريزي كمن يتقي ضربة وزحف بأسرع ما يستطيع إلى داخل الغرفة الأخرى. أمسكت به وهو يوشك أن ينسل إلى تحت السرير، وجلست على طاولة الحذَّاء قرب النافذة لأفحص أسنانه. نعم، يمكن أن أقول إن كان الصبي في الثالثة والنصف تقريبا، هيكل عظمي صغير وذراعان وساقان نحيفتان، صدر ضيق ومعدة منتفخة إلى ضعفي حجمها. جلس ساكنا تماما في حضني، ولم يفه بأي صوت حتى عندما فتحت فمه لأفحص أسنانه. وما من شك في لون عينيه المرهقتين الكئيبتين، فقد كانتا زرقاوين كعيني ذاتهما. فتح الباب بدفعة قوية وشتيمة رهيبة وراح الحذاء يدور مترنحا في الغرفة وقد أعماه السكر. ومن ورائه وقفت امرأة في الباب المفتوح وعلى صدرها رضيع وطفلان صغيران يتعلقان بتنورتها، محدقين إلي برعب. قال الحذاء إنه مسرور إلى أبعد حد أن يتخلص من الصبي، لكنه يجب أن يستلم أولا ما دفع من المال الذي فات أوان استرداده. لقد كتب مرات إلى مدام ريكان ولم يتلقَّ أي جواب. هل كانت تظن أن عليه أن يطعم ذلك المرموط( 1) التعيس بما يكسب من عمله الشاق؟ وقالت زوجته إنها بعد أن رزقت بطفلها ولديها طفلان آخران بالأجرة، فستكون في غاية المسرة أن تتخلص من الصبي. وتمتمت للحذاء بشيء ما وراحت عيونهما تنتقل بانتباه من وجهي إلى وجه الصبي. وقد عادت النظرة المروعة ذاتها إلى عيني الصبي حالما دخلا الغرفة، وأخذت يده الصغيرة ترتعش قليلا وأنا ممسك بها في يدي. من حسن الحظ أني تذكرت في الوقت المناسب أنه عيد الميلاد فأخرجت حصانا خشبيا من جيبي. أخذه بصمت، وبطريقة من عدم الاكتراث لا تشبه أبدا سلوك أي طفل، وبدا أنه لا يعيره كثيرا من الاهتمام.
قالت زوجة الحذاء: "انظر، أي حصان جميل جلبه لك أبوك من باريس، جولز!"
"اسمه جون"، قلت.
وقالت زوجة الحذاء: "يا له من طفل كئيب! إنه لا يتفوه بأي شيء، ولا حتى "ماما"، وهو لا  يبتسم أبدا".
لففته بحرام سفري ومضيت أرى السيد الخوري الذي كان لطيفا إلى حد أنه أرسل خادمته لتشتري قميصا صوفيا وشالا مدفئا لرحلتنا.
ونظر الخوري إلي بإمعان، قائلا: 
"بما أني كاهن، فمن واجبي أن أدين وأكافح الفجور والرذيلة، لكني لا بد أن أقول لك، يا صديقي الشاب، إني أحترمك على الأقل لمحاولتك أن تكفر عن خطيئتك، وهي خطيئة فظيعة لدرجة أن العقوبة تقع على رؤوس أطفال صغار أبرياء. إنه لوقت حاسم أن تأخذه بعيدا، فقد دفنت عشرات من هؤلاء الأطفال الرضع البؤساء المهجورين، وكان ممكنا أن أدفن طفلك كذلك منذ وقت طويل. لقد أحسنت صنعا، وأنا أشكرك عليه". قال الخوري العجوز ذلك، وهو يربت على كتفي.

