Wednesday, March 6, 2019

قصة سان ميشيل لأكسِل مونتي - الحلقة رقم 11 - العملاق





قصة سان ميشيل لأكسِل مونتي
                                       ترجمة:  علي كنعان
الحلقة رقم (11) 

XII
العملاق

مع مرور الوقت، تأكدت أكثر فأكثر كم كانت مهنة نورستروم تتضاءل بسرعة، وأن اليوم الذي سيسدل الستائر كلها لا بد أن يأتي. وحتى الجالية الاسكنديناڤية العديدة، أثرياء وفقراء، كانت تنجرف بعيدا وبسرعة من زقاق بيغال إلى شارع ڤيليير. حاولت عبثا أن أصد المد، ومن حسن الطالع أن نورستروم لم تساوره ريبة قط بإخلاصي، فبقينا صديقين حتى النهاية. والله يعلم أنها لم تكن مهنة رابحة مع هؤلاء الزبائن الاسكنديناڤيين. وخلال حياتي كلها كطبيب في باريس، كانت كحجر حول عنقي يمكن أن يغرقني لو لم أكن أقف على قدمين ثابتتين بين الجاليات الإنجليزية والأميركية، وحتى بين الفرنسيين أنفسهم. وكما هي الحال، فقد أضاعت الكثير من وقتي وأوقعتني في ضروب من المشكلات، وانتهت بأن أوصلتني إلى السجن. إنها قصة غريبة، وغالبا ما رويتها لأصدقائي الذين يؤلفون كتبا، كتطبيق مدهش لقانون المصادفات، العمل الشاق لجواد  معركة الروائيين.
وبصرف النظر عن العمال الاسكنديناڤيين في بانتان ولا ڤيليير الذين كانوا دائما بحاجة إلى طبيب، وهم إجمالا يزيدون عن ألف، كانت هناك جماعة الفنانين في مونمارتر ومونبارناس وهم بحاجة دائما للمال. مئات من الرسامين والنحاتين ومؤلفي الروائع التي لم تكتب نثرا أو شعرا، الباقين على قيد الحياة باستغراب من "حياة بوهيميا" لهنري مورغر. كانت قلة منهم قاربت عشية النجاح مثل إدلفيلد، كارل لارسون، زورن، سترنبيرغ، وكان على غالبيتهم أن تعيش على الأمل وحده. كان صديقي النحات، المارد، بلحية ڤايكينغ شقراء مسترسلة وعيني طفل زرقاوين بريئتين، هو الأضخم حجما والأقل مالا. ونادرا ما ظهر في مقهى الإرميتاج حيث كان معظم الأصحاب يقضون أمسياتهم. وكان أمرا غامضا لدى الجميع كيف يحصل على كفايته لجسم طوله ست أقدام وثماني بوصات. كان يعيش في حظيرة جليدية ضخمة في مونبارناس مهيأة كاستوديو نحات حيث كان يعمل، ويطهو طعامه، ويغسل قميصه ويعيش أحلامه بشهرة المستقبل. والحجم هو ما كان يحتاجه لنفسه ولتماثيله، وهي ذات أبعاد أكبر من بشرية، ولم تكن لتنتهي بسبب الحاجة إلى صلصال. وفي أحد الأيام، ظهر في شارع ڤيليير راجيا مني أن أقوم بمهمة صديقه الأثير بمناسبة زواجه يوم الأحد القادم في الكنيسة السويدية، وسيتلو ذلك استقبال في مسكنه الجديد لكي "يقيم الحفلة". وانتهى اختيار قلبه إلى رسامة سويدية ضئيلة منمنمة أصغر من نصف حجمه. ولقد سرني أن أقوم بذلك، طبعا. انتهت المراسم، وقدم القسيس السويدي عظة لطيفة موجزة للعروسين الجالسين جنبا إلى جنب أمام المذبح. ولقد ذكراني بتمثال ضخم لرمسيس الثاني جالسا في معبد الأقصر إلى جانب زوجته الصغيرة، وهي لا تكاد تصل إلى وركه. وبعد ساعة طرقنا باب الاستوديو، مفعمين بالتوقعات. قادنا العملاق ذاته باحتراس شديد في مدخل ورقي قزم إلى ردهته حيث دعينا بحرارة لنشارك بالمشروبات المنعشة ونجلس على كرسيه بالتناوب. صديقه سكورنبيرغ – ولعلك رأيت السنة الماضية صورته بالحجم الكامل في الصالون، ومن السهل أن تتذكره لأنه كان أصغر أحدب رأيته في حياتي- اقترح أن نشرب نخب مضيفنا. ولما رفع كأسه بحركة حماسية صدم الحاجز الورقي وأسقطه، كاشفا لأعيينا المندهشة غرفة العرس بسرير الزفاف، وهي مجهزة بأيد ماهرة مقتبسة من حفلة موسيقية فخمة( 1). وسرعان ما أعاد العملاق إقامة الحاجز باثنين من "الحلاقين"، بينما راح سكورنبيرغ ينهي خطبته بلا مزيد من العثرات. ثم رفع ستارة وأرانا، وهو يلقي نظرة ماكرة على عروسه الخجلى، حجرة صغيرة أخرى مصنوعة من "صحيفة الصغار" – وكانت لنوم الطفل.
