Monday, March 18, 2019

ليوناردو دافنشي: رحلات العقل - 7 - أصداء الحرب





ليوناردو دافنشي: رحلات العقل 
7-أصداء الحرب...

في عام 1494، وفي خضمّ التحضيرات لعملية صبّ الحصان، والنزاع حول عذراء الصخور، والمشاعر المبعوثة لعلاقته بوالدته، والدراسات الميكانيكية المعقدة في مخطوطات مدريد، كان ليوناردو يناضل طوال يومه الذي قد تتسم بعض أنشطته بالأعمال والأخرى بالمتعة، وتتبقى بعض الأجزاء ليمضيها مع مفكراته الصغيرة. 
29 يناير 1449- ملابس وجوارب 4 ليرات 3 سولدي
بطانة 16 سولدي
الحياكة 8 سولدي
خاتم من اليشب 13 سولدي
قطعة كريستال[بيترا النجمية] 11 سولدي

2 فبراير 1494- في الاسفورزية [قصر لودوفيكو الصيفي في فيجيفانو] رسمت 25 خطوة تبلغ كل منها ثلثي ذراع طولاً، وثماني أذرع عرضاً.
14 مارس 1494- أتى غالياتسو ليعيش معي، موافقاً على دفع 5 ليرات في الشهر لتغطية نفقات إقامته..أعطاني والده 2 من الفلورينات الراينية.
20 مارس 1494- كرم فيجيفانو...مغطاة بالغبار في الشتاء.
6 مايو[1494؟]- إن وضعت عينيك في الليل بين الضوء وعين قطٍ، فسوف ترى عينه وقد بدت كما لو أنّها تشتعل.
[1494- تقديرات لأعمال الديكور، في فيجيفانو على الأرجح]
بند: لكل قوس صغير 7 ليرات
نفقات اللازورد والذهب 3.5 ليرة
الزمن 4 أيام
النوافذ 1.5 ليرة
الإفريز في أسفل النافذة 6 سولدي للذراع
بند: 24 صورة من التأريخ الروماني 14 ليرة لكلٍ
الفلاسفة 10 ليرات
للأعمدة المتوجة، وقية واحدة من اللازورد 10 سولدي
للذهب 15 سولدي
شوهد ليوناردو في فيجيفانو باعتباره المصمم الداخلي لسفورزا، وقد طولب أيضاً بإنتاج نوع مختلف من التصميم: شعارات سياسية دعائية- العمل الذي يجعله يدخل عالم صنع صورة الأسمر. فقد كانت شعبية لودوفيكو تتراجع. وفي البيئة القبلية السياسية في القرن الرابع عشر، دائماً ما يوجد من يشعر بالإقصاء، ومن يشكلّون نواة للاستياء، ويحصلون على الانتباه بشكل متزايد. كان تعطش لودوفيكو للسلطة المطلقة قد أصبح جلياً صريحاً في ذلك الوقت. وقد عزل جيان غالياتسو وإيزابيلا في عزلة محكمة في السيرتوزا الكئيبة ببافيا، حيث بدأت صحة الدوق الشاب في الانهيار. وقطع علاقاته مع ملك نابولي، الذي احتج على معاملة حفيدته. كما تودد إلى الإمبراطور الذي كانت لديه السلطة لتنصيبه دوقاً شرعياً- وقد اعتبر الكثيرون أنّ المهر البالغ نصف مليون من الدوكات والذي قدمه لابنة أخيه بيانكا عندما تزوجت الامبراطور؛ ليس سوى رشوة، على حساب دافعي الضرائب، سعياً وراء الدوقية. 
يجوز تفسير العديد من الرسومات الأولية كأفكار لشعارات سياسية، تم تصميمها للتعبير عن الخط الرسمي بأنّ لودوفيكو كان الحاكم الوحيد الشرعي للدوقية، وبناء عليه فيجب الاعتراف بذلك. ويظهر أحدهما كلباً يواجه ثعباناً بغيض المنظر بضراوة، ويقول الشعار "Per non disobbedire" "لا للعصيان".  فالثعبان أو الأفعى (أداة التحذير الفيسكونتية) هي يلانو، أما الكلب فدلالته التقليدية هي الإخلاص والوفاء. يبدو أنّ رسالة الشعار تقول إنّه لا يجب أن "تعصي" ميلانو حارسها المخلص لودوفيكو، والرسالة التي يحملها الكلب في عنقه ربما تشير إلى أنَّ قيادته تستمد شرعيتها من القانون. وهنالك رسم آخر لشعار تجسّده صورة غربال يحمل عبارة "Non cado per essere unito " " إنني لا اسقط لأنني متحد": وهي رسالة مماثلة عن الوحدة السياسية. 
