Wednesday, March 6, 2019

قصة سان ميشيل لأكسِل مونتي - الحلقة رقم 10 - مدام ريكان





سان ميشيل لأكسِل مونتي
                                       ترجمة:  علي كنعان
الحلقة رقم (10) 
XI
مدام ريكان

ليس بعيدا عن شارع دو فليير، كان يعيش طبيب أجنبي، اختصاصي بالتوليد وأمراض النساء، كما علمت.
كان زميلا فظا ساخرا وقد دعاني للاستشارة بضع مرات، لا لمزيد من الاستنارة بمعرفتي الأفضل، إنما ليضع على كاهلي بعض مسؤوليته. وآخر مرة دعاني فيها كانت لأساعده في النزع الأخير لفتاة صغيرة تموت بالتهاب الصفاق تحت ظروف مشبوهة، إلى حد أني ترددت كثيرا حتى قبلت أن أضع اسمي بجانب اسمه على شهادة الوفاة. ولدى عودتي إلى البيت متأخرا في إحدى الليالي، وجدت عربة تنتظرني لدى الباب برجاء ملح من هذا الرجل لكي آتي حالا إلى عيادته الخاصة في شارع جرانيه. كنت قد قررت ألا أتعامل معه بعد ذلك لكن الرسالة كانت ملحة إلى درجة أني فكرت أن من الأفضل أن أذهب إليه بالعربة، أيا تكن الحال. قادتني امرأة قوية ذات مظهر بغيض أعلنت عن نفسها بأنها مدام ريكان، قابلة من الطراز الأول، وأخذتني إلى غرفة في الطابق الأعلى، الغرفة ذاتها التي ماتت فيها الفتاة. مناشف مشربة بالدم، شراشف وحرامات ملقاة على الأرض، دم يقطر من تحت السرير بصوت مشؤوم. والطبيب، الذي شكرني لمجيئي لإنقاذه، كان في حالة هياج. كان محقا لمّا قال أنْ لا وقت لدينا لإضاعته، لكن المرأة المستلقية بلا وعي على سرير العملية بدت ميتة أكثر مما هي حية. وبعد فحص سريع سألته بغضب لِمَ لم يرسل في طلب جراح أو طبيب توليد بدلا مني، ما دام كلانا غير لائق لعلاج حالة كهذه. وبعد بضعة حقن من الكافور والإتير استردت المراة شيئا من قوتها. وبشيء من التردد قررت أن أجعله يعطيها المخدر بينما كنت أتابع عملي. وبفضل حظي المعتاد جرى كل شيء بيسر مقبول، وبعد إجراء تنفس اصطناعي قوي، عاد الوليد نصف المختنق إلى الحياة أمام عظيم دهشتنا. لكنها كانت نجاة محدودة للأم والوليد كليهما. لم يكن هناك من قطن قطني أو كتان أو أي قماش للضماد من أي نوع لوقف النزيف، ولكن لحسن الحظ عثرنا على حقيبة كبيرة نصف مفتوحة وممتلئة بالكتان الرقيق وملابس النساء الداخلية، بادرنا إلى تمزيقها قطعا لحشو الجروح.
قال زميلي وهو يعرض أمامي قميص كتان: "لم أر في حياتي مثل هذا الكتان الجميل، انظر" وهتف مشيرا إلى إكليل مطرز بالأحمر على حرف M "صديقي العزيز"، إننا نعمل في مجتمع راقٍ! وأؤكد لك أنها فتاة رائعة جدًّا، وإن لم يبق منها الآن إلا القليل، فتاة ذات جمال استثنائي، ولا يمكن أن أتردد في تجديد معرفتي بها إذا اجتازت هذه الحالة الخطرة.
وهتف، وهو يلتقط دبوس ماس كان واضحا أنه سقط على الأرض بينما كنا منهمكين في نهب الحقيبة: "آه، يا له من دبوس ظريف، يا للوفاء! يبدو لي وكأنه سيسد فاتورة حسابي إذا وقعنا في أسوأ الأحوال. واحدنا لن يدري أبدا مع هؤلاء السيدات الأجنبيات، فمن الممكن أن تقرر الانصراف خفية كما جاءت، والله وحده يعلم من أين".
