"برزخ بين جنّتين"
(1)
رتّبنا مع إدارة الفندق تأمين دليل يتفرّغ من أجلنا، ويصطحبنا في جولة إلى متحف "الأوفيسي" والمعبر الذي يمتدّ منه حتى يبلغ قصر "بتّي"، كانت الدليلة "لوسيا مونتسكي" في انتظارنا في قاعة استقبال فندق "الإكسلسيور" في فلورنسا.
بَدتْ في شكلها وهيئتها كمن خرج من قالب "هيلاري كلينتون"، فالشبه بينهما يجعلك تفكّر لبرهة بلعبة اكتشاف الفروقات الخمس بين شكلين متطابقين، لولا أنها من مواليد الجدي، وفلورنسيّة.
وعندما شرعنا بالجولة انضمّت إلينا سيدة طيبة القلب، تعمل في أمن المتحف تُدعى "فلورا"، وتذكّرت أن لاسمها من مدينة "فلورنسا" نصيب، أو كأنها لفرط طيبتها زهرة خرجت من ربيع "بوتشيلي".
في الطريق شكوت لـ "لوسيا" كسل الطليان؛ فقد قصدتُ وصاحبي يوم أمس كنيسة "سان لورندسو" فقيل لنا أنهّا توصد أبوابها في وجه السيّاح اعتباراً من الواحدة والنصف ظهراً، كانت الساعة تقارب الثانية عندما بلغنا الكنيسة، فقالت مؤيّدة: هذه ملاحظة في مكانها، كثيرٌ من شبابنا يؤثر الكسل..
عندما بلغنا في جولتنا معبر (ممرّ) "فاساري"، استيقظت في ذاكرتي كل الأشياء التي قرأتها وخبرتها من قبل عن المعبر الذي يفصل بين قصرين، وعائلتين، وزمنين، زمن ما قبل بنائه عندما كان "آل ميدتشي" يخالطون العامة، وزمن ما بعد إقامة المعبر والذي أصبح برزخا يطلّ منه "آل ميدشتي" على الناس دون أن يلحظ وجودهم أحد.
لقد أنشأته عائلة الميدتشي ليصبح مكاناً خاصاً يؤمن تنقلاتهم بين القصرين، وهما قصر عائلة "بتّي"، وهي من العوائل الفلورنسية المنافسة لآل ميدتشي، وقصر آل ميدتشي ذاته.
أما عائلة "بتي" فلقد اضطرت لبيع قصرهم لغرمائهم بعد أن ألمّت بهم ضائقة كبيرة.
وأمّا الغاية من بناء المعبر فلقد وقفت خلفه وفعّلته كحاجة وجودية حادثة الاغتيال التي تعرّض لها "جوليانو" الوسيم وأودت بحياته، وهو شقيق لورينزو وشريكه في حكم فلونسا.
جاءت الحادثة عندما كان على الأخـَوَين ميديشي مواجهة تصاعد هجمات الأسر المنافسة، وفي مقدمتها عائلة "باتسي" الذين خططوا لمؤامرة عُرفت بين المؤرخين بمؤامرة "آل باتسي" وكان هدفها قتل الشقيقين.
وفي يوم 26 أبريل من عام 1478 وأثناء القداس في كاتدرائية "سانتا ماريا دل فيوري"، هـُوجـِم الأخـَوَان، فطعن "جوليانو" طعنة قاتلة. بينما أصيب لورينزو بجروح طفيفة، ونجى.
ولم يترك لورينزو الرائع كما كان يُلقّب أمر الاغتيال يذهب بدم أخيه سدى، فقام بأعمال انتقام وثأر قاسية طالت المتآمرين ومنهم البابا "سيكستوس" الرابع وابن شقيقه "جيرولامو رياريو" حاكم "فورلي وإيمولا".
ورغم الانتقام، إلا أن الحادثة ظلت تؤرق "آل ميدتشي"، فكيف لهم أن يجتمعوا مع الناس في قدّاس وأن يضمنوا بقاءهم أحياء وهم راكعون عند المذبح، ولا يحدث لهم ما حدث مع أخيهم الذي قُتل وهو راكع.
قرر الميدتشي أن لا يخالط أحداً من الناس وتداول الأمر مع عائلته ومستشاريه، فصار أمرهم إلى بناء هذا المعبر الذي يمتدّ بين القصرين بمسافة 1500 متر، فهو سيضمن لهم القدرة على الهرب والتخفي حال حدوث شيء طارئ.