كنا على وشك أن يفوتنا القطار السريع إلى باريس، ولم يكن ثمة من وقت للإيضاح. لقد نام جون نوما هادئا طوال الليل ملفوفا بشاله المدفئ، بينما بقيت ساهرا بجانبه وأنا أفكر بحيرة ماذا يمكنني أن أعمل من أجله. وأعتقد بحق أن علي أن آخذه مباشرة إلى شارع ڤيليير، لولا وجود مامسيل أغاتا. وبدلا من ذلك توجهت بالعربة إلى دار حضانة القديس جوزيف في شارع السين، وكنت أعرف الراهبات جيدا. وعدن أن يحتفظن بالصبي أربعا وعشرين ساعة حتى أجد له مكانا مناسبا. كانت الراهبات على معرفة بأسرة محترمة جدا، وكان الزوج يعمل في مصنع نروجي للسمن النباتي في بانتان، وقد فقدا ابنهما الوحيد. وجدت الفكرة مناسبة لي، فواصلت طريقي إلى هناك فورا، وفي اليوم التالي كان الصبي مستقرا في بيته الجديد. بدت المرأة ذكية وقابلة، وقدرت أنها سريعة الانفعال من نظرة عينيها، لكن الراهبات قلن لي إنها كانت أما رؤوما على ولدها. أعطيتها المال الذي تريده لتجهيز ما يلزمه ودفعت ثلاثة أشهر مقدما، وذلك أقل مما أنفق على سجائري. فضلت ألا أعطيها عنواني، فالله وحده يعلم ما يمكن أن يحدث لو صار لدى مامسل أغاتا علم بوجوده. وكان على جوزفين أن تطلع الراهبات على أي خطأ طارئ أو إذا أصابه مرض. ولم يمض وقت طويل حتى جاءت بالتقرير. لقد أصيب الصبي بحمى قرمزية وأشرف على الهلاك. كان جميع الأطفال الاسكندڤانيين في حي بانتان مصابين بالحمى القرمزية، وكان علي أن أذهب إلى هناك باستمرار. والأطفال في حال الحمى القرمزية لا يحتاجون إلى أي دواء، ولا شيء إلا العناية الشديدة ودمية للنقاهة الطويلة. وقد حصل جون على الاثنين معا، لأن الأم التي ترعاه كانت لطيفة جدًّا معه بشكل جلي، وأنا تعلمت منذ وقت طويل أن أحتفظ بدمى وأحصنة خشبية في مخزون صيدليتي.
قالت جوزفين: "يا له من طفل غريب، فهو لا يقول "ماما" أبدا، ولا يتبسم إطلاقا، ولا حتى حين رأى بابا نويل الذي أرسلته له".
ومع قدوم عيد الميلاد من جديد، كان الصبي قد أمضى سنة كاملة مع أمه المربية الجديدة، سنة من المشقة والإزعاج لي، ولكنها سعادة نسبية له. كانت جوزفين عصبية المزاج بلا ريب، وغالبا ما كانت وقحة معي حين ألومها على إهمالها لترتيب الصبي أو لأنها لا تفتح النافذة أبدا. لكني لم أسمع منها أبدا كلمة قاسية موجهة له. ومع أني لا أظن أنه يهتم بها، فقد كنت أرى من عينيه أنه لا يخاف منها. كان يبدو لا مباليا، بشكل غريب، تجاه أي شخص وأي شيء. ويوما بعد يوم صرت قلقا عليه أكثر فأكثر ولم أعد راضيا عن مربيته. وعادت إلى عيني الصبي نظرة الخوف من جديد، وكان واضحا أن جوزفين بدأت تهمله أكثر فأكثر. لقد خضت معها عدة مشاجرات، وكانت تنتهي عادة إلى قولها بغضب إذا لم أكن راضيا فالأفضل أن آخذه بعيدا عنها، فهي لم تعد تحتمل المزيد منه. وأنا أفهم السبب جيدا، فقد كانت مقبلة على أن تصبح أما فعلا. وصارت أسوأ بكثير بعد ولادة طفلها، فأعلمتها أني عازم على أخذ الصبي بعيدا عنها، حالما أجد له مكانا مناسبا. وكما علمتني التجربة، فقد عقدت العزم على ألا أعرضه لمزيد من الأخطاء. بعد يومين، ولدى عودتي إلى البيت سمعت، وأنا أفتح الباب الخارجي، صوت امرأة غاضب يجلجل من غرفة الانتظار. كانت الغرفة ممتلئة بالناس المنتظرين بصبرهم الاعتيادي أن يروني. كان جون منكمشا في زاوية الكنبة إلى جانب زوجة القس الإنجليزي. وفي وسط الغرفة وقفت جوزفين وهي تتحدث بأعلى صوتها ملوحة بحركات ضارية. وحالما رأتني في المدخل اندفعت إلى الكنبة، وأمسكت بجون وقذفت به نحوي، فلم أتمالك نفسي لإمساكه بذراعي إلا بجهد.
وصرخت جوزفين: "طبعا أنا لست صالحة بما يكفي للعناية بنبيل مثلك، يا سيد جون! الأفضل أن تبقى مع الدكتور، يكفيني ما لقيت من إزعاجاته وكل أكاذيبه بأنه يتيم. ليس على المرء إلا أن ينظر إلى عينيك ليدرك من أبوك!" وأزاحت الستارة لتندفع خارجة من الغرفة وقد كادت تسقط على مامسل أغاتا التي صوبت علي نظرة من عينيها الشاحبتين فسمرتني في مكاني. نهضت زوجة القس عن الكنبة ومضت خارج الغرفة رافعة من تنورتها وهي تمر بجانبي.
