غابات بلومنجتن المتوحشة
بدأت جرعة الأحلام تكبر وتتّسع عندما تخرجنا في عام 1977 وعُقد الرأي على أن نكمل تحصيلنا الدراسيّ في الولايات المتحدة الأمريكية. كانت أمريكا بالنسبة لنا في تلك الأيام عبارة عن لافتة عملاقة لرجل الكاوبوي (جون واين John Wayne) وعصابات الهنود الحمر بوجوههم الملوّنة وصرخاتهم القصيرة الحادة. هذه أمريكا كما كنا نعرفها، بالإضافة إلى شغفنا بما كانت تجود به صناعة السينما فيها. وقبيل السفر كان لزاما علينا أن نتحوّل إلى آذانٍ عملاقة لنتمكن من الإصغاء إلى التحذيرات التي تنطلق من هنا وهناك، وكلّما اقترب موعد الرحلة كلما ازداد تحذيرهم وتنوع ترهيبهم من أشياء كثيرة يحفل بها المجتمع الأمريكي. ولكن أكثر ما كنا نُحذّر منه هو تعاطي المخدرات والكحول والنوادي الليلية وبنات الليل. كانت وجهتنا الدراسية هي مدينة بلومنجتون في ولاية أنديانا، وكان برفقتي صديقي محمد داغر، ومن انديانا اتجهنا إلى (بلومنجتن)، حيث تحصّلنا على سكن طلّابي كان يضم قرابة 300 حسناء تم تقطيرهنّ قطرة قطرة في هذا السكن، وطالبين فحسب هما أنا ورفيقي محمد. كان الأمر يبدو لأول وهلة وكأنه من سخريات الأقدار بعد أن جرى تحذيرنا من الحسناوات وعظيم كيدهنّ وإذا بنا الشابين الوحيدين في غابة لا تُنبت سوى النساء، وكأن كل شيء من حولنا يقول بصوتٍ واحد هيت لك. ولكن شابين من أبو ظبي وجدا نفسيهما على حين غرّة في غابة وحشية لم يتمكنا في القاعة الواسعة المخصصة لتناول الطعام من رفع أعينهم عن المائدة وهما يتناولان فطورهما. لقد كنّا أشبه بالصمّ والبكم وأهدافا لا يمكن لمئات العيون المصوّبة والتي تشبه صمعات (بنادق) أجدادنا أن تخطئنا. وربما كنا نتمنى في قرارة أنفسنا أن لا تطيش نظراتهن بعيدا عنّا. وذات يوم كنت أسير مع محمد في أحد شوارع بلومنجتن، وبغتة هتف بي مارد أسود: هل تريد أن تحلّق عاليا؟ وهذا اصطلاح لا يقوله إلا من يريد أن يعاطيك حشيشاً أو هيرويناً. فقلت له: بل أحبّ السير على الارض، فأنا أعرف طريقي جيداً في هذه المدينة. وفي أحد الصباحات فتحت عينيّ على قطع كالقطن من فرط بياضها لمحتها تهوي من النافذة. خفق قلبي فزعا، وهرعت إلى النافذة، ورأيت أن الأرض اكتست باللون الأبيض. فعلمت للمرة الأولى أن الثلج يهبط من السماء ولا يخرج من الأرض. كانت تلك بالنسبة لشاب ظبياني شبيهة بمعجزة لا يمكن للثلج أن يكون آخر تجليّاتها، فما دام الثلج يهبط من السماء فلا بأس أن يسقط (جون وأين) أيضا وعصابات الهنود الحمر ببنادقهم وسهامهم وصيحات حربهم، كل شيء أصبح ممكنا الآن ولا فرار من المصير الأبيض، ذهبت مسرعا إلى رفيقي وأيقظته ليشهد المعجزة بنفسه، كان مشهدا سحريّا لا يفارق ذاكرتي ما حييت. ثم خرجنا بعد أن تدرّعنا بألبسة صوفية ثقيلة لنستمتع بجولة نحصي فيها بياض الثلج. وبعد أيام أذاعت القنوات المحلية نبأ وصول (بلزد). ولم نكن قد سمعنا بهذه اللفظة من قبل، وكانت تعني أن إعصارا ثلجيّا تشكّل وهو في طريقه إلى المدينة، وطُلب من السكان أن يتزوّدوا من المتاجر بما يكفيهم لأربعة أيام أو خمسة. فلقد كانت الهجمة المرتقبة من الشراسة ما سيجعلها تستمر لأيام. فتوقفنا في صفوف طويلة لنتزود بأنواع من الأطعمة ومكثنا نترقّب الإعصار ولا نعرف ما تخبّؤه الأيام لنا. وفي اليوم الموعود صحونا وقد نفخ الثلج في صور المدينة فابيضّت عن آخرها، ولم يعد ممكنا التمييز بين الأبنية والشوارع، فلقد أصبحت أمام شراسة الثلج سواسية كأسنان المشط.