قلت، وأنا أختطف دبوس الزينة من أصابعه الحمراء وأضعه في جيبي: "لم نصل إلى تلك الحال بعد، إن فاتورة متعهد الدفن تأتي قبل فاتورة الطبيب حسب القانون الفرنسي، ونحن لا ندري بعد  أي الفاتورتين ستقدم للدفع أولا. أما بالنسبة للوليد..".
وقهقه: "لا تقلق على الوليد، لدينا الكثير من الأطفال هنا، والبديل متوفر إذا وقعنا في أسوأ الأحوال. مدام ريكان تشحن من محطة أورليان كل أسبوع نصف دزينة من الأطفال في "قطار المرضعات". ولكن لا أستطيع أن أتحمل ضياع الأم من بين أصابعي، فعلي أن أكون حذرا إزاء إحصائياتي، فقد وقعت على وثيقتي وفاة من هذا المكان خلال أسبوعين".
لما غادرت مع الفجر، كانت المرأة لا تزال شبه غائبة عن الوعي، لكن النبض بدا مستقرا وأخبرت الطبيب أنها ستعيش، في تقديري. لا بد أني كنت في حالة سيئة تماما وأنا أهبط الدرج مترنحا، وإلا فلا يمكن أن أقبل فنجان القهوة السوداء الذي قدمته لي مدام ريكان في قاعتها الصغيرة المشؤومة.
ولما ناولتها الدبوس لتحتفظ به، قالت مدام ريكان: "آه، دبوس بديع". وتساءلت وهي تدني  الدبوس من مصباح الغاز: "أتحسب أن أحجاره حقيقية؟" كان دبوس ماس رائعا جدًّا ذا قمع من الياقوت متوج بحرف M. كان لمعان الأحجار على ما يرام، لكن الحملقة في عينيها الشرهتين كانت مريبة.
قلت وأنا أكمل حماقتي لأني ناولتها الدبوس: "لا، أنا واثق أنه تقليد".
كانت مدام ريكان تأمل أن أكون مخطئا، فلم يكن لدى السيدة الوقت الكافي لتدفع مقدما كما هو قانون المؤسسة، فقد وصلت في وقت حرج وهي شبه غائبة عن الوعي، وما من اسم على أمتعتها، وكان على رقعة التعريف لندن.
"ذلك يكفي، لا تقلقي، ستدفع لك بشكل حسن".
عبرت مدام ريكان عن أملها في أن تراني من جديد قريبا، وأنا كنت أغادر الدار مرتعدا. 
تلقيت بعد أسبوعين رسالة من زميلي تفيد أن كل شيء سار على ما يرام، وقد غادرت السيدة إلى جهة غير معلومة حالما استطاعت أن تقف على قدميها، دفعت الفواتير كلها وتركت مبلغا كبيرا بين يدي مدام ريكان من أجل تبني الطفل وتنشئته لدى أبوين محترمين. رددت إليه حوالته المصرفية في رسالة مختصرة، راجيا ألا يرسل في طلبي بعد ذلك لأنه كاد أن يقتل شخصا ما. وتمنيت ألا تقع عيناي مرة ثانية لا عليه ولا على مدام ريكان.
وقد تحققت أمنيتي في شأن الطبيب. أما بشأن مدام ريكان فسوف أخبركم عنها في الوقت المناسب.



--------------------

هذه الملحمة الإنسانية  لاكسيل مونتي يصعب أن نَفيها حقها في مقالة موجزة، خاصة وهو يعبر بعمق وألم عن المعركة الدائرة بين الموت والحياة... فالمعركة منظمة في أدق تفاصيلها وفق قانون من التوازن بين الحياة والموت لا يقبل التغيير... لذا أترك للقارئ متعة قراءتها، كما استمتعت. محمد أحمد السويدي
بتكليف ورعاية من الشاعر الإماراتي محمد أحمد السويدي، وبدافع من حب المعرفة والسعي لنشرها قامت القرية الإلكترونية بتوفير هذه النسخة من قصة سان ميشيل مترجمة باللغة العربية – ترجمها علي كنعان. (جميع الحقوق محفوظة)
صفحتنا الرسمية في فيس بوك :
منصتنا في جوجل بلس لمتابعة باقي مشروعاتنا 

No comments:

Post a Comment