قلت لمامسل أغاتا: "خذي هذا الصبي بلطف إلى غرفة الطعام وابقي معه هناك حتى أجيء". مدت ذراعيها أمامها برعب وكأنما لتحمي نفسها من شيء قذر، وانفرج الشق من تحت أنفها المعقوف كالخطاف في بسمة رهيبة واختفت في إثر زوجة القس.
جلست لتناول غدائي، وأعطيت جون تفاحة وقرعت الجرس لروزالي.
قلت: "روزالي، خذي هذه النقود واجلبي لباسا قطنيا لك وإزارين أبيضين وأي شيء يلزمك لتبدي في مظهر محترم. منذ اليوم رفعت من وظيفتك لتكوني مربية لهذا الطفل. سينام الليلة في غرفتي، ومنذ الغد ستنامين معه في غرفة مامسل أغاتا.
"ولكن مامسل أغاتا؟"، سألت روزالي مصعوقة من الرعب.
"سأصرف مامسل أغاتا بنفسي حالما أنتهي من غدائي".
طلبت من مرضاي أن يذهبوا ومضيت لأطرق على غرفتها. رفعت يدي مرتين لأطرق، ومرتين تركتها تهوي. لم أطرق. رأيت أن من الحكمة أن أؤجل المقابلة إلى ما بعد العشاء حتى تهدأ أعصابي قليلا. وقد اختفت مامسل أغاتا. أعدت لنا روزالي وجبة ساخنة للعشاء وحلوى بالحليب شاركت جون بها – جميع النساءالفرنسيات من طبقتها ماهرات في الطهي. وبعد كاسين من النبيذ لأبرد أعصابي، ذهبت لأطرق غرفة مامسل أغاتا وأنا لا أزال أرتعش غضبا. لكني لم أطرق. وبزغ في ذهني فجأة أن ذلك يمكن أن يحرمني نوم ليلتي إذا تشاجرت معها الآن، وأنا في حاجة للنوم أكثر من أي وقت مضى. والأفضل بكثير أن أؤجل المقابلة حتى صباح الغد.

وفي حين كنت أتناول فطوري، توصلت إلى قرار أن الشيء الصحيح أن أوجه إليها إنذارا مكتوبا. جلست لأكتب لها رسالة مدوية لكني لم أكد أبدأ حتى جلبت لي روزالي قصاصة بخط مامسل أغاتا الصغير اللاذع تقول فيها أن ليس هناك من شخص محترم يمكن أن يبقى يوما آخر في بيتي، وأن من الخير لها أن تغادر بعد الظهر وأنها لا تريد أبدا أن تراني مرة ثانية – الكلمات ذاتها التي كنت آمل أن أقولها لها في رسالتي. لكن المنزل لا يزال مسكونا بالوجود اللامرئي لمامسل أغاتا. ونزلت إلى محلات لو برنتان فأحضرت لجون سريرا نقالا وحصانا خشبيا هزازا، مكافأة ما دمت مدينا له. وعادت الطاهية في اليوم التالي سعيدة راضية. وكانت روزالي مشرقة بالبهجة، حتى جون بدا مسرورا بمحيطه الجديد لما ذهبت في المساء لألقي نظرة عليه في سريره الأنيق الصغير. وأنا بذاتي شعرت بسعادة كتلميذ في عطلته.
لكن لم يكن لي كثير من العطل. كان أمامي عمل شاق من الصباح حتى المساء مع مرضاي، وأحيانا مع مرضى لبعض زملائي الذين كانوا يستدعونني أيضا في استشارات لأشاركهم في مسؤوليتهم – وهذا ما كان يدهشني جدا، لأني حتى في تلك الحال لم أكن خائفا أبدا من المسؤولية. وتبين لي في وقت متأخر من حياتي أن ذلك أحد أسرار نجاحي. وسر آخر كان حظي الدائم طبعا، وكان فعالا أكثر من ذي قبل بكثير، حتى صرت أعتبر أن في بيتي بركة تجلب الحظ. وبدأت كذلك أنام بشكل أفضل منذ أن اعتدت أن ألقي نظرة على الصغير وهو نائم في سريره النقال قبل أن أذهب لسريري.
