حللتُ في الجناح رقم 52 في قصر الباور، والاسم يعود إلى أسرة عريقة تتحدّر
أصولها من ألمانيا، تواجهني وأنا مقبل إلى فنائه الداخليّ ساحة، وفي
الجانب طريقٌ معبّدٌ بالماء.
أما الساحة فهي خليج داخلي يُطلق عليها: القنال الكبرى. وهي ذاتها التي سبح فيها بايرون.
أما الساحة فهي خليج داخلي يُطلق عليها: القنال الكبرى. وهي ذاتها التي سبح فيها بايرون.
صحوتُ بعد قيلولة أثيرة وناعمة على حداء ملاحي قوارب القناة، ولقد كان
اقرب إلى حداء العيس منه إلى حداء الجندول، بل يمكنني القول أنه أقرب إلى
الرمل منه إلى الماء.
ولقد شقّ عليّ أن أدرك بعد خطفةِ إصغاءٍ أن الراكب لا يدرك حداء الحادي وشعره ولا الحادي يدرك لغة الراكب. كان الأمر شبيها بحوار «المتنبي» مع بائع البطاطيخ.
وأنا في غمرة حداء لا ينتمي إلى نفسه تذكرت حكاية سردها صديقي بو مصبّح عندما استقلّ طائرة وكان يجلس إلى جانبه رجل يراه لأول مرّة.
ولقد شقّ عليّ أن أدرك بعد خطفةِ إصغاءٍ أن الراكب لا يدرك حداء الحادي وشعره ولا الحادي يدرك لغة الراكب. كان الأمر شبيها بحوار «المتنبي» مع بائع البطاطيخ.
وأنا في غمرة حداء لا ينتمي إلى نفسه تذكرت حكاية سردها صديقي بو مصبّح عندما استقلّ طائرة وكان يجلس إلى جانبه رجل يراه لأول مرّة.
استدار الرجل ببعض جذعه ناحية (أبو مصبح) وسأله: من أين الأخ؟
فأجابه: من «الإمارات»، ثم سأل أبو مصبح الرجل باقتضاب: وأنت؟
فأجابه وقد فغر فاه دهشة: أنا؟ ألا تعرفني؟
فأسقط في يد (بو مصبح) وقال: أن سؤال الرجل أحرجني، فأنا أعرف الرجال في بلدي من الخرّان إلى السلع، أما هذا الرجل الذي تضاعف حجمه وعدّل من جلسته لمرات بانتظار أن أنطق بمعجزة أسمه جعلني أعود بذاكرتي وأنبشها بقسوة: يا تُرى من هذا الرجل؟..، فقلت في نفسي لعلّه أحد الموظفين الإداريين في المنطقة الغربية ولم أنتبه لوجوده بشكل يجعلني قادراً على معرفته بمجرد النظر إليه، أو ربما أحد العاملين بمحطة بترول أدنوك ولابد أننا كنا نتبادل مجاملات سريعة عندما أتوقف في المحطة لملء خزان الوقود، ثم استقرّ رأيي على ذلك وأردت أن أخبره بالأمر.. فبادرني الرجل قائلاً وهو يحتفظ على سحنته بمزيج من الرجاء والإحباط: أنا «وديع الصافي». يقول بومصبح: وما أن نطق اسمه حتى شعرت بخجل مضاعف فأنا لم اسمع بوديع الصافي من قبل أبدا...
فأجابه: من «الإمارات»، ثم سأل أبو مصبح الرجل باقتضاب: وأنت؟
فأجابه وقد فغر فاه دهشة: أنا؟ ألا تعرفني؟
فأسقط في يد (بو مصبح) وقال: أن سؤال الرجل أحرجني، فأنا أعرف الرجال في بلدي من الخرّان إلى السلع، أما هذا الرجل الذي تضاعف حجمه وعدّل من جلسته لمرات بانتظار أن أنطق بمعجزة أسمه جعلني أعود بذاكرتي وأنبشها بقسوة: يا تُرى من هذا الرجل؟..، فقلت في نفسي لعلّه أحد الموظفين الإداريين في المنطقة الغربية ولم أنتبه لوجوده بشكل يجعلني قادراً على معرفته بمجرد النظر إليه، أو ربما أحد العاملين بمحطة بترول أدنوك ولابد أننا كنا نتبادل مجاملات سريعة عندما أتوقف في المحطة لملء خزان الوقود، ثم استقرّ رأيي على ذلك وأردت أن أخبره بالأمر.. فبادرني الرجل قائلاً وهو يحتفظ على سحنته بمزيج من الرجاء والإحباط: أنا «وديع الصافي». يقول بومصبح: وما أن نطق اسمه حتى شعرت بخجل مضاعف فأنا لم اسمع بوديع الصافي من قبل أبدا...
تذكرت هذا كلّه، وأنا أستيقظ على حداء ملّاحي الجنادل في #البندقية،
فلقد هجروا قواربهم منذ أن بلغ بايرون الجهة الأخرى من القناة ومنذ أن
أصغى جوته إليهم وهم يردّدون أشعار تاسو بحداء الماء الذي يشبه النحيب.
لقد هجروا كل شيء وتركوا خلفهم مادة غيابهم ليشغلها الغرباء بلغة الرمل وحداء العيس.
لقد كان #جوته آخر
من قبض على جمرة حداء جنادلة البندقية وأصغى إلى نحيب أرواحهم وضربات
مجاديفهم في الماء، ومع كل ضربة كانوا يقطّرون أرواحهم غناءً. ولقد وصفهم
في رحلته وصفا جميلا.
