ليوناردو دافنشي: رحلات العقل
6-"وجاءت كاترينا..."
في صيف عام 1493، وصلت امرأة تدعى كاترينا إلى المحكمة القديمة. وظلت هنالك حتى مطلع السنة التالية، عندما ذُكرت في سجلّات المقيمين في المنزل. عندها، وعلى الأرجح في عام 1495، وردت نفقات جنازتها، كما سُجلت بيد ليوناردو أيضاً. لا نعرف من كانت، ولكن من الصعب تجاهل احتمال أنّها والدته، والتي سوف تكون في أواسط العقد السادس من عمرها عام 1493، وأرملة منذ عام 1490.
وقد دوّن ليوناردو وصولها كالآتي:
في اليوم السادس عشر من يوليو
أتت كاترينا في اليوم السادس عشر
من يوليو 1493
يلاحظ المرء فوراً التكرار الذي يصادف وجوده في المذكرة الخاصة بوفاة والده لاحقاً. وقد فُسِّر في الحالة الأخيرة من قبل فرويد على أنّه آلية نفسية يسميها "التحفظ"، حيث تتصاعد العواطف العميقة أو تتحول إلى فعل مكرر صاخب، و"تفاصيل متشابهة". ويكتب: "التحليل النفسي" في ما يتعلق بمذكرة ليوناردو عن وفاة أبيه، " لقد تعلم منذ فترة طويلة أنَّ حالات النسيان أو التكرار مهمة، وأنّ هذا "الشرود" هو الذي يسمح لتلك النبضات بالإفصاح عن نفسها وإلا لظلت متوارية". إذن فهذا "التحفظ" ذو علاقة بأشهر "الزلات الفرويدية" التي تكشف فيها الأخطاء اللغوية عن نصوص مقموعة".
والشهادة حول جنازة كاترينا، ليست سوى قطعة لطيفة من دفتر الحسابات. فهنا مرة أخرى قد يدرك المرء ذلك التركيز المشتت على "تفاصيل متشابهة":
نفقات جنازة كاترينا
3 أرطال من الشمع 27 سولدي
النعش 8 س
غطاء فوق النعش 12س
حمل ووضع الصليب 4س
حمل التابوت 8س
أربعة كهنة وأربعة كتبة 20س
جرس، وكتاب، وإسفنج 2س
الحفّارون 16س
للشيخ [أنتيانو] 8س
للترخيص من السلطات 1س
[حاصل الجمع] 106
الطبيب 5س
سكر وشموع 12س
[الإجمالي] 123س
لا تتسم هذه الجنازة بالمغالاة. فنفقاتها لا تزيد كثيراً عن 6 ليرات- وهي تعادل ربع المبلغ الذي كان سينفقه على حلّة فضية فاخرة لسالاي في عام 1497. كمية الشمع لصنع الشمعات هي 3 أرطال، وقد خصص لجنازته هو 40 رطلاً (عشرة أرطال منها لكل شمعة "شمعات سميكة"، توضع كل منها في واحدة من أربع كنائس).
لا يمكننا الجزم بأنّ "كاترينا" تلك كانت والدته، ولكن من هي إذن؟ في غير هذا الموضع من الكرّاسات والمدونات كان من يأتي إلى منزله للإقامة أو السكنى معه من الرجال فقط: المساعدون، المتدربون، الخدم. لم يكن من الممكن قانونياً لكاترينا أن تكون متدربة، ولا يحتمل أنّها كانت مساعدة تملك مهارة من نوعٍ ما. التفسير المعقول الوحيد هو أنّها كانت خادمة: طباخة ومدبرة منزل، فلنقلْ مثل ماثورين، أو ماتورينا التي خدمته لاحقاً في فرنسا. هذه هي البدائل: أنَّ كاترينا التي ذُكرت في الكرّاسات الميلانية كانت امرأة مجهولة خدمته كمدبرة للمنزل لبضع سنوات، أو أنّها كانت أمّه الأرملة، وقد اجتمع شملهما في آخر سني حياتها، وسكنت معه في أوج نجاحه، وقد كان يقوم على راحتها في سرير الوفاة عام 1495، في عمر يناهز الثامنة والستين. فكلاهما جائز في الحقيقة: وليس عليك سوى اتباع حدسك. لقد اعتقد الكثيرون أنّ الجنازة المتواضعة برهان على أنّها ليست والدته. ولكن كانت كاترينا في الأساس، شكلاً ومضموناً، فلاحة توسكانية، وما يتوقعه المرء عن شخصيتها لا يقودنا إلى التفكير بأنّها كانت سترغب في أن تدّعي غير ذلك. إنّها تسير حذاء السنوات العجاف التي قضتها في العمل في المزرعة الصغيرة بكامبو زيبي. فهذه المراسم البسيطة المنفذة بعناية، سوف تلائمها.