لقد نبذتني زوجة القس الإنجليزي، لكن كثيرا من مواطنيها أخذوا مكانها على الكنبة في غرفة انتظاري. وذلك هو الوهج الذي أحاط باسم البروفيسور شاركو حتى إن بعض وميضه انعكس على أصغر التابعين حوله. وبدا أن الناس الإنجليز يعتقدون أن أطباءهم أقل معرفة بالأمراض العصبية من زملائهم الفرنسيين. ويمكن أن يكونوا مصيبين أو مخطئين بذلك، لكنه كان حظا ميمونا لي في أية حال، حتى إنني دعيت إلى لندن للاستشارة في ذلك الحين تماما. لم أعرف المريضة لكني كنت محظوظا بصورة رائعة مع عضو آخر من أسرتها، وهذا بلا شك هو السبب الذي دعاني إليها. كانت حالة فظيعة، حالة يائسة وفقا لاثنين من زملائي الإنجليز، اللذين وقفا إلى جانب السرير يراقبانني بوجهين عابسين وأنا أفحص مريضتهما. عدوى تشاؤمهما أصابت البيت كله، وقد شل القنوط والخوف من الموت رغبة المريضة بالشفاء. من المحتمل جدًّا أن زميلي كليهما يعرفان عن علم الأمراض أفضل مني بكثير. لكني كنت أعرف شيئا ما من الواضح أنهما لم يعرفاه: ما من دواء ناجع في قوة الأمل، إن أقل علامة تشاؤم في وجه الطبيب  أو كلماته يمكن أن تكلف المريض حياته. ويكفي أن أقول في نتيجة فحصي، دون الدخول في تفاصيل طبية، أني كنت مقتنعا أن أخطر الأعراض كانت ناجمة من اضطراب عصبي وهمود عقلي. راقبني زميلاي بهزة استهجان من كتفيهما العريضين، وأنا أضع يدي على جبينها وأقول بصوت هادئ أن لا حاجة بها للمورفين الليلة. إنها ستنام جيدا على أية حال، وستشعر بتحسن أكبر في الصباح. وستتجاوز حالة الخطر قبل أن أغادر لندن في اليوم التالي. وبعد دقائق قليلة كانت مستغرقة في النوم، وأثناء الليل هبطت حرارتها بسرعة قاربت تقديري، والنبض استقر، وفي الصباح تبسمت لي وقالت إنها تشعر بأنها أحسن بكثير. 
توسلت أمها إلي أن أبقى يوما آخر في لندن لأرى أخت زوجها، وهم جميعا قلقون جدًّا عليها. أراد الكولونيل، زوجها، أن تستشير اختصاصي أعصاب، وهي نفسها حاولت بلا جدوى أن ترى الدكتور فيليب، لكنها تشعر أن كل شيء سيكون بالتأكيد على ما يرام لو أنها أنجبت طفلا. وهي، لسوء الحظ، تحمل كرها للأطباء لا يمكن تفسيره، وبالتأكيد سترفض أن تستشيرني، لكن يمكن أن يتم الترتيب بحيث يكون جلوسك إلى جانبها على العشاء، وهكذا تشكل رأيا عن حالتها على الأقل. أيمكن أن يعمل شاركو أي شيء من أجلها؟ زوجها مغرم بها، ولديها كل ما يمكن أن  تعطيه الحياة، منزل جميل في حي غروڤينور، وهو من أفخم المراكز الريفية القديمة في كنت. وقد عادوا حديثا من رحلة بحرية طويلة إلى الهند على متن يختهم. وهي لا ترتاح أبدا، بل تظل تطوف دائما من مكان إلى مكان وكأنها تبحث عن شيء ما. هناك تعبير من الحزن العميق يتراءى في عينيها. كانت سابقا تهتم بالفن، وترسم بشكل جميل، حتى إنها أمضت شتاء في مرسم جوليان في باريس. وهي الآن لا تهتم بأي شيء، ولا تبالي بشيء؛ نعم، نعم مهتمة بسعادة الأطفال، وهي مساهمة كبيرة في صندوق عطلاتهم الصيفية ومياتمهم.
