Friday, April 1, 2016

أكثر البشر فضولاً..



 
 
 
نَعمت بصحبة صاحبي في نزهة رائعة نهار اليوم 28 فبراير، واخترقنا متنزه "كاتشيني" الّذي بللته أمطار (شباط)، نحن في (سعد بلع)، وتحديداً دخلنا ما يعرف بــ (أيام العجوز) التي ذكرها (المسعودي) وسرد أسماءها إسماً إسماً:
كُسِعَ الشِتاءُ بِسَبعَةٍ غُبرِ ** أَيّامَ شُهلَتِنا مِنَ الشَهرِ
فَإِذا اِنقَضَت أَيّامُها وَمَضَت ** صِنُّ وَصِنَّبرٌ مَعَ الوَبرِ
وَبِآمِرٍ وَأَخيهِ مُؤتَمِرٍ ** وَمُعَلِّلٍ وَبِمُطفِئِ الجَمرِ
ذَهبَ الشِتاءُ مُوَلَّياً هَرَباً ** وَأَتَتكَ واقِدَةٌ مِنَ النَجرِ
ولمّا بلغنا سوق (واقف) فلورنسا، رأينا البضائع المتباينة التي عرضتها ضروب مختلفة من الجنسيّات، الكثير من الأفارقة، هولاء الذين كتب لهم النجاة في عبور البحار هربا من جحيم أوطانهم، أردد كلمّا رأيت جموعهم قول أبي الطيّب:
تجمّع فيه كلَّ لِسنٍ وأمّةٍ .. فما تُفهِمُ الحدّاثَ إلاّ التراجمُ
قال صاحبي -بعد أن قضم قطعة حلاوة من الفول السوداني وتسمّى كروكانتي (بالإيطاليّة)-: قرأت عن شائعة متداوله عن "بولجاري" تاجر المجوهرات الشهير في كتاب (لماذا يحبّ الإيطاليّون الحديث عن الطعام) لـ "إيلينا كوستوكوفتش"، أنّه لمّا اخُتطف، كان معصوب العينين؛ فلم ير مختطفيه ولا المكان البعيد الذي حُمل إليه، ولمّا أطلق بعد دفع الفدية عاد إلى منزله آمنا، وأخبر الشرطة عن شكل ونكهة الخبز الذي أكله عند الخاطفين وكذلك طعم الصلصة فقبض عليهم نتيجة ذلك، وأضاف "كلّ قرية في إيطاليا لها مطبخها ومكّونات أطباقها".
وفور عودتي إلى الغرفة 232، قرأت باهتمام ما أرسلته المترجمة (أميمة) من كتاب "ليوناردو دافنشي" لـ "شارلز نيكول" الرائع فتذكرت حديثي لعبد الوهاب عندما قلت: قل لأميمة إنّ ترجمة هذا الكتاب سيرفع اسمها على سلّم المجد. كتب "ليوناردو" قائلا -عندما دخل في خصومات مع إخوته الشرعيين ليس لها نهاية-: "الرجل الذي ضاجع بعنف واضطراب سوف ينجب ابناءَ سريعي الانفعال وغير جديرين بالثقة، ولكن إن تمَّ الجماع بحب عظيم ورغبة من الجانبين سيصبح الطفل مفكراً عظيماً، وحاذقاً، ونشطاً ومحبوباً." ولعلّه أراد أن يشير إلى أن الأطفال سريعو الانفعال الذين كانوا نتاج الرابطة الخالية من الحب هم إخوته الشرعيين غير الأشقاء والأصغر منه سناً بكثير، والذين قد تم إقحامه معهم في نزاعات قضائية مريرة في السنة التي كتب فيها هذه الملاحظة (1507).
لم يترك السير "بيرو" والد "ليوناردو" له في وصيّته شيئا وهو الابن الغير شرعي، بل ترك كل شيء للأبناء الشرعيين، لذا ذهب "فرويد" بأن "ليوناردو" كان يكره أبيه، بيمنا أوصى عمّه –الذي لم يكن له أبناء- بكلّ تركته لليوناردو لذا دبّ الخلاف السالف الذكر. يقول نيكول:
فرانسسكو، وهو أصغر أبناء "أنطونيو"، والمولود في 1436.
وكما هو حال أبيه، لم يكن لدى فرانسسكو أية طموحات عدلية، وقد كان أقرب ما لديه إلى عالم التجارة هو زراعة الحرير النظرية.
ومرة أخرى مثل أبيه، يبدو أنه قد عاش طوال عمره في "فينشي"، يهتم بمزارع العائلة والكروم. وفي إقراره الضريبي لعام 1498 كتب بكل بساطة، "أنا في الريف دون فرصة في الوظيفة." وكان "فرانسسكو" في الخامسة عشرة من عمره عندما ولد "ليوناردو": عمٌ صغير جداً، وشخصية مهمة في بداية نمو "ليوناردو".
