عند مقطع الخصر
#محمد_أحمد_السويدي_مقالات
يبدو أن هناك يداً خفيّة مهّدت لهذا اللقاء، لا أستبعد قيادة تلك الوسيطة الماهرة التي خبّرنا عنها عمر:
فبعثنـــــــــــــــــا طَبّةً عالمــةً ** تخلــــــــــط الجِدّ مرارا باللعـبْ
ترفع الصوت إذا لانت لهــــــا ** وتراخى عند سوراتِ الغضبْ
تلك الخبيرة المحنّكة التي قال له ابن عتيق، حفيد أبي بكر الصدّيق: "الناس في طلب إمام مثلها مذ قُتل عليّ". لكنّ العالمة الساحرة هنا ليست البطل الرئيس في المشهد، حسبنا أن نتصوّر أنّها اليد الخفيّة التّي مهّدت للقاء.
نجمةُ المشهد صبيّةٌ من مكّة على موعد مع عمر بن أبي ربيعة، الشاعر الذي سمعتْ عنه ولم تره من قبل قط. ولكنّها في هدأة تلك الليلة المرتقبة باتت على موعد للقائه.
نستشفّ من الأبيات التالية أنّه تسلّل إلى خبائها خفية، فهو بصير بحال المكان وإن كان في موهن من الليل، ونتخيّل أنّه كان خلفها لمّا داهمها ووضع كفّيه بكل ثقة على طرفي خصرها قبل أن تشعر به:
فوضعت كفّي عند مقطع خصرها، فتنفّست.
تنّفست تنفس الخائف الفرق، ولكنّها إذ كانت على علم بالموعد لم تنبس بكلمة، اكتفت بذلك النفس الذى صدر في لحظة وجل إذ أحسّت بكفٍّ خلفها تتسلّل برفق إلى خاصرتها، ولم تتكلّم:
فتنفّست نفسا فلم تتلهَّجِ
ثمّ التفتت وجلة، فلزمها بذراعه، وضمّها إليه، وباغتها بقبلة خاطفة، لثمها، وكأنها لثمة تحية وتعارف، ولعلّه هكذا أراد اختصار الطريق إليها، فالشاعر كما قال في لقاء آخر وكما عهدناه دائما:" يقيس ذراعا كلّما قسن إصبعا". ثمّ أليست هي التي استجابت إلى رسول الشاعر؟.... من؟ سألته فزعة، فلم يتردّد في الكلام، بل همس حالا: عمر! هكذا عرّفها بنفسه ليطمئن قلبها إليه:
فلزمتها فلثمتها فتفزّعت ** منّي وقالت: من؟ فلم أتلجلجِ
ثم إنّها عرفته ودفعته عن نفسها، إما غنجا أو لتستوثق منه، وخاصّة أنه أوّل لقاء، ولم تلبث أن أقسمت أن تنبّه الحيّ إن لم يخرج، فاستجاب لها على الرغم من أنّ القبلة الخاطفة لم تطفئ ظمأه. فما إن همَّ بالخروج حتّى لمحها تبتسم، فأدرك أنها ابتسامة الرّضا والقبول، إنها اللحظة الفاصلة بين حال وحال، أو قل إنها ابتسامة أذهبت رهبة الموقف ومخايل الإثم، إثم اليمين، عرف بها أن يمينها لم تكن عن ضيق أو قصد فعاد:
فخرجتُ خوفَ يمينِها فتبسَّمتْ ** فعلمتُ أنّ يمينَها لم تُحرِجِ
ثمّ مدّت يمينها الى فروة رأسه، اختار مقطع الخصر فاختارت مسّ شعر رأسه لتغوص فيه أناملها الغضّة التي زيّنها الخضاب، الخضاب الذي أعدّته لذلك اللقاء:
فتناولت رأسي لتعلمَ مسَّه ** بمُخضَّبِ الأطرافِ غيرِ مشنّج
فهل كانت الموعودة في ريب من شخصية الشاعر العاشق؟ أم أن الأمل بقدومه كان أقرب إلى الحلم البعيد؟ وهل كانت تلك الحركة العفوية منها وهي تتلمّس رأسه وتشكّ أناملها في شعره لتتأكد أنه هنا في خبائها وفي متناول يدها؟
ولنا هنا أن نوازن بين حركة يده التي انقضَّت على مقطع الخصر، تحتضن طرف الكشح، أرق موضع للضم والامتلاك.. وبين لمستها الأنثوية الناعمة، لمسة المرأة الحنون للطفل الشقي، إذا أردنا أن نتجاوز لهفة العاشقة، ولو لحظة خاطفة.
عاد إليها ثانية ليخطف ثمرة الموعد، خمرتها المخبأة، لاثماً الصبيّة التى دلّهها العشق، آخذا بقرونها أو بذوائبتها في قبلة محمومة يرتشف فيها رحيق الثغر كما يشربُ النّزيف المصابُ بالحمّى الماءَ الباردَ الصافي المكنون في نقرة عالية في جبل ما زالت ذروته تحتفظ ببرودتها الثلجية.
فلثمتُ فاها آخذاً بقرونِها ** شربَ النزيفِ ببردِ ماءِ الحشرجِ
من كانت تلك الصبيّة؟ ما صورتها؟ كم لها من العمر؟ إن ابن أبي ربيعة وحده يعلم ذلك، ولكن ما نعلمه أن تلك اللحظات الخاطفة المنهوبة من مكارم تلك الليلة التي رشف فيها رضابها البارد كانت أشهى ما نال من نعيم الفردوس.
No comments:
Post a Comment