Thursday, March 31, 2016

النظافة ليست من الإيمان



صباحاً في الطريق إلى "غريفي"،
وهي واسطة عقد "كيانتي"، كان عبوراً باذخاً
وكيف لمن يشهد "رادا"، و"جايول" و"كاتسلينا"، و"فيلا اسيستا"، و"بانزانو" أن لا يكون عبوره باذخاً؟
أليست هذه جنات عدن التي تجري من تحتها الأنهار؟
إنها نوع من المدن التي تكرر نفسها في داخلك في صور وأشكال شتى
فبالرغم من أنني زرتها وتجوّلت في جنباتها من قبل مراراً، إلا أن كلّ مرة في "كيانتي" كان -في حساب الجمال- مرّة أولى.
شعرت وكأن جدي آدم استيقظ من رقدته الطويلة وقال لي: نعم
هذه هي الجنة التي أخرجت منها، عدت إليها،
فكلما زرت "كيانتي" وقراها التي تتوزّعها الهضاب والوديان أشعر بنفسي كما لو أنني عدّت إلى الجنة مرّة أخرى.
في يوم أحد في "بانزانو"، يكون العثور على طاولة فارغة في مطاعمها شبيهاً بهبوط إضطراري من السماء.
فهو أمر شاق لا يتأتى إلا لذي حظّ عظيم
وكنت أحدهم
مررنا بداريو، وهو أشهر قصاب في المنطقة، وله مطعمان أحدهما "ماك داريو" والآخر "داريو دوك"، و"ماك داريو" إشارة الى أنه ندّ لـ "ماكدونالد".
وعندما تكون في أحد مطاعمه، فليس لك أن تفوّت طبق "البستيكا" (شريحة اللحم)، فلداريو شروط أربعة يجب توفّرها لتمنح "بستيكا" لا يدانيها في مرتبتها شيء.
أولها: أن تكون البقرة منعّمة ومرفّهة ترعى في جنّات آدم ذاته،
وثانيها أن تكون ميتتها كريمة ورحيمة، والثالث أن يلتزم تقطيعها قصاب ماهر، ورابع شروط داريو هو ما يتعلق بطهيها، فيجب أن تُطهى على عينه.
ولداريو شغف بعمله جعله يعرف أبقاره، وربما أطلق عليها أسماء كما نفعل لتمييزها، وإذا ما أصابها سوء فيمكنك أن تدرك ذلك بمجرد النظر إلى وجهه. ولعل جنون البقر كان، في أول ظهوره، أمر موجع لم يتمكن داريو من تفاديه، وعندما قوطعت لحوم الأبقار، خرج في مسيرة حمل فيها تابوتاً مليئاً بلحوم أبقاره وأخذ يجوب به طرق المدينة كمن ينعى لحوم البقر، ومن خلفه التحقت مسيرة كبيرة.
على مائدة الصباح، تحدّثت عن رحلتنا الأبدية في الكون، أو لأقل الرحلة من السرمد إلى الأبد، فالقمر يبتعد عن الأرض قلامة إظفركلّ يوم ، ودرب التبانة هذه المجرة التي يرصّعها (200 مليار نجم) تتمدّد وتبتعد كسحابة.
الأرض تكمل دورة حول الشمس في كل 365 يوماً، أما الشمس فتحتاج إلى 250 مليون سنة لتكمل دورة واحدة حول مركز المجرة.
القمر على بعد 380 ألف كيلومتر، أما الشمس فعلى بعد 150 مليون كيلومتر عن الأرض.
وعندما بلغ "نيوهورايزون" (الأفق الجديد) بلوتو العام الماضي، وهو على بعد 5 مليارات كيلومتر، لم يكن يتوفر على وقود كاف ليدور حول "بلوتو"، لكن حسبه أنه التقط صوراً لمجموعتنا الشمسية، فلم يتمكن من القبض على الأرض، أو أي من الكواكب السيارة في مجموعتنا، لكن الشمس بدت لعينيه كنقطة ضوء يصعب تفريقها عن النجوم الأخرى.
لقد رمق المجموعة بنظرة وداع أخيرة، وكانت الشمس كشمعة ستخفق فيها ريح المسافة فتنطفئ.
في المساء زرنا "سيينا"، وتناولنا البوظة في محل "غروم"، وفيها أكبر ساحات أوروبا القروسطيّة وأجملها، وفيها يقام سباق للخيول مرتين في العام يُطلق عليه "الباليو"، أي معطف السيدة العذراء.
قال ديوارنت إن المدينة التقيّة "سيينا" قد كرّست له نفسها وحياتها منذ أمد بعيد.
أما كنيستها الشامخة، فتزيّنها أعمال جيوفاني بيسانو، وهناك نافورة العالم أو نافورة نبتون، وهي نافورة استمدت بريقها من الشمس، و يطلقون عليها نافورة الشمس أيضاً.
شعرت بحضور طاغ للدين، وتحديداً دين القرون الوسطى، أو ربما المسيحيّة الأولى، وتذكّرت جوته في روما يصف شموع وبخور كنائسهم: تلك هي الشموع ذاتها التي سودت، طوال ثلاثة قرون، الرسوم الجدارية، وهذا هو البخور نفسه الذي حجب، بغطرسة المقدس، شمس الفن بالغيوم، واضعف نورها عاماً بعد عام، ليصيبها اخيراً بالكسوف التام.
وتذكرت كيف أن الرومان كانوا أول من ابتدع الحمامات واشاعوها في أصقاع الأرض.
سيينا بأسواقها وساحاتها، بالباليو وخيوله، بنافورة نبتون، بمحالها وبوتيكاتها الأخاذة، بوجوه حسانها اللواتي كما لو أن الجمال قطّر تقطيرا بطيئا فأصبحن ما هنّ عليه، تجمّعت كلها خلف صيحة واحدة وأطلقتها مدويّة في وجه الكهنوت الحالك حتى تخلّصت منه ولم يبق سوى أطلاله
ثم وعلى حين غرّة نهضت في ذاكرتي حملات التنديد التي وقفت المسيحية من ورائها بدعوى أن هذه الحمامات ليست سوى بؤر للفجور والفسق والرذيلة وجهرت بعدائها حتّى أقسمت أنّ النظافة ليست من الإيمان.

No comments:

Post a Comment