وافقت على مضض أن أبقى، كنت حريصا أن أرجع إلى باريس، وكنت قلقا من سعال جون. وقد نسيت مضيفتي أن تخبرني أن أخت زوجها التي ستجلس بجانبي أثناء العشاء، كانت من أجمل السيدات اللواتي رأيتهن في حياتي. وأنا كنت مصدوما جدًّاأيضا بمسحة الحزن في عينيها السوداوين الرائعتين. وكان في وجهها كله شيء لا حياة فيه. بدا أنها غير مرتاحة لوجودي، وحاولت جهدها أن تخفي ذلك. أخبرتها أن هناك بعض الصور الجيدة في الصالون في تلك السنة، وأني سمعت من زوجة أخيها أنها كانت طالبة فن في مرسم جوليان. هل قابلت ماري باسكرزيف هناك؟ لا، لم تقابلها لكنها سمعت عنها.
نعم، كانت معروفة من قبل الجميع. كانت "موسيا" تقضي معظم وقتها في الإعلان عن نفسها. لقد عرفتها جيدا، وكانت من أذكى الشابات اللواتي واجهتهن في حياتي، لكنها كانت بلا قلب، وفوق ذلك كانت مدعية، وعاجزة عن محبة أي إنسان إلا نفسها. بدت رفيقتي أكثر ضجرا من أي وقت مضى. وأملا في حظ أفضل أخبرتها أني أمضيت بعض الظهر في مشفى الأطفال في شيلسيه، وكان مثار إعجاب لي لأني من الزوار الدائمين لمستشفى الأطفال اللقطاء في باريس.

قالت إنها كانت تظن أن مشافي الأطفال عندنا في حالة جيدة جدا.
أخبرتها أن الحالة لم تكن كذلك، وأن معدل الوفيات بين الأطفال الفرنسيين كان مروعا داخل المشافي وخارجها. وحدثتها عن ألوف الأطفال المهجورين وقد ألقي بهم في قطار المرضعات عبر المناطق.
نظرت إلي لأول مرة بعينيها الحزينتين، وقد اختفى منهما ذلك التعبير القاسي والخالي من الحياة، وقلت لنفسي:  لعلها امرأة ذات قلب حنون، بعد كل شيء. ولدى وداعي للمضيفة قلت لزوجة أخيها أن حالتها ليست لي ولا للدكتور شاركو بعينه، لأن الكتور فيليب هو الأصلح، وأن أخت زوجها ستكون على ما يرام حين ترزق بطفل.
بدا أن جون مسرور لرؤيتي، لكن مظهره شاحب وضعيف حين جلس بجانبي إلى مائدة الغداء. قالت روزالي إنه سعل كثيرا في الليل. كان ثمة ارتفاع طفيف في درجة الحرارة مساء، وكان عليه  أن يستريح في سريره لمدة يومين. وسرعان ما استرد الرتابة اليومية في حياته الصغيرة، ممثلة في سكوته الكامد المعتاد وهو معي على الغداء، وأخذته روزالي بعد الظهر إلى حديقة مونسو. وفي أحد الأيام، بعد رجوعي من لندن بنحو أسبوعين، فوجئت بوجود الكولونيل جالسا في غرفة الانتظار. لقد غيرت زوجته رأيها، وأرادت المجيء إلى باريس للتسوق، وهما سيأخذان اليخت في مرسيليا بعد أسبوع للقيام برحلة في المتوسط. ولقد دعاني للغداء في فندق الرين في اليوم التالي، وزوجته ستكون مسرورة لو أمكن أن أرافقها لتزور أحد مشافي الأطفال بعد الغداء. وبما أني لا أستطيع حضور الغداء، فقد اتفقنا أن تأتي إلى شارع ڤيليير لتأخذني بعد انتهائي من الاستشارات. كانت غرفة الانتظار ما تزال ممتلئة بالناس لما وصلت عربتها الأنيقة أمام الباب. أرسلت روزالي لتطلب منها أن تقوم بجولة وتعود خلال نصف ساعة، إذا لم تفضل أن تنتظر في صالة الاستقبال حتى أنتهي من مرضاي. وبعد نصف ساعة وجدتها جالسة في صالة الاستقبال وجون في حضنها مهتما إلى حد كبير باستعراض لعبه المختلفة.
"عيناه تشبهان عينيك"، قالت وهي تنقل نظراتها بين جون وبيني، "لم أكن أعلم أنك متزوج".
قلت إني لست متزوجا. توردت بشيء من الخجل، وراحت تمعن النظر في كتاب جون المصور الجديد. وفي الحال استردت شجاعتها وسألت بفضول المرأة العنيد المعتاد فيما إذا كانت أمه سويدية، لأن شعره أشقر جدًّا وعينيه زرقاوان أيضا.