وهنالك تشكيل رمزي (لتمييزه عن الشعار)- "الأسمر والنظارات، والحسد مصوراً مع بلاغٍ كاذب، والعدالة سوداء ترمز للأسمر" ، على ورقة منفصلة موجودة الآن ضمن مجموعة بونات في بايون. يحمل الأسمر ذو الوجه الأسود نظارات، كرمز للحقيقة، ينظر باتجاه الحدس، والذي يحمل شريطاً مصوراً فيه طائراً مخترقاً بسهم. ربما هذه على الأرجح هي فكرة لعمل دعائي احتفالي- بزي خاص، ورمزية ثلاثية الأبعاد. وقد وجد وصف مماثل في كرّاسة لاحقة تعود لعام 1497: " الأسمر على هيئة الثروة" و"السيد غوالتيري [ غوالتيرو باسكابي، أمين خزينة الدوق] يحمل أثوابه بوقار من خلفه." الهيئة المرعبة للفقر" – أنثى، مثل تصوير الحسد، السبّ، إلخ.- مصوّرة وهي تجري باتجاه "لاعبٍ شاب"، "يحميه" الأسمر "بثوبه، ويخيف الوحش بصولجانه الذهبي".  ويذكر ليوناردو باسكابي في مسودة مقتطعة من خطاب يعود لعام 1495، يشكو فيه من عدم سداد المال:" ربما لم يأمر معاليكم السيد غوالتيري، فيظن أن لدي ما يكفي من المال ..." 
وتبدو هذه الشعارات والرموز السياسية تافهة كرسومات ولا تتسم بقوة المعنى الذي تعكسه. فيشك المرء أنّ ليوناردو لم يكن متصالحاً مع كونه  جزءاً من الآلة الدعائية للأسمر على وجه التحديد. لقد كان له اهتمام أصيل باستمرارية هيمنة راعيه، وكان مستعداً لتكريس مهاراته لذلك الهدف. لقد تعاون، كما فعل لاحقاً مع القائد العسكري سيزاري بورجيا. لقد اعتمد معاشه على مثل هذه العلاقات التعاونية، بالطبع، ولكن على المرء أن لا يهمل عنصر القبول، وعدم الاكتراث لللامبالاة السياسية. إنه رجل بلا أوهام: لقد عرف الواقع القاسي للسلطة، وتعلم أن يعيش معه. الانتهازية هي كل شيء: فيجب الإمساك بالثروة من شعرها بينما تمرُّ بنا- لا يجب أن نتلكأ لحظة واحدة، "لأنها صلعاء من الخلف". ربما كانت مشاعره المترددة حاضرة في الشعار الذي يرسمه مصوراً شجيرة التوت الأسود بشعار "الحلو والمر والشائك". وفوقها مكتوب الكلمة ""More، التوت الأسود، في تورية للحب "amore"، ولكن يصعب تجاهل التورية الأبعد للأسمر "إل مورو"، والتي تأتي معها- ربما- فكرة المرارة الخاصة التي يعانيها الفنان في تلقي الأجر من  أحد الطغاة.  
15 سبتمبر 1494- "شرع جوليو في صنع القفل لمرسمي." 
كان صانعو الأقفال بمدينة ميلانو مشغولين في هذا الوقت. فقد دخلت القوات الأجنبية إلى البلاد- الفرنسيون، على الطريق يقصدون ممكلة نابولي، حتى يؤكدوا ادعاءهم ملكية تلك الأرض بقوة السلاح. رحب بهم لودوفيكو: حلفاء ضد العدوان النابولي.  فاحتفى هو وبياتريس بالملك الفرنسي، تشارلز الثامن، وأقاموا من أجله الاحتفالات في بافيا.  وتم تجاهل أحد قادته الجبَّارين، وهو دوك دي أورليانز- الذي كانت أمّه من عائلة فيسكونتي، السبب الذي دعاه للاعتقاد بأحقيته في دوقية ميلانو، فقد كانت أورليانز في ذلك الوقت محتلة ضمن الأراضي المحتلة من جنوا. وفي بافيا كان الدوق جيان غلياتسو يحتضر. زاره الملك تشارلز وأشفق عليه، ولكنّه كان محرجاً من الدوقة إيزابيلا، التي توسلت إليه بمقلتين دامعتين أن يرحم والدها، الفانسو، الذي أصبح الآن ملك نابولي بعد وفاة فيرانتي قبل شهور قليلة. أما المؤرخ فيلبي دي كوميني الذي كان في حاشية تشارلز، فكتب في مذكراته: " كان الأحرى بها أن تصلي من أجل نفسها، فقد كانت ما تزال سيدة شابة وجميلة."  في هذه الأيام الأخيرة بدا جيان غلياتسو يرزح تحت نير لودوفيكو- " يشتاق في فراش موته للعم البعيد، في موكب من الأبّهة بجانب الملك الفرنسي،" ويسأل أحد رجال  لودوفيكو " عما إذا كان معالي الأسمر قد تمنى له العافية، أو بدا على ملامحه الأسى لأنّه مريض".         