غادرنا البيت الورقي بعد ساعة، لنلتقي على العشاء في "مشرب مونمارتر للبيرة". كان علي أن أعاين بعض المرضى أولا، وحين جئت إلى الحفلة كان الليل يوشك أن ينتصف. كان أصدقائي  يجلسون في وسط الغرفة الكبيرة، وقد احمرت وجوههم جميعا وهم يغنون النشيد السويدي بأعلى أصواتهم في جوقة تصم الآذان، تقطعها وصلات إفرادية مدوية كالرعد من صدر العملاق العريض وزعقات حادة من الأحدب الضئيل. وبينما كنت أشق طريقي في الغرفة المزدحمة، هتف صوت: "البروسيون في الباب! البروسيون في الباب!" وطارت زجاجة بيرة فوق رأسي وضربت العملاق في وجهه مباشرة. هب من مقعده والدم يتدفق، فأمسك بالفرنسي المعتدي من ياقته وقذف به مثل كرة تينس عبر النضد في حضن صاحب المشرب الذي صرخ  بأعلى صوته "البوليس! البوليس!" وارتطمت زجاجة ثانية بأنفي مهشمة نظارتي، وزجاجة أخرى طوَّحت بسكورنبيرغ تحت المائدة. وزمجر شغيلة المعمل جميعا وهم يطبقون علينا: "ارموهم خارجا! ارموهم خارجا!" أما العملاق، وهو يحمل كرسيا في كل يد، فقد سحق مهاجميه كذرة الحصيد، بينما انسل الأحدب الضئيل هاربا من تحت المائدة زاعقا متوجعا كقرد مهتاج، لكن زجاجة أخرى طرحته على الأرض بلا حراك. فالتقطه العملاق وربت على ظهر صديقه الحميم حاملا إياه بقوة تحت ذراعه وهو يغطي بأفضل ما يستطيع انسحابنا المحتوم نحو الباب حيث قبضت علينا ثلة من البوليس وقادتنا إلى المفوضية في شارع دووي. وبعد أن أخذوا أسماءنا وعناويننا زجوا بنا في حجرة مشبوكة النوافذ بالقضبان لنقضي الليل في القفص( 2). وبعد ساعتين من التأمل، جاؤوا بنا للمثول أمام العميد الذي خاطبني بصوت فظ سائلا إن كنت الطبيب مونتي من شارع ڤيليير. قلت له إني هو. حدق إلى أنفي المتورم بضعفي حجمه وثيابي الممزقة الملوثة بالدم وقال إني لا أبدو مثله. وبما أني أبدو أقل سكرا من بين هذه العصابة من الهمج الألمان، إضافة إلى أني الوحيد الذي يتكلم الفرنسية، على ما يبدو، سألني إن كان لدي ما أقوله. أخبرته أننا سويديون مسالمون نقيم حفلة عرس، وقد هوجمنا بضراوة في مشرب البيرة، ولا شك أنهم ظنوا خطأ بأننا ألمان. ومع استمرار التحقيق، صار صوته أقل حدة وكان يرمق بما يشبه الإعجاب،  بين حين وآخر، العملاق والصغير سكورنبيرغ في حضنه كالطفل شبه غائب عن الوعي. وأخيرا قال في كياسة فرنسية صادقة إنه لأمر مؤسف حقا أن تبقى العروس منتظرة طوال الليل مثل هذا العريس ذي الطراز المهيب، وأنه سيطلق سراحنا ريثما يبت في الأمر. شكرناه أكثر من اللازم ونهضنا للخروج. وشعرت برعب حين قال لي: "انتظر، من فضلك، أود أن أتحدث إليك". نظر إلى أوراقه من جديد، راجع سجلا على الطاولة وقال بصرامة:  أنت أعطيت اسما غير صحيح، وأحذرك بأنها إساءة خطيرة جدا. ولأريك رغبتي الطيبة سأمنحك فرصة أخرى لتتراجع عن أقوالك للبوليس. من أنت؟ قلت:  أنا الدكتور مونتي.
ورد بقسوة: "وفي مقدوري أن أؤكد لك أنك لست هو. "انظر إلى هذه". قال وهو يشير إلى السجل: "الدكتور مونتي من شارع ڤيليير، فارس في فوج الشرف؛ ويمكن أن أرى لطخات عديدة على معطفك، لكني لا أرى أية شريطة حمراء".
قلت إني لا أضعها غالبا. نظر إلى العروة الخالية في سترته وقال بضحكة من الصميم إنه كان عليه أن يعيش ليرى أن رجلا في فرنسا حاز على شريطة حمراء ولا يرتديها. اقترحت عليه أن يرسل في طلب البواب ليتعرف علي، فأجاب أن ذلك غير ضروري لأنها حالة على مفوض الشرطة أن يعالجها بنفسه في الصباح. وقرع الجرس.
"فتشوه"، قال لاثنين من البوليس.
