(مشاهدات من رحلة كامل مروة في أوربا وألمانيا أثناء الحرب العالمية الثانية).
11 شباط/ فبراير 1942م
قبل الظهر وصلت السيارة فصعدنا إليها قاصدين إلى أول قرية بلغارية: سفيلنغراد، حيث نركب القطار إلى صوفيا.
وما كدنا نبتعد بضع مئات من الأمتار عن خط الحدود حتى لاحظنا أن الطبيعة قد تَبَدَّلت، إذ انتهت تلك الحقول الجدباء الممتدة من استنبول حتى قابوقولي وانبسطت أمامنا سهول عامرة بالأشجار والمزارع، تشهد بحيوية الفلاح البلغاري وعزمه. وبالرغم من أن الثلوج كانت تغطي كل شيء ...تقريباً فقد كان الزرع الباكر يلوح من خلالها، فيذكرني مشهده وتنظيمه بسهول البقاع عندنا في لبنان.
ولم تلبث السيارة حتى بلغت سفيلنغراد وهي قرية صغيرة شبيهة بقرى الجبل اللبناني ووقفت بنا أمام المحطة. وترجلنا منها ورحنا نسلم جوازاتنا للشرطة. وكان أول ما لفت نظري جندي طويل القامة، معتمر بتلك الخوذة الفولاذية العريضة التي أصبحت رمزاً للجبروت والتحدي. إنه أول جندي ألماني تقع عيني عليه في حياتي.
رحت أتأمل بهذا الجندي، وأدرس على محياه ومظهره صفات هذا العالم الجديد الذي يسوقنا القدر إليه. ولكن لم أجد فيها ما يجعلني أُبَدِّل رأيي في أنَّ الإنسانية واحدة.
وانتهت عملية الجوازات في المخفر البلغاري بسرعة. ولما طلبت جوازي قيل لي:
- يجب أن يمر على المكتب الألماني على الـ"غستابو".
- الـ"غستابو" هنا؟ أين هو هذا الـ"غستاب" الرهيب الذي ترتجف القلوب هلعاً لذكره، والذي تبوأ في سطور الصحف مركزاً دائماً يتنافس منه أحرف الجر والعطف؟
وكان يخيل لي حتى ذلك الحين أن كلمة "غستابو" كلمة خفية، لا يستخدمها إلا خصومه للتعبير عنه، ولكنني لم ألبث حتى عرفت أن الكلمة شائعة، وأنها تجمع المقاطع الأولى من الكلمات التالية: "غيهايم شتات بوليستاي"، أي بوليس الدولة السري.
وأرشدني أحدهم إلى مكتب الـ"غستابو" فرأيت رجلاً بالملابس المدنية، مُكِبَّاً على الجوازات يفحصها، وليس في حركاته أو سكناته ما يميزه عن غيره من البشر. ومع ذلك فهذا هو الـ"غستابو".
- ولكن "غستابو" الجوازات شيء و"غستابو" معسكرات الاعتقال شيء آخر.
ولم تلبث الحوادث أن علمتني فيما بعد هذا الدرس على حسابي الخاص، وعرفت بعد مدة أن ذلك الفتى البلغاري الذي تحدثت إليه في محطة سفيلنغراد، كان هو أيضاً صورة من صور الـ"غستابو".
وطال بنا انتظار الجوازات، فسألت أحدهم عن سبب التأخير، فأجاب:
- الألمان يخابرون برلين بالتلفون في أمركم.
- في أمرنا نحن العرب؟
- نعم، فهم يبلغون برلين عادة أسماء الوافدين الأجانب، وينتظرون جوابها.
- وماذا يكون الجواب عادة؟
- إما القبول أو الرفض أو الاعتقال.
- ولِمَ يعتقلون الناس ما داموا قد أعطوهم الـ"فيزا"؟
- نحن الآن في حالة حرب، وكثيراً ما تكون الـ"فيزا" الممنوحة للوافد الطُعْم الذي يحمله إلى الشبكة.
وكان الشيخ حسن أبو السعود إلى جانبي، فترجمت له أقوال الرجل، فضحك وقال:
- لا تزعج نفسك بالتفكير. لقد أكلنا الطعم… وبقي علينا أن نعرف ما يكون من أمرنا في الصنارة.
http://www.electronicvillage.org/mohammedsuwaidi_article_indetail.php?articleid=133
No comments:
Post a Comment