كانت "فلورنسا" تعجّ بالأبراج على عادة مدن "إيطاليا" التي طالما تنافست عوائلها في إقامة الابراج، ويتطاولون بها كرمز للمكانة الإجتماعية، وكان أحد هذه الأبراج يقع في طريق ممر "آل ميدتشي" بحسب الخرائط التي وضعها مهندسوه، فعرض على صاحب البرج وكان اسمه مانييلي أن يخترق الممر برجه ويمرّ من خلاله، فرفض الرجل عرض الميدتشي، فاضطر "فاساري" إلى أن يلتفّ على البرج الذي لازال حتى اللحظة شاخصاً.
ولقد زُيّن المعبر بمئات اللوحات النادرة وذات القيمة الباهضة، ولقد خسرت ذاكرة العالم الجمالية نحو 130 لوحة في تفجير سيارة مفخخة في 27 مايو 1993 في زقاق تورّي دي بولشي بين متحف أوفيزي ونهر آرنو، دبّرته عصابات المافيا، مما أتلف هذا العدد الهائل والذي مكث برغم الضرر البالغ في أمكنته للدلالة على التذكير بحجم الكارثة الفاجعة، أما الرسالة التي أرادت المافيا أن توصلها إلى المسؤولين فيمكن اختزالها بالجملة المقتضبة التالية: «دعونا وشأننا، وإلا فنحن قادرون على أن نطالكم».
بدأنا جولتنا مع الدليلة يصحبها الحارسة "فلورا" الأسد، وعندما أوشكنا بلوغ الجزء المودي إلى الجسر القديم، بدأ الجو يصبح أكثر برودة، فقالت الدليلة إنّ هذه البرودة عامل للحفاظ على اللوحات التي تزيّن المعبر.
لقد كانت هذه التقنية المعمارية قائمة قبل اكتشاف الكهرباء ونظم الإنارة والتبريد وتفريغ الهواء المعاصرة، وبالفعل فإن اللوحات التي تزيّن المعبر وتمنحه بهاءه لا زالت صامدة بذات الجمال والإشراق.
شاهدنا لوحة حمام سوزانا ويدعوها البعض بعنوان (سوزانا والشيخين) للفنانة "أرتميسا جنتلسكي" من عام 1526م. وهي قصة مأخوذة من الكتاب المقدّس، تتناول سوزانا الجميلة التي روادها عن نفسها شيخان من القضاة بعد أن رأياها تستحمّ وهدداها بتلفيق تهمة الزنا مع شاب، فعفّت، ولم تستجب، فحكما عليها بالموت.
بدت لنا النوافذ التي تتوزع الممر محافظة على ذات الهيئة، فلقد كان بوسع "آل ميدتشي" أن يتطلّع من خلالها إلى الناس دون أن يكتشف وجوده أحد، وكأن لسان حاله يقول لهم: «إنني أبصركم وأصغي إليكم ولا تفوتني شاردة ولا واردة بينما ليس بمقدوركم أن تدركوا وجودي».
أما المعبر ذاته فهو مغلق أمام الزوار، والدخول إليه يكون بالتحصّل على تصريح خاص، ولقد تمكّنا من فعل ذلك، بعد أن حصلنا على استثناء خاص.
ومما حفل به المعبر صور لـ "الكاردينال ليوبولدو" بوجهه البيضاوي الذي ورثه عن أمه النمساوية مجدولينا وهو الذي رعى "غاليلو" ودعمه أثناء إقامته الجبرية، كما شجّع الفنانين على الإقبال على رسم البورتريت، سواء الشخصي أو الذي يمثّل أشخاصاً بعينهم.
وكان لطيفاً أن نرى بورتريتا شخصياً نسب لبعض الوقت إلى "دافنشي" قبل أن يتمكن الخبراء من تأكيد أنها لا تعود له، فسألتُ الدليلة عنه، خصوصاً وإنني عارف بـ "ليوناردو" وحرصت على الإلمام بكثير من حياته ودقائقها، ولم يكن هذا البورتريت من بعضها، فقالت: إن الميديتشي كان من هواة البورتريت، بل ومن الراسخين فيه وشجّع عليه، فانهمك الفنانون يرسمون أنواعاً منه، ثم اتسع الأمر وصار يقتني ما يُعرض أمامه منه حتى وصله ذات يوم هذا البورتريت من أحدهم، وقال أنه يعود إلى "دافنشي" ذاته، وبالفعل تمّ اقتناؤه.
وللحديث بقيّة....
No comments:
Post a Comment