Tuesday, November 24, 2015


كارمن




 
 
إذا كانت كلمة كارمن تعني الأنشودة أوالرقية، فكارمن بروسبر مريميه
هي أنشودة أندلسيّة رقيقة مولعة بالرقى، مغناج طروب شديدة الشغف بالرجال. الجمال الأندلسيّ يقتضي اجتماع ثلاثة: سواد الهدب والحاجب والضفيرة؛ وبياض ثلاثة: الوجه واليد والأسنان؛ وورد الثلاثات: الشفة والظفر والحلمة. وكان قدر دون خوسيه، الجندي الغرّ أن يكون صريع هوى هذه الثلاثات. فقبل أن تلّقنه في غرفتها الحمراء أولّ درس في الغرام، وقف يصلّي للعذراء فقطعت عليه صلاته قائلة: ما الذي سألتها في صلاتك؟
فأجاب: سألتها أن تعودي إلى عملك في مصنع التبغ وأن تنبذي حياة البغاء  وراء ظهرك!
فقالت: لمَ لم تصلِّ لطواحين الهواء؟
فقال: صليّت لأجل أن يباركك الربّ فتأخذك بي عين الرأفة.
فغمزته قائلة: هذه العذراء التي تصلّي لها أندلسيّة، وهي تعرف جيّدا أنني لن أتغيّر.
قال: كلّ العذراوات هنّ أمنّا الطيّبة مريم. وأضاف: صلّيت لعذراء نيفاس، وعذراء إليزوندو...
فقاطعته هامسة في أذنه كأفعى: لقد عاهدت الشيطان، ولن أعود إلى الوراء.
لا شكّ لديّ إن باز فيغا، الأندلسية الأصل، التي قامت بدور كارمن والتي عرضت بضاعتها الأندلسيّة بسخاء، كانت شهيّة كتفّاحة، عذبة كأغنية. ولا يقلّ جاذبية عنها، ولا أدفع  للأسى منها سوى الممثل الأرجنتيني ليوناردو سباراجيّا الذي قام بدور دون خوسيه، الذى لو صلّى لطواحين الهواء لاستجابت لدعائه، ولكن الفيلم يمضي كما شاء مريميه وأراد أراندا البرشلوني مخرج الفيلم إلى النهاية التي أودت بكارمن وخلّصتها من شراك الحب التي راح ينصبها لها حبيبها الثقيل في كلّ مكان. وبينما أخذته نوبة من البكاء بعد أن لقيها ثانية بالصدفة، وإذ يضع يديه في خناقها قائلا: ماذا لو قتلتك الآن؟! سأجنب النفس أنهارا من الدموع.
فأجابته، وكانت تؤمن بالطالع: ستفعل ولكن ليس الآن، فدع عنك دموع التنّين هذه فهي أنسب لأحد رقاي وتمائمي. وحمل السعير الذي يؤجج جسد الصبيّة وفستانها معا إلى إسكاميللّو، مصارع الثيران، لتلقي بنفسها في أحضانه. ولكن دون خوسيه يخطفها منه بعدما أرداه قتيلا. ولمّا أرادت الخلاص منه بعد أن طفح كأس الكراهية، زاد تشبثّا بها حتّى تخلّص منها بطعنة خنجر أو خلّصها منه. ولكن كيف يقتنع دون خوسيه بذلك، وهو يضمّ جسدها العاري المضّمخ بالدم ويمطره بوابل من القبلات ويرسل صيحته الأخيرة الشجيّة في رثائها أو لعلّها في رثاء نفسه، إذ يقول:
عندما يقتلونني
سيهبونني الحياة لأجدك
وهناك في الموت
سأحظى بجسدك الحبيب
ليكون بجانبي إلى الأبد
وإذا لم ترحمني العذراء لخطيئتي
ما همّني
إذا اصطليت بنار جهّنم وأنت بجانبي
ما همّني
إذا فزت بك ولو لوهلة قصيرة في الحياة الثانية
أنا الذي عبدت جسدك
وسوف يظلّ حيّا خالدا في أغانيّ، ولو صرت من عداد الأموات.
 
 
هذا على الضفّة الشرقيّة من الوادي الكبير، وأما على الضفّة الغربية فتسكن كارمن أخرى تصدح بلحن حظي بشهرة كبيرة في عالم الأوبرا لمؤلفه بيزيه، فما من مدينة كبرى في العالم اليوم إلا وتقطنها كارمن. قامت بدور البطولة فيه مغنية الميتزو سوبرانو جوليا ميغنيز من مواليد منهاتن. وعلى الرغم من أنّ ليس لها حظّ من زينة بنات الأندلس، إلاّ أن أبّولو نفسه بارك صوتها فاختارها فرانسسكو روسي لتقاسم مغنّي التينور العالمي بلاسيدو دومينغو دور البطولة. التزم المخرج فيه الرواية الأوبرالية للعمل، وأدت به جوليا رقصات بزّت فيها كل راقصات مصنع التبغ الأندلسيّات المولد. فمن لم يسحر بأدائها الراقص في أغنية الهابانيرا الكوبيّة الأصل: (الحب طائر نزق)، وأغنية السكواديلاّ التي تغوي بها خوسيه (بمحاذاة أسوار إشبيلية سأرقص السكواديلاّ). ورقصة الغجر: (الصنوج لها رنين) وأغنية مصارع الثيران: (نخبك يا سيّدي) وأغنية الوردة: (بوله أحتفظ في الحبس بوردة) وأغنية ميشيلا: (دعني أقول لك أن لا شيء يخيف).
 
كارمن عمل ليس باليسير ولوج جنّاته المتوحشة، ولكن بوسعك الآن أن تأخذ مفاتيحها بقوة.

أراد له بيزيه أن يكون تاماً وشاملاً، وهو ما دفعه لاحقاً إلى الكتابة بعد فراغه منه قائلا: (يقولون إنني غامض وملتبس ومعقد ومعنيّ بإظهار الطابع الشكلاني وأفتقد إلى الموهبة، ولكنني فرغت للتوّ من كتابة عمل واضح يحفل بالإبداع، ومفعم بالتنوّع والألحان الشجيّة). وجلا بيزيه الستار عن عروسه كارمن في باريس في 3 مارس 1875م ولكن أيّ الجمهور لم يتّقدم إليها، وطالتها أقلام النقّاد بالسوء، وفي 3 يونيو من العام ذاته قضى الموسيقار الكبير كمدا على هذا الإخفاق عن عمر لم يتجاوز السابعة والثلاثين. ولا يزال الزمان يحتفل بكارمن ولا يزال بيزيه يجلس في مقصورة الغياب، مستعيدا مجده الضائع.

http://www.electronicvillage.org/mohammedsuwaidi_article_indetail.php?articleid=2

No comments:

Post a Comment