كنت أدرك ما ترمي إليه تماما. وكنت أعرف أن روزالي والبواب وبائع الحليب والخباز كانوا واثقين أني والد جون، وقد سمعت حوذي عربتي بذاته يتكلم عنه باعتباره "ابن السيد". وكنت مدركا تماما أن لا جدوى من الإيضاح، وأنا لن أستطيع إقناعهم، لأني كنت بذاتي على وشك الاعتقاد بذلك. لكني فكرت أن لهذه السيدة الحنون الحق بأن تعرف الحقيقة. قلت لها ضاحكا أني لست أباه إلا بقدر ما هي أمه، وأنه يتيم وله قصة محزنة جدا. كان من الأفضل لها ألا تسألني، لأن ذلك لا يؤدي إلا إلى إيلامها. رفعت كمه وأشرت إلى ندبة بشعة على ذراعه. إنه على ما يرام الآن مع روزالي ومعي، لكني لست واثقا أنه قادر على أن ينسى الماضي حتى أراه يتبسم. فهو لم يبتسم قطّ.
قالت بلطف: "هذا صحيح، فهو لم يبتسم ولو مرة واحدة كما يفعل أطفال آخرون حين يرون لعبهم".
قلت إننا لا نعرف إلا القليل جدًّا عن عقلية الأطفال، فنحن غرباء في العالم الذي يعيشون فيه. إن غريزة الأم وحدها قادرة بين حين وآخر أن تجد طريقها إلى أفكارهم. 
ولتعطي جوابا كاملا مالت برأسها عليه وقبلته برقة. تطلع إليها جون وفي عينيه الزرقاوين ذهول  كبير.
قلت: "ربما كانت هذه أول قبلة يحظى بها في حياته".
جاءت روزالي لتأخذه من أجل نزهته المعتادة بعد الظهر في حديقة مونسو، لكن صديقته الجديدة اقترحت بدلا من ذلك أن تأخذه بجولة في عربتها الفخمة. كنت مبتهجا بالتخلص من الزيارة الموعودة إلى المستشفى، فوافقت بسرور.
من ذلك اليوم، بدأت حياة جديدة لجون وكذلك لشخص آخر، على ما أعتقد. كانت تأتي كل صباح إلى غرفته بدمية جديدة، وتأخذه بعد الظهر بجولة في عربتها إلى غابة بولونيا مع روزالي في المقعد الخلفي وهي في أبهى ملابسها الخاصة بيوم الأحد. وغالبا ما كان يركب بوقار على سنام جمل في حديقة الحيوان وهو محاط بعشرات الأطفال الضاحكين.
قلت: "لا تجلبي له بكثرة كل هذه الدمى الغالية، فالأطفال يحبون اللعب الرخيصة تماما كما أن هناك كثيرا منهم لا يحصلون على أي دمية. لقد لاحظت أن اللعبة المتواضعة بـ 13 فلسا تكون ذات فائدة كبيرة حتى في أفخم دور الحضانة. ويوم يتعلم الأطفال أن يفهموا القيمة المالية للعبهم، فإنهم يطردون من فردوسهم، ويكفون عن كونهم أطفالا. وفوق ذلك، لدى جون كثيرا من اللعب، وقد حان الوقت لكي نعلمه أن يتخلى عن بعض تلك اللعب لمن ليس لديهم أي شيء. وهو درس يصعب إلى حد ما على كثير من الأطفال تعلمه. والسهولة النسبية التي يتعلمون بها هذا الدرس هي مؤشر مأمون ينبئ عن نوع الرجال أو النساء الذي سيصيرون إليه.
أخبرتني روزالي أن السيدة الجميلة كانت تصر دائما على حمل جون بنفسها إلى الدور الأعلى، كلما عادوا من جولتهم. وبعد ذلك بقليل صارت تمكث لتساعد في حمامه، ولم يمر وقت طويل حتى أخذت تحممه بنفسها، وقد اقتصر دور روزالي على أن تناولها مناشف الحمام. وقالت لي روزالي شيئا هز مشاعري كثيرا جدا. قالت إن السيدة حين تقوم بتنشيف جسمه الصغير النحيل كانت تقبل الندبة البشعة على ذراعه قبل أن تلبسه قميصه. ثم صارت هي التي تضعه في سريره وتبقى معه حتى يستسلم للنوم. وأنا بنفسي ما رأيتها إلا قليلا، إذ كنت خارج المنزل طوال اليوم، وخشيت أن الكولونيل المسكين أيضا لا يراها إلا قليلا، فقد كانت تمضي يومها كله مع الصبي. وأخبرني الكولونيل أن رحلة المتوسط ألغيت. إنهم باقون في باريس، وهو لا يعرف كم سيطول ذلك، لكنه لا يهتم بطول الوقت ما دامت زوجته سعيدة، فهي لم تكن قطّ في مزاج أحسن مما هي عليه الآن. كان الكولونيل مصيبا، فقد تغير تعبير وجهها كاملا، وأشرق في عينيها السوداوين حنان لا حدود له. 