لقد تم تدوين ذلك في أول نسخة من حيوات "فاساري" في وصف خاطيء لسير "بيرو دا فينشي" كعمٍ لـ "ليوناردو". وإنّه لمن الممكن أن يعكس هذا الخطأ الغريب (والذي تم تصحيحه كما يجب في الطبعات اللاحقة) بعض المقولات الغامضة بعض الشيء حول كون "ليوناردو" أقرب إلى عمه منه إلى أبيه.
وربما يكون من الصحيح جداً أنَّ "بيرو" كان أباً غائباً، ومشغولاً ولا يتسم بالاهتمام الشديد. وأنّه من الصحيح - بلا شك- أنّه لم يترك أي شيء لـ "ليوناردو" في وصيته: وقتها كان له الكثير من الأبناء الشرعيين، ولكن ألاّ يترك له شيئاً لم يكن بالأمر الهيّن بالتأكيد. أما العم "فرانسسكو" فقد مات – على النقيض- دون أن تكون له أية ذرية، وترك كل أملاكه لـ "ليوناردو" وهو إرث كان لأبناء "بيرو" الشرعيين عليه نزاع مرير.
لقد تمّ التنسيق مع (وليد علاء الدين) على نشر هذه الترجمة على حلقات في موقع (بوابة الحضارات) التابع لصحيفة (الأهرام) المصرية الواسعة الانتشار.
وبين قراءات في سيرة "ليوناردو" وأخرى في رحلة "جوته" في إيطاليا رحت أضع الملاحظات على دفتر عريض القطع، وصلني من أبوظبي لرحلة "جوته" في روما فإذا بلحن يهبط إليّ من عوالم الطفولة رحت أبحث عنه في الإنترنت ويا للدهشة "جوتيم مونو"، أغنية كتبها "سيرغ جينسبرغ" في عام 1967 لتؤديها "بيرجيت باردو"، ولكن التسجيل ظلّ محفوظا حتّى أطلق عام 1986، وهذه الأغنية ظلّت ممنوعة في كثير من البلدان لاعتبارها أغنية إباحيّة، لم أكن على علم بذلك كلّه، ولكنّ ما أذكره أنّها أغنية لازمت سنين المراهقة.
إنها أغنية على رغم طول عهدي بها ما زالت تتردد بين جوانحي، قال "ليوناردو":
الأشياء التي حدثت قبل سنوات طويلة عادةً ما تبدو قريبة وكأنّها قد حدثت للتو، وكثير من الأشياء التي حدثت قريباً تبدو قديمةً كما لو أنّها تجاوزت أيام الصبا.
قبيل أيّام رفعت المقطع التالي في الثناء على "ليوناردو" على صفحتي في الفيسبوك:
مخطوطات "ليوناردو دافنشي" (11 ألف صفحة) عبارة عن خارطة ذهنية لعقل ليوناردو. فهي تشتمل على كلّ شيء؛ بدءاً من أنصاف الجُمل المقتضبة، أو الحسابات المتعرّجة، إلى الأطروحات العلميّة المكتملة الإثبات، والتمارين الأدبية. وطبيعة المواضيع تتفاوت في طبيعتها من التّشريح إلى علم الحيوان مروراً بالديناميكيا الهوائيّة، والعمارة، وعلم النبات، وتصميم الأزياء، والهندسة المدنية والعسكرية، دراسة الأحفوريات، والهيدروغرافيا (علم وصف المياه)، والرياضيات، والموسيقى، والبصريات، والفلسفة، وعلم الآلات، ورصد النجوم، وتصميم الموانئ، وزراعة الكروم. والدّرس العظيم الذي تقدّمه المخطوطات هو أنَّ كلّ شيء خاضع للتساؤل، والتحقيق، والتمحيص، والمعالجة، وتحليله إلى عناصره الأولية.
وقد كان يوكل إلى نفسه أعمالاً منها الصغير والكبير: صِفْ كيف تتشكّل السُّحب، وكيف تتلاشى، وماهي أسباب تصاعد البخار من مياه الأرض إلى الهواء، وأسباب الضّباب، وما يجعل الهواء يتكثّف، ولِمَ يبدو أكثر أو أقل زرقة في مختلف الأوقات.
صِفْ... ما هو العطس، وماهو التثاؤب، التّوعك، والتّشنج، والشّلل، والارتعاش برداً، والتعرّق، والرّهق، والجوع، والنّوم، والعطش، والشّهوة.... صِفْ لسان طائر نقار الخشب.......
لقد كان "ليوناردو" كما عرّفه "كينيث كلارك": " أكثر البشر فضولاً دون كللٍ أو مللٍ في التاريخ".

No comments:

Post a Comment