وبالبحث في كتيب فورستر الثالث، والذي سجّل فيه وصول كاترينا، يجد المرء ليوناردو في مزاج فلسفي. ومن بين الحكم والملح المقتضبة التي دونّها في صفحاته كان مايلي:
الحكمة هي بنت التجربة
هذه حماقة كبرى من الإنسان- أنْ يؤدي عمله الآن حتى لا يكون لديه عمل لاحقاً، فستطير حياته بعيداً قبل أن يستمتع بالأشياء الجميلة التي كدّ كثيراً ليحصل عليها...
في بعض الحيوانات، يبدو أنَّ الطبيعة تغدو كزوجة أب قاسية، بدلاً عن أن تكون أمّاً، وفي الأخرى ليست زوجة أبٍ بل أمّاً عطوف.
الضرورة هي عشيقة الطبيعة وحاكمتها.
المرآة تتفاخر بنفسها عندما تجد في ما تعكسه ملكةً، ولكنها عندما تمضي تعود المرآة إلى أساسها مرة أخرى.
تشكو النباتات من العصا الجافة القديمة الموضوعة بجانبها، ومن العليق الشائك الذي يحيط بها. ولكنّ الأولى تجعلها تنمو مستقيمة، والآخر يحميها من رفقاء السوء.
وخلال عامي 1493-1494 كانت الكتيبات الثلاثة التي استخدمها قد جمعت معاً في مجلد هو مخطوطة باريس التي تحتوي هي الأخرى على أقوال مأثورة مماثلة:
لا تكذب بشأن الماضي..
كل أنواع الأذى تخلّف وراءها ألماً في الذاكرة، ما عدا أعظمها على الإطلاق، وهو الموت الذي يقتل الذاكرة والحياة معاً.
ومثل هذه التأملات تتبعثر خلال مخطوطاته، ولكن هذا الجزء بالتحديد يتسم بالعمق. إنّها تنتمي لذات الوقت الذي ألقت فيه كاترينا بظلها الغامض على المحكمة القديمة حيث كان يعيش. فمخيلتها (الأم، زوجة الأم، حاكمة، ملكة) وسماتها الذاكروية، الفناء، والموت تضفي قوة لفكرة أنّ كاترينا هذه كانت والدته حقاً. إنّها تعكس بفجاجة منقطعة النظير لمَّ الشمل الخريفي هذا والشعور الذي يبعثه.
------------------------------------------------
ليوناردو دافنشي: رحلات العقل
تأليف: تشارلز نيكول
ترجمة: أميمة حسن قاسم
محاولة استعادة شيء من ليوناردو الإنسان هي مهمة هذا الكتاب- ذلك هو، ليوناردو الإنسان الحقيقي، الذي عاش في وقت حقيقي، وأكل أطباقاً حقيقية من الحساء، مقابل ليوناردو الرجل الخارق، متعدد التخصصات.
بتكليف ورعاية من الشاعر الإماراتي محمد أحمد السويدي، وبدافع من حب المعرفة والسعي لنشرها قامت القرية الإلكترونية بتوفير هذه النسخة من كتاب ليوناردو دافنشي: رحلات العقل | تأليف: تشارلز نيكول | ترجمة: أميمة حسن قاسم
وسوف نقوم بنشرها على حلقات تباعاً هنا في جوجل بلس نأمل أن تحوز إعجابكم وأن تكون مساهمة في #نشر_المعرفة
صفحتنا الرسمية في فيس بوك :
منصتنا في جوجل بلس لمتابعة باقي مشروعاتنا
(جميع الحقوق محفوظة)
No comments:
Post a Comment