كان نوم الصغير سيئا، وغالبا لما كنت أذهب لألقي عليه نظرة قبل أن أتوجه للنوم أتصور أن وجهه كان يبدو لي متوردا، وقالت لي روزالي إنه يسعل كثيرا أثناء الليل. وذات صباح سمعت خشخشة منذرة في أعلى رئته اليمنى. كنت أعلم أكثر مما ينبغي ماذا تعني. وكان علي أن أخبر صديقته الجديدة، فقالت إنها كانت تعلم بذلك، ومن المحتمل أنها شعرت بذلك قبلي. أردت أن أحضر ممرضة لتساعد روزالي، لكنها لم تشأ أن تسمع ذلك. رجتني أن أعتبرها كممرضة له فلم أمانع. لم يكن ثمة في الواقع ما يمكن فعله، وبدا الصبي يضطرب حتى في نومه حالما كانت تغادر الغرفة. صعدت روزالي لتنام مع الطاهية في العلية، ونامت ابنة الدوق في سرير الخادمة في غرفة جون. وبعد يومين أصيب بنزف طفيف، وارتفعت الحرارة مساء، وغدا واضحا أن جرعات العلاج ينبغي أن تكون عاجلة.
"لن يعيش طويلا"، قالت روزالي وهي تضع منديلها على عينيها، "لقد صار له وجه ملاك".
كان يحب أن يسهر قليلا في حضن ممرضته الحنون، بينما كانت روزالي تعد سريره للنوم. كنت أرى دائما أن جون طفل ذكي حلو المظهر، ولكن لا يمكن أن أعتبره طفلا جميلا. ولما رحت أنظر إليه الآن بدا لي أن قسمات وجهه ذاتها قد تغيرت، وتراءى لي أن عينيه أكبر بكثير وذات لون أدكن. لقد أصبح طفلا جميلا، جميلا كملاك الحب أو ملاك الموت. أخذت أحدق في  الوجهين، والوجنة منحنية على الوجنة، فامتلأت عيناي بالعجب. أيمكن للحب اللانهائي الذي يشع من قلب هذه المرأة باتجاه هذا الطفل المحتضر أن يعيد تشكيل الملامح الناعمة لوجهه الصغير في شبه غامض لوجهها ذاته؟ هل أشهد لغزا آخر من ألغاز الحياة لا يمكن تخيله؟ الجبين النقي ذاته، انحناءة الحاجبين الأنيقة ذاتها، الأهداب الطويلة ذاتها. وحتى سبك الشفاه الرائع كان يمكن أن يكون ذاته لو أتيح لي أن أراه يبتسم يوما كما رأيتها تبتسم في تلك الليلة لما تمتم في نومه، ولأول مرة، بتلك الكلمة التي يحب كل طفل أن يقولها وكل امرأة تحب أن تسمعها: "ماما! ماما!"
أعادته إلى السرير، أمضى ليلة مضطربة، ولم تبتعد عنه أبدا. مع دنو الصباح بدا تنفسه أسهل قليلا، واستسلم للنوم. ذكرتها بوعدها أن تطيعني وأجبرتها بصعوبة أن تستلقي على سريرها ولو ساعة، وروزالي ستناديها حالما يصحو. حين عدت إلى غرفته مع انبلاج الفجر، همست روزالي، وإصبعها على فمها، أنهما كليهما نائمان.
وقالت: "انظر إليه! تمعَّن فيه! إنه يحلم!"
كان وجهه ساكنا ورائقا، وشفتاه مفترتان بابتسامة جميلة. وضعت يدي على قلبه. كان ميتا. وتنقلت بنظري من وجه الصبي الباسم إلى وجه السيدة النائمة على سرير روزالي. الوجهان كانا ذات الوجه.
غسلته وألبسته لآخر مرة. ولم تسمح حتى لروزالي أن تضعه في تابوته. ولقد أرسلتها مرتين للبحث عن وسادة من النوع المناسب، فلم يخطر لها أن رأسه كان مرتاحا.