بدأتُ مع محمد محاولة إعداد وجبةٍ كانت أول عهدنا بالطبخ، فأعددنا رزّا يُقال له (الأنكل بينز) وهو على النقيض من البسمتي الهشّ واللذيذ فلقد كان أقرب إلى المكسّرات منه إلى الأرزّ. ومكثنا نكابد أياما عصيبة شاهدنا فيها بيوتا ومحال وأماكن شتّى تراكم الثلج عليها وعلى مداخلها، فشّق على أصحابها فتح أبوابها، فكانوا يستعملون المعاول والمجارف لإزاحة الثلج. أما السيارات فلقد جُنزرت دواليبها بسلاسل من الحديد لتتمكن من عضّ الأرض بأنيابها الفولاذية حتى تنزلق على الثلج. في تلك الأيام التي أستعيدها بمشاعر متناقضة لا زلت أتذكر عندما هاتفني الصديق علي السيد، وكنا نكابد جوعا لا نحبه ولا يحبّنا، وقال إنّه سيُعِدُّ وجبة برياني وسيحملها إلينا في قِدر مضغوط سيرا. وهكذا سار علي السيد نحو نصف ساعة على أرضٍ شبيهة بثقب أبيض يبتلع كل ما ينزلق عليه، وصل علي بوجبة البرياني التي لم يبرح عبير توابلها ذاكرتي بعد. ولكن وكما يُقال (ما بعد الطيّب مقام)، فبعد هذه الحوادث التي تواترت علينا لم نعد قادرين على المكوث مدّة أطول، وكان علينا مغادرة المدينة وغابة النساء وأنياب الثلج الذي لا زال يهبط من الأعلى ولا يخرج من الأرض. فطلبنا من إدارة البعثة التي كان يرأسها السيّد أحمد الرمحي أن يحملنا إلى مكان آخر، فلم تعد لنا طاقة على مكابدة هذا المناخ الذي يبدو وكأن صورا عملاقا أعلن فيه قيامة الثلج والبرد. فاقترح علينا أن نكمل تحصيلنا في كالفورنيا، وبالتحديد في لوس أنجلوس. لم نتردد ولا لبرهة في القبول وحزم أمتعتنا بعد أن انقشعت العاصفة الثلجية، وقصدنا المطار المحليّ، وأقلّتنا طائرة صغيرة. وكاد حلمي أن يتهشّم إلى شظايا صغيرة بعد أن ركبنا الطائرة، فما أن حانت مني التفاتة إلى الخلف حتى رأيت أمتعتنا ملقاة على الكرسي الخلفي. ثم باغتني ربّان الطائرة بطلبه أن أقفل الباب خلفي، وكان طلبه إيذانا بأن شيئا غير محمود سيحدث. فما أن أقلعت الطائرة حتى واجهتنا زوبعة جعلتني أشعر وكأن الريح تخفق في قلبي قبل أن تخفق على جسم الطائرة فتقلّبها في الهواء ذات اليمين وذات الشمال مثل درهم يقلّبه اللاعبون بأكفّهم، فذكّرني ذلك بما كان يعانيه المسافرون قديما على ظهور المراكب والمحامل عندما تباغتهم عاصفة هوجاء فيقول القائل في وصف ما يصير إليه أمرهم: (استٍ في الماء ورأس في الهواء). لقد زلزلت الطائرة زلزالها، ولم نكد نصدّق أنفسنا وهي تهبط في أرض المطار، فلقد مرّت علينا لحظات شعرنا أنها تقودنا إلى ثقبٍ سماويّ في أعلى عليين، إلى ذات المكان الذي يهبط منه الثلج وجون واين. ثم انتقلنا منها إلى طائرة أكثر وقارا وثباتا، لتقلّنا إلى لوس أنجلوس، أرض الحوريات وصناعة السحر.
#محمد_أحمد_السويدي_مقالات
No comments:
Post a Comment