احتججت ساخطا وقلت أن لا حق له بأن يأمر بتفتيشي. قال إنه ليس حقه وحسب، وإنما هو واجبه لحمايتي، وفق أنظمة البوليس. كانت قاعة الاحتجاز مزدحمة بكل أنواع المتوحشين، وهو لا يضمن بألا يسرقوا أيا من مقتنياتي القيمة. قلت أنْ ليس في جيوبي أي شيء ثمين ما عدا  مبلغا صغيرا من المال ناولته إياه.
وأعاد الأمر: "فتشوه".
كان لدي بسطة في القوة تلك الأيام، وكان على اثنين من البوليس أن يمسكا بي في حين  قام ثالث بتفتيشي.
وكان في جيوبي ساعتا منبه ذهبيتان، ساعتا بريجيت قديمتان، وساعة صيد إنجليزية.
لم يقولوا لي أي كلمة، إنما زجوا بي فورا في زنزانة كريهة الرائحة. تهالكت على الحشية متسائلا ماذا سيحدث بعد ذلك. الشيء الصحيح هو أن أصر على التواصل مع المفوضية السويدية، لكني قررت الانتظار حتى صباح الغد. فُتح الباب ليدخل شخص شرير المنظر نصف قاطع طريق، نصف قواد، ما جعلني أدرك بنظرة عاجلة الحكمة في أنظمة السجن من تفتيشي.
قال القادم الجديد: "لا تبتئس، شارلي. ما لك منقبض؟ ولمَ تبدو مغموما هكذا؟ لا تهتم، ستعود إلى المجتمع في اثني عشر شهرا إن كنت محظوظا، وبالتأكيد ستكون محظوظا، وإلا فلا يمكن أن تختلس خمس ساعات في يوم واحد. خمس ساعات! اللعنة! إني أرفع قبعتي لك، فلا أحد مثلكم، يا إنجليز!"
قلت إني لست إنجليزيا، وأنا هاوي جمع الساعات. قال إنه كان كذاك، وألقى بنفسه على الحشية الأخرى، متمنيا لي ليلة طيبة وأحلاما سارة، وراح يغط في لحظة. 
من وراء الجانب الآخر من الجدار الحاجز، أخذت امرأة سكرى تغني بصوت أجش. دمدم غاضبا: "اخرسي، فيفين، وإلا سأهشم وجهك!"
سكتت المغنية فورا وهمست: 
"ألفونس، لدي شيء هام أود أن أقوله لك. هل أنت وحدك؟" أجاب أنه مع صديق شاب رائع، حريص على معرفة الوقت، ومن سوء حظه نسي أن يضبط الساعات الخمس التي كان يحملها دائما في جيوبه. وفي الحال أغفى من جديد، وتلاشت بالتدريج جلبة أصوات السيدات، وساد السكون ما عدا إطلالة الحارس في كل ساعة ليلقي علينا نظرة من الكوة. وعندما دقت الساعة السابعة في ميدان القديس أوغستين، أخرجوني من الزنزانة للمثول أمام مفوض البوليس ذاته. أصغى بانتباه لمغامرتي وقد جمدني طوال الوقت بعينيه الذكيتين النفاذتين. ولما رحت أخبره بهوسي بالساعات، كبيرة وصغيرة، وأني أمضيت نهاري كله في طريق لوروي لأصلحها، وكنت قد نسيت موضوعها كله عندما قاموا بتفتيشي، انفجر ضاحكا وقال إنها أفضل قصة كان قد سمعها، إنها بلزاكية خالصة. فتح درج المكتب وناولني ساعاتي الخمس.
"أنت صادق تماما، وأنا لم أكن لأجلس وراء مكتبي هذا عشرين سنة من دون أن أتعلم شيئا ما عن تصنيف زواري". ثم دق الجرس للآمر الذي احتجزني طوال الليل.
"أنت محتجز لمدة أسبوع لأنك خالفت القوانين فلم تتصل بالقنصل السويدي. يا لك من أحمق!"


---------------------------
( 1) Bechstein concert grand العبارة في الأصل غامضة، وخاصة أن Bechstein تدل على صناعة راقية لآلة البيانو. (م)
( 2) في النص:  au violon وهو كناية عن الاحتجاز ليلا في قبضة البوليس. (م)


--------------------

هذه الملحمة الإنسانية  لاكسيل مونتي يصعب أن نَفيها حقها في مقالة موجزة، خاصة وهو يعبر بعمق وألم عن المعركة الدائرة بين الموت والحياة... فالمعركة منظمة في أدق تفاصيلها وفق قانون من التوازن بين الحياة والموت لا يقبل التغيير... لذا أترك للقارئ متعة قراءتها، كما استمتعت. محمد أحمد السويدي
بتكليف ورعاية من الشاعر الإماراتي محمد أحمد السويدي، وبدافع من حب المعرفة والسعي لنشرها قامت القرية الإلكترونية بتوفير هذه النسخة من قصة سان ميشيل مترجمة باللغة العربية – ترجمها علي كنعان. (جميع الحقوق محفوظة)
صفحتنا الرسمية في فيس بوك :
منصتنا في جوجل بلس لمتابعة باقي مشروعاتنا 

No comments:

Post a Comment