ليوناردو دافنشي: رحلات العقل
11-رحلة ورحيل
وفي خضم هذه الأحداث الفنية المهمة- كان إنشاء لوحة الإنغياري على الكارتون، ونقل العملاق المرمري مخترقاً شوارع فلورنسا، وبزوغ وجه الموناليزا- تستمر الحياة بإيقاعاتها وضرورواتها التي لا يستثنى منها أحد حتى عباقرة عصر النهضة، وبفضل الصدفة المحضة نجت قائمة لنفقات منزلية تخص ليوناردو دافنشي في فترة تمتد لأربعة أيام من شهر مايو عام 1504، ومكتوبة بخط يد توماسو الرائع " توماسو خادمي" "Tommaso mio famiglio"، والمعروف أيضاً بلقب زوراسترو.
ويقول السطر: " في صباح عيد زانوبيو، الخامس والعشرين من شهر مايو عام 1504، تلقيت من ليوناردو 15 دوكات ذهبية وبدأت إنفاقها."
في اليوم الأول، وكان سبتاً، صرف توماسو حوالي 200 سولدي (10 ليرات أو 2.5 دوكات)، ذهبت 62 منها إلى امرأة تدعى "السيدة مارغريتا"، والتي يرد ذكرها في مكان آخر آخر من المذكرات يتعلق بخيوله ('di cavali mona malgarita')، و20 سولدي مقابل "إصلاح الخاتم". وقد جرت تسوية أحد الحسابات لدى الحلاق، تم سداد الدين إلى المصرف، وشراء بعض المخمل، والباقي ذهب ثمناً لبعض الأطعمة: بيض، ونبيذ، وخبز، ولحم، وتوت، وعش الغراب، والسلطة، والفاكهة، وطائر الحجل والطحين.
كان يوم السبت هو يوم الإنفاق- ربما من أجل حفل ما، وقد كانت مشتريات توماسو للأيام الثلاثة التالية لا تتعدى الأساسيات: الخبز والنبيذ واللحم والشوربة والفاكهة. كان الصرف اليومي على الخبز ثابتاً (6سولدي)، وكذلك على النبيذ (9 سولدي في العادة). وعلى أساس هذه العينة الصغيرة كان ليوناردو ينفق حوالي 12 ليرة في الأسبوع على الطعام للمقيمين معه. وحقيقة أنّ اللحم يُشترى يومياً لا تبين أنَّ ليوناردو كان في هذه المرحلة آكلاً للحوم، ربما لأنّه لم يكن يجبر الآخرين المقيمين معه على الامتناع. ووفقاً لسكيبيوني اميراتو فإنّ توماسو هو الآخر كان نباتياً: "لم يكن ليقتل ذبابة لأي سبب كان. لقد كان يفضل أن يرتدي قماش الكتان على أن يضع على جسمه شيئاً ميتاً."
كانت هذه الشهادات تغطي ثلاثة جوانب من الورقة، وفي الجزء الرابع ملاحظات بخط ليوناردو- "لإنشاء القناة الكبرى قم أولاً بصنع قناة صغيرة لنقل المياه عبرها"، و" هذه هي الطريقة الملائمة لنقل الركام"- ورسومات تمهيدية بالطبشور الأحمر تمهيداً لواحدة من خرائطه التي رسمها لنهر آرنو. عليه فإنَّ الأعمال المنزلية قد انحشرت في وسط مشاريعه لتحويل المياه عام 1503-1504).
وهنالك قائمة منصرفات أخرى بخط ليوناردو، تعود إلى الفترة ذاتها تقريباً- ثمن البهارات لأجل "الخبز بالفلفل"، ثعبان البحر والمشمش، وكذلك تم شراء دزينتين من الأربطة، وسيفٍ ومدية، وصليب صغير من رجل يدعى باولو. وهنالك زيارة أخرى للحلاق، وغرضٌ عجيبٌ جذب بعض الانتباه: " لكشف البخت:6 سولدي". أن ينفق رجل من البديهي جداً أنّه لا يؤمن بالخرافات مبلغاً كبيراً كهذا على "كشف البخت" لشيء مثير للدهشة. ماهو الشيء الذي يريد أن يعرفه عن مستقبله؟
والمزيد من الحسابات التي وجدت في ورقة من مخطوطة اتلانتكس:
في صبيحة عيد القديس بطرس، 29 يونيو، 1504، أخذت 10 دوكات، أعطيت منها واحداً لخادمي توماسو لينفقها...