21 أكتوبر 1494- جيان غلياتسو، في الخامسة والعشرين من العمر، توفي في سيرتوزا دي بافيا. وانتشرت الأقاويل بأنّ لودوفيكو هو المسؤول عن قتله بالسم. 
22 اكتوبر 1494- نُصب لودوفيكو دوقاً في قلعة سفورزا.
1 نوفمبر 1494- وصل إركول دا إيست، دوق فيرارا، والد زوجة لودوفيكو، إلى ميلانو. كان حذراً، مثل الكثيرين، من تقارب لودوفيكو والفرنسيين. كما كان حريصاً على تعزيز دفاعاته ضد الغارات الفرنسية المحتملة (أو ضد عدوان مدينة البندقية، التي كانت تتحرك استجابة للوجود الفرنسي). وكان الدوق من الدائنين النافذين- ولودوفيكو مديون له بما يقارب 3000 من الدوكات. فقدم له لودوفيكو هدية، مرغماً، عبارة عن كمية كبيرة من البرونز تصلح لصنع مدفع حربي.
17 نوفمبر- كتب أحد دبلوماسيي ميلانو:
أمر دوق فيراري المعلم زانين دي البسيرجيتو ليصنع له ثلاثة مدافع صغيرة: واحد على الطراز الفرنسي، واثنان على طراز آخر. وكان قد تلقى من الدوق [أي لودوفيكو] 100 ميرا من المعدن هدية، والتي سبق واشتراها من أجل صنع تمثال الحصان تخليداً لذكرى الدوق فرانسسكو. ونُقل المعدن إلى بافيا، ومنها عبر نهر البو إلى فيرارا. وقد رافق المعلم زانين المذكور الدوق في رحلة عودته إلى فيرارا لصنع المعدات العسكرية. 
عليه تم التصريح في تقرير ديبلوماسي غير رسمي عن المطالبة بالبرونز الذي تم تخصيصه لصبّ الحصان- وهي ضربة هائلة لليوناردو ومرسمه، والسخرية التي عجز بالكاد عن ملاحظتها: صنع الحصان الفدائي الكبير تحول إلى سلاح بالفعل. كم تصبح إبداعات الخيال هشة وهامشية عندما تُواجه بضروريات الحرب. 
في ذلك الوقت تقريباً وصلت أنباء أحداث فلورنسا إلى ميلانو: عسكر الفرنسيون خارج المدينة، وقّع بييرو دي ميديتشي- ابن لورينزو وخليفته- معاهدة مخزية تضع بيزا وبعض الأراضي الأخرى تحت تصرفهم، فثار المواطنون غضباً. وفي 9 نوفمبر انطلق بيرو وشقيقيه من بوابة سان جالو، على الأقدام، طلباً للجوء في بولونيا. لقد سقط آل ميديشي. وتدفقت حشود الغوغاء الساخطة إلى قصر ميديتشي، يعيثون في رحابه فساداً ونهباً- إرهاصاً بالدمار القادم، وشغل غيرولامو سافونارولا صاحب الكاريزما الدينية الفراغ السياسي، وهو الأخ الدومينيكي المتحمس وهو الذي كان الرأس المدبر للحركة الإصلاحية في فلورنسا، وصاحب الخطب السيارة حول التطهير الأخلاقي التي انبعثت منها "نيران البدع" إلى الواقع، والتي قضت على الكثير من اللوحات والكتب والمخطوطات.
إذن فالسنة التي بدأت بشكل جميل بالنسبة لليوناردو، بقياس الدرج المائي في فيجيفانو، انتهت وسط أصداء الحرب تتردد من مسقط رأسه إلى حيث يقيم، وتحول مشروع سفورزا التعريفي العظيم إلى أطلال بالية. وهاهو ينفث غضبه في مرسمه بالمحكمة القديمة، كاتباً مسوَّدة خطاب للودوفيكو، ولكن قطعت الصفحة التي كتب عليها إلى نصفين، رأسياً، وعلى النصف المتبقي هذه التمتمات للجمل المقتطعة:
وإن كُلفت بأي شيء آخر من قِبَل...
عن المكافأة على خدمتي، لأني لست في موقع يخوّل لي...
ليس فني ما أريد تغييره...
سيدي، أعرف أن ذهن معاليكم مشغول جداً
لتذكير سيادتكم بضرورياتي الصغيرة، والفنون التي أخمد صوتها..
وأنِّ صمتي قد يجعل سيادتكم يشعر بعدم الجدارة..
حياتي في خدمتكم، حاملاً روحي دائماً في استعداد للطاعة..
عن الحصان لا أقول شيئاً لأنني أعلم أوقات...