توسلت إلي أن نؤخر تثبيت الغطاء إلى اليوم التالي. قلت لها إنها تعرف مرارة الحياة، لكنها لا تعرف إلا القليل عن ضراوة الموت، فأنا طبيب، وعلى معرفة بهما كليهما. قلت لها إن للموت وجهين، أحدهما جميل ورائق، والثاني بغيض وفظيع. الصبي فارق الحياة بابتسامة على شفتيه، والموت لن يدعها طويلا هناك. كان ضروريا أن نغلق التابوت هذه الليلة. أحنت رأسها ولم تقل شيئا. ولما رفعت الغطاء أنشجت باكية وقالت إنها لا تستطيع أن تفارقه وتتركه وحده تماما في مقبرة الغرباء.
قلت: "لمَ تفارقينه؟ لماذا لا تأخذينه معك فوزنه خفيف، لمَ لا تأخذينه إلى إنجلترا في يختكم لتدفنيه قرب كنيستكم الجميلة في كنت؟"
تبسمت من خلال عبراتها، ابتسامة كابتسامة الطفل ذاتها. ثم وثبت واقفة على قدميها.
"هل أستطيع؟ أيمكنني؟" صاحت بابتهاج.
"نعم، يمكن أن تأخذيه، وسوف نفعل ذلك إذا تركتني أثبت الغطاء الآن، لا مجال لإضاعة الوقت، وإلا فسيأخذونه إلى مقبرة باسي غدا صباحا".
وفي حين كنت أرفع الغطاء، وضعت باقة من البنفسج بقرب وجنته.
وأنشجت: "ليس لدي أي شيء آخر لأعطيه، أتمنى لو أن معي شيئا ما أعطيه إياه ليأخذه معه مني!"
"أظن أنه يود أن يأخذ هذه معه"، قلت وأنا أخرج دبوس الماس من جيبي وأشكه في وسادته."إنه من أمه". 
لم يصدر منها أي صوت، بل مدت ذراعيها نحو الطفل وهوت فاقدة الوعي على الأرض. رفعتها ووضعتها على سرير روزالي، سمرت غطاء التابوت وسقت العربة إلى مكتب خدمات دفن الموتى في بلاس دو مادلين. كان علي أن أجري لقاء خاصا مع مجهز الموتى الذي التقيت به من قبل، للأسف. فوضته بصرف أي مبلغ يحب إذا استطاع أن يضع التابوت على متن اليخت في كاليه في الليلة التالية. قال إن بإمكانه ذلك إذا وعدت بألا أنظر إلى الفاتورة. قلت له أنْ لا أحد سينظر إلى الفاتورة. ثم توجهت بالعربة إلى فندق الرين، أيقظت الكولونيل وقلت له إن زوجته ترغب أن يكون اليخت جاهزا في كاليه خلال اثنتي عشرة ساعة. وبينما كان يكتب البرقية إلى الكابتن، جلست أكتب إشعارا مستعجلا لزوجته بأن التابوت سيكون على متن يختهم في ميناء كاليه الليلة التالية. وأضفت حاشية تفيد أني سأغادر باريس باكرا في الصباح، وستكون هذه لها تحية الوداع.
لقد رأيت قبر جون، كان يرقد مدفونا في باحة الكنيسة الصغيرة في واحدة من أجمل كنائس الأبرشية في كنت. وكانت تنمو على قبره أزهار الربيع والبنفسج، وكانت الشحارير تغرد فوق رأسه. ولم يكن لي أبدا أن أرى أمه مرة ثانية. وذلك أفضل.


--------------------------
(1 ) Marmot :  حيوان من القوارض.

--------------------

هذه الملحمة الإنسانية  لاكسيل مونتي يصعب أن نَفيها حقها في مقالة موجزة، خاصة وهو يعبر بعمق وألم عن المعركة الدائرة بين الموت والحياة... فالمعركة منظمة في أدق تفاصيلها وفق قانون من التوازن بين الحياة والموت لا يقبل التغيير... لذا أترك للقارئ متعة قراءتها، كما استمتعت. محمد أحمد السويدي
بتكليف ورعاية من الشاعر الإماراتي محمد أحمد السويدي، وبدافع من حب المعرفة والسعي لنشرها قامت القرية الإلكترونية بتوفير هذه النسخة من قصة سان ميشيل مترجمة باللغة العربية – ترجمها علي كنعان. (جميع الحقوق محفوظة)
صفحتنا الرسمية في فيس بوك :
منصتنا في جوجل بلس لمتابعة باقي مشروعاتنا 

No comments:

Post a Comment