أما الآن فأفواج السيّاح من اليابانيين والكوريين والهنود والآسيويين
بعامة لا يميّزون بين أغنية (يشلها) أحمد الكندي وبين أخرى يرسلها (ديميس
روسس).
لم يعد في وسع القوم التفريق بين عرس البندقية العظيم وبين ما آلت إليه أحوال هذه المدينة.
هذه الأمور مجتمعة تذكرني أيضا بالإشكالية التي نواجهها يوميا مع أفواج
السياح ممن يختزلون الصحراء وثقافتها وعمقها وحيواتها بالجَمَل وحده، وهم
لا يميّزون بين الناقة والبعير ولا بين أنواع الإبل، فيكون اختزالهم للفكرة
منقوصا أيضا. فكلّ ما يريدون أن يخرجوا به من سياحتهم هذه هي تلك الصورة
البائسة التي تجمعهم بالناقة وجمّالها الآسيويّ والذي لا يقلّ عنهم في
الغالب جهالة.
في هذه الأيام، لم يعد الحداة من البنادقة، ولم يعد هناك من سمع منهم بتاسو وشعره، ولو عاد جوته اليوم لأحزنه ما آل إليه الحداة وما آلت إليه أغاني الشاعر؟
لقد ذكر أنه طلب من حادي الجندول أن يغنّي له شيئا من تاسو، فماذا لو قمت أنا بالأمر ذاته وسألت أحد حداة الجندول أن يغني شيئا لتاسو وأريوستو؟
قال جوته: جلست على مقعدي في الجندول وكان القمر قد بزغ، وطفق مغنيان، أحدهما يجلس عند القيدوم والآخر عند الدفة، يترنمان بالقصيد تلو القصيد تناوباً. وان النغم الذي نعرفه من روسو يقع وسطا بين الحوار المغنى وتراتيل الكورس، ويمضي دوماً بايقاعات زمنية واحدة دون ضربات محددة. وان انتقالات المقام هي من الصنف ذاته، ويغير المغنون طبقة الصوت تبعاً لمحتوى الشعر في نوع من الترنيم. لن اخوض في مسألة نشوء وتطور هذا الضرب من الانغام. حسبي القول انه المثال الملائم لشخص يغني خالي البال مع نفسه، مكيفاً النغم مع القصائد التي يحفظها عن ظهر قلب.
في هذه الأيام، لم يعد الحداة من البنادقة، ولم يعد هناك من سمع منهم بتاسو وشعره، ولو عاد جوته اليوم لأحزنه ما آل إليه الحداة وما آلت إليه أغاني الشاعر؟
لقد ذكر أنه طلب من حادي الجندول أن يغنّي له شيئا من تاسو، فماذا لو قمت أنا بالأمر ذاته وسألت أحد حداة الجندول أن يغني شيئا لتاسو وأريوستو؟
قال جوته: جلست على مقعدي في الجندول وكان القمر قد بزغ، وطفق مغنيان، أحدهما يجلس عند القيدوم والآخر عند الدفة، يترنمان بالقصيد تلو القصيد تناوباً. وان النغم الذي نعرفه من روسو يقع وسطا بين الحوار المغنى وتراتيل الكورس، ويمضي دوماً بايقاعات زمنية واحدة دون ضربات محددة. وان انتقالات المقام هي من الصنف ذاته، ويغير المغنون طبقة الصوت تبعاً لمحتوى الشعر في نوع من الترنيم. لن اخوض في مسألة نشوء وتطور هذا الضرب من الانغام. حسبي القول انه المثال الملائم لشخص يغني خالي البال مع نفسه، مكيفاً النغم مع القصائد التي يحفظها عن ظهر قلب.
قلت: ولكن الغالب على ملاحي اليوم يجعلني أفكر بملاحي العالم السفلي في
حضارات العالم القديم، فليس هناك من علاقة بين الجندول وحاديه، فلقد انقطعت
وولى زمانها وهو أمر يبعث على الحزن، وهؤلاء عالة على ثقافة البلاد، أما
السيّاح فهم يغذّون بسطحيتهم الجهل بالجهل حتى يصبح مركّبا فتضيع ملامح
الحالة الأولى، أو الحالة الأصلية التي كانت تبعث تاسو من موته في كل مرة
تسيل حناجر الحداة بأشعاره، إنهم بتعبير آخر يفرّغون الجسد من روحه
ويتركونه ملقى جثة هامدة.
السياحة هنا تُعدّ عامرة، ولكن في الغالب يكون الجسم الأكبر من السياح هم من المعسرين ممن يزدردون من الطعام ما يقيم أودهم وليس ما يحملهم على سبر أغوار المطبخ الحقيقي لهذه المنطقة، وكان هذا سبباً في فرض ذائقتهم على أرقى مطاعم البلد.
السياحة هنا تُعدّ عامرة، ولكن في الغالب يكون الجسم الأكبر من السياح هم من المعسرين ممن يزدردون من الطعام ما يقيم أودهم وليس ما يحملهم على سبر أغوار المطبخ الحقيقي لهذه المنطقة، وكان هذا سبباً في فرض ذائقتهم على أرقى مطاعم البلد.
أما الضالعون بالبندقية فهم من القلة، والبندقية في هذا الأمر أقرب إلى
الأوبرا وتراثها منها إلى أي شيء آخر، فقليلون فقط من يمتلكون الدراية
اللازمة لتفكيك عناصر هذا العالم وتحويلها إلى جمال مطلق.
No comments:
Post a Comment