وهكذا، حتى آخر السطور الحزينة:
تذكر أمر طلاء الغُرف...
لقد لفت انتباه سيادتكم، راجياً فقط أن تقوموا... 
لكن كفى. نظرياً ربما قُصت المخطوطة في وقت ما قبل أن يجمع بامبيو ليوني مخطوطة أتلانتكس في 1580، ولكن دعنا نمنح ليوناردو لحظة الحزن هذه، ومشاعر الرضا العابرة عند تمزيق الورقة إلى نصفين، وتعقبها وهي تنطلق صوب سقف المحكمة القديمة، في يوم لا يجرؤ فيه أحد على إزعاجه. 



------------------------------------------------
 ليوناردو دافنشي: رحلات العقل
تأليف: تشارلز نيكول
ترجمة: أميمة حسن قاسم
محاولة استعادة شيء من ليوناردو الإنسان هي مهمة هذا الكتاب- ذلك هو، ليوناردو الإنسان الحقيقي، الذي عاش في وقت حقيقي، وأكل أطباقاً حقيقية من الحساء، مقابل ليوناردو الرجل الخارق، متعدد التخصصات.
بتكليف ورعاية من الشاعر الإماراتي محمد أحمد السويدي، وبدافع من حب المعرفة والسعي لنشرها  قامت القرية الإلكترونية بتوفير هذه النسخة من كتاب ليوناردو دافنشي: رحلات العقل | تأليف: تشارلز نيكول | ترجمة: أميمة حسن قاسم
وسوف نقوم بنشرها على حلقات تباعاً هنا في جوجل بلس نأمل أن تحوز إعجابكم وأن تكون مساهمة في #نشر_المعرفة
صفحتنا الرسمية في فيس بوك :
منصتنا في جوجل بلس لمتابعة باقي مشروعاتنا 
(جميع الحقوق محفوظة)

No comments:

Post a Comment