Monday, March 18, 2019

ليوناردو دافنشي: رحلات العقل - 11 - في المحكمة القديمة





ليوناردو دافنشي: رحلات العقل

11-في المحكمة القديمة
تزامن امتياز السكن الرسمي مع التكليف بتنفيذ تمثال حصان سفورزا، وكان ذلك على الأرجح في الوقت الذي انتقل فيه ليوناردو للسكنى في المحكمة القديمة. وفي هذا المنزل الجديد الواسع إشارة لمركزه، بيد أنّ الحصان العملاق في الحقيقة هو ما كان بحاجة إلى المساحة. 
كانت المحكمة القديمة في وقت سابق قصراً ومركزاً لنفوذ آل فيسكونتي، أولى الأسر العظيمة التي حكمت ميلانو، والذي استبدل في عهد سفورزا بالقلعة السفورزية، وأصبحت معروفة بالمحكمة القديمة. وهي تقف بجانب الكاتدرائية، على الجانب الجنوبي من الساحة، كبيرة ولكنها طلل متهالك يرمز لأزمان غابرة. لقد كانت محصنّة بإحكام بأبراج وخنادق، وبداخل الأسوار امتدت المنازل حول ساحتين كبيرتين محفوفتين بالأروقة ذات العُمُد.   كان أحد أجزاء القصر يستخدم لسكنى الدوق الشاب المكتئب جيان غالياتسو، بيد أنّ لودوفيكو كثيراً ما كان يفضّل أن يبقيه بأمان في قلعة سيرتوزا في بافيا. وليس هنالك أثر للمحكمة القديمة اليوم، فقد هُدمت في القرن الثامن عشر مفسحة المجال للقصر الملكي الكبير. 
وفي واحدة من تلك الأوراق التي تشتمل على الأحجيات المصوّرة أو الألغاز البصرية في ويندسر، نجد خارطة أرضية لقصر هو على الأرجح ليس سوى المحكمة القديمة ذاتها. وتسبق الخارطة الأحجيات، وذلك واضح لأنّها رسمت بعناية في المساحات الخالية، كما لو أنّها أضيفت إلى غرف القصر كلوحات جصيّة رمزية مصغرة. وتعطينا ملاحظة لاحقة بعض الأبعاد: " قاعة المحكمة تبلغ 128 خطوة طولاً، و27 ذراعاً عرضاً."  والقدم (passo) يقدر بشكل عام ب30 بوصة، والذراع ب24 بوصة، وعليه فنحن نتحدث عن مساحة واسعة تزيد على 300 قدم طولاً و50 قدماً عرضاً. وربما كانت قاعة الرقص الباهتة القديمة هذه هي ورشة ليوناردو التي كان يصنع فيها حصان سفورزا. 
إنّه بكل تأكيد الحصان الذي ارتبط في أذهان الناس بسكنى ليوناردو في المحكمة. وينشد بالداساري تاكوني شاعر البلاط الميلاني بكل حماس قائلاً: 
Vedic he in Corte fa far di metallo
Per la memoria di padre un gran colosso
[انظروا كيف قد أمر بصنع جواد عظيم من الحديد تذكاراً لوالد عظيم وجدٍّ مجيد] 
ويتحدث ماتيو بانديللو في شهادة عيان شهيرة، عن رؤيته ليوناردو أثناء عمله على لوحة العشاء الأخير" يغادر المحكمة القديمة، حيث كان يعمل على حصانه الفخاريّ الرائع". 
لكنْ ما استلزم تلك المساحة الكبيرة لم يكن الحصان فحسب- فقد كانت هنالك أيضاً المرفرفة أو الآلة الطائرة، فقد احتوت إحدى الصفحات المثيرة للحيرة من مخطوطة اتلانتكس على رسومات كروكية لآلة طائرة تمتد على اتساع كبير، ودَرَج يؤدي إليها، وملاحظة تقول: "اغلق الغرفة الكبيرة من أعلى بالألواح، وزد من حجم وارتفاع النموذج. ويمكن وضعه فوق على السقف، والذي هو من كل النواحي المكان الأنسب في إيطاليا. وإن كنت تقف على السقف على جانب البرج، فإنّ من يكون على المصباح لن يرَكَ."  من الواضح أنّ هذا هو سقف المحكمة القديمة- قريباً بما يكفي لمصباح الكاتدرائية بحيث يراه الرجال العاملون هناك في الأعلى. فالبرج الذي يستر في هذه الحالة ما يقوم به عن أعين هؤلاء الأشخاص، هو برج الكاتدرائية ذاتها، أو برج جرس كنيسة سان غوتاردو الملاصقة، والتي كانت معبداً لآل فيسكونتي عندما كانت المحكمة قصراً لهم. وجود العمّال على المصباح ربما كان على الأرجح بعد 1490، عندما بدأت عملية بنائه. 
ربما أخضع ليوناردو الآلة الطائرة للاختبار في ميلانو بالفعل. يقول بيقين لا يخالجه شك، عالم الرياضيات والفيلسوف غيرولامو كاردانو، الذي عدّ ليوناردو "رجلاً فوق العادة" أنّ الأخير "قد حاول الطيران، وأخفق". وُلد كاردانو في بافيا القريبة في 1501، وكان في الثانية عشرة من عمره عندما غادر ليوناردو ميلانو للمرة الأخيرة. وربما كان يسجل بعض المعلومات الشخصية.  
وقد تكون المحكمة القديمة أيضاً هي المشار إليها في ملاحظة حول الأحفوريات في مخطوطة ليسيستر: " في جبال بارما وبياسنزا نجد أنواعاً متعددة من القواقع والمرجان. وعندما كنت أعمل على الحصان الكبير في ميلانو، أتاني المزارعون في مصنعي بملء حقيبة منها.  وقد كانت الكلمة التي استخدمها ليوناردو هي fabbrica، والتي تضفي حساً بالحجم والنشاط: مصنعاً أو تنظيماً معقداً من العمال المتخصصين مثل fabbriceria أو قسم الأشغال التابع للكاتدرائية المجاورة. 
إذن كان هذا هو بيت ليوناردو في ميلانو- كبير الحجم لكنه قصر عتيق جداً، بساحات ذات عُمُد، وأروقة جيدة التهوية، تقع على حافة ميدان الكاتدرائية. هنا حيث ورشته الشبيهة بمخزن الطائرات والتي يعمل فيها على الحصان والآلة الطائرة، وتخرج من مرسمه اللوحات الشخصية الجميلة والسيدات المليحات، ودراسته ملأى بالملاحظات والمخطوطات، والغرف الصغيرة أو مراسم مساعديه، ومعمله للتجارب الزوروآسترية، وأرففه وصناديقه، وعجائبه، وغرفة المؤن، والاسطبلات، وخزانته الحافلة بأواني القصدير- 11 طبقاً صغيراً، و11طبقاً كبيراً، 7 من الصحون، و3 من الصواني، و5شمعدانات، مدرجة بعناية في دفتر يعود لأوائل تسعينيات القرن الخامس عشر.  كانت هنالك حيلة في ما يتعلق بنيله هذا المسكن- إنَّ قصراً إيطالياً مهجوراً ليس بالمكان المريح- ولكن يعرف المرء أيضاً حب ليوناردو للنظافة والترتيب، والحساسية حيال ما يتعلق بمسكنه. ففي صفحة مؤرخة في 23 أبريل 1490، ولذلك ربما كُتبت في المحكمة، يقول، " إن كنت تريد معرفة كيف تستقر روح إنسان في جسده، فانظر كيف يعامل جسده مسكنه المعتاد، فإن كان الأخير غير مرتب، فإنَّ الروح ستُبقي عليه في حالة من الفوضى والتشويش". وفي نص آخر كُتب حواليّ هذا الوقت يتصور الرسام وهو يعمل في "منزله المليء بالصور الساحرة والمرّتب في عناية، ودائماً ما تكون هنالك موسيقى، أو قراءات لمختلف الأعمال الراقية."  ويسمع المرء للحظة إحدى نغمات القيثارة اليدوية تنساب إلى الفناء. هذه هي الصورة المثالية، بالطبع. إنّها تلغي النجار الذي يريد المال، والسمسار الذي لا تبعث زياراته على الراحة، والمفقود من الأقلام ذات أسنان الفضة، والكلب الذي يهرش براغيثه في الزاوية- الحياة اليومية لهذا المرسم المزدحم، المزدهر الذي كان فيه إبداعه ومنه معاشه.  





------------------------------------------------
 ليوناردو دافنشي: رحلات العقل
تأليف: تشارلز نيكول
ترجمة: أميمة حسن قاسم
محاولة استعادة شيء من ليوناردو الإنسان هي مهمة هذا الكتاب- ذلك هو، ليوناردو الإنسان الحقيقي، الذي عاش في وقت حقيقي، وأكل أطباقاً حقيقية من الحساء، مقابل ليوناردو الرجل الخارق، متعدد التخصصات.
بتكليف ورعاية من الشاعر الإماراتي محمد أحمد السويدي، وبدافع من حب المعرفة والسعي لنشرها  قامت القرية الإلكترونية بتوفير هذه النسخة من كتاب ليوناردو دافنشي: رحلات العقل | تأليف: تشارلز نيكول | ترجمة: أميمة حسن قاسم
وسوف نقوم بنشرها على حلقات تباعاً هنا في جوجل بلس نأمل أن تحوز إعجابكم وأن تكون مساهمة في #نشر_المعرفة
صفحتنا الرسمية في فيس بوك :
منصتنا في جوجل بلس لمتابعة باقي مشروعاتنا 
(جميع الحقوق محفوظة)

No comments:

Post a Comment