في صباح يوم الاثنين [1 يوليو] فلورين واحد لسالاي لينفقه على المنزل...
في صباح الجمعة 19 يوليو بقي لديَّ 7 فلوريناً و22 في صندوق النقود...
الجمعة 9 أغسطس 1504 أخذت 10 دوكات من صندوق النقود...
وفي الصفحة ذاتها، ووسط عمليات السحب الصغيرة هذه، يوثق ليوناردو وفاة والده:
في يوم الأربعاء، الساعة السابعة توفى السير بيرو دا فينشي، في اليوم التاسع من يوليو 1504.
وهنالك ملاحظة أكثر إسهاباً في ورقة أخرى: " في اليوم التاسع من شهر يوليو عام 1504، الأربعاء، في الساعة السابعة، توفى السير بيرو دا فينشي، كاتب العدل في قصر بوديستا، ووالدي، في الساعة السابعة. كان في الثمانين من العمر، وقد ترك عشرة من الابناء وابنتين."
كانت هذه الملاحظة تتسم بقدر أكبر من الرسمية وأقرب للنعي، ولكن يلاحظ المرء مرة أخرى ذلك المزيج القلق من التكرار وعدم الافتقار إلى الدقة الموجود في ملاحظته عن كاترينا قبلها بعشرة أعوام: تتصاعد المشاعر في تفاصيل متقطعة. وهنا لا نجد التكرار فقط، بل الخطأ أيضاً، فالتاسع من شهر يوليو عام 1504 لم يكن يوم أربعاء بل ثلاثاء- لم يكن إدراكه لليوم سليماً.
ولم يكن السير بيرو في الثمانين من عمره عند وفاته، بل كان في الثامنة والسبعين، كما توضح شهادة ميلاده التي أدرجها انطونيو دا فينشي في السجلّ العائلي، ولا يحتمل أنّه على خطأ.
هنالك عدد من الأسئلة التي تبحث عن إجابات حول علاقة ليوناردو بوالده- أسئلتنا لأننا نفتقر إلى الدليل، وأسئلته لأنّه دائما ما كانت هنالك فجوة جوهرية بين الوالد والأب والتي لم يتمكنا من رأبها. " لقد ترك عشرة أبناء وابنتين"، يكتب ليوناردو وهو يضمن نفسه في هذا الإحصاء، ولكنه سرعان ما سيعرف أنّه ترك وحده دون أن يكون له نصيب في وصية أبيه: الإقصاء الأخير.
وقد نجا جزءًا واحد من خطاب العزلة بينهما: جملة استهلالية من خطاب ليوناردو- بلا تأريخ- ولكن من الخط الذي كتب به يبدو أنّه ليس بعيداً عن ذلك الوقت: " والدي العزيز"، في آخر يوم من آخر شهر تلقيت فيه خطابك الذي بعثت به إليَّ، والذي أثار فيّ مشاعر السعادة والحزن معاً: السعادة لأنني عرفت منه أنك بخير، وشكرت ربي على ذلك، والحزن لسماعي عن معاناتك..." لم يكن رسمياً: في طابع إنشائي، بفقراته الموزونة بعناية، ومزاجه الذي يعبر عن السرور والحزن معاً. كانت التحية التي تتسم بالإجلال والبرود جميعاً مكتوبة من اليسار إلى اليمين وهي الطريقة "العادية". كان ليوناردو للحظة ذلك الابن الذي أراد أبوه- ولكن لم يكتمل الخطاب، وظل بين أوراقه. في ظهر الصفحة رسم جناحاً لآلة طائرة.
وفي ذيله خطاب آخر- مرة أخرى جزء من خطاب- والذي كتبه إلى أحد إخوته غير الأشقاء، دومينيكو دا فنشي على الأرجح، يهنئه فيه بميلاد صبي. ويبدأه بعبارة دافئة بالقدر المطلوب "أخي الحبيب، لقد سمعت أنّه قد أصبح لديك وريثٌ وتلقيت الخبر بسرور عظيم" ولكنه يمضي ليتساءل لم " إنك سعيد جداً لأنك قد أتيت بعدوٍ فتاك، والذي سيطلب الحرية من أعماقه، والتي سوف لن يجدها إلا بموتك."
لقد قصد منها المداعبة، وربما كان ليوناردو يكبر دومينيكو بثلاثين عاماً- بيد أنّها وإن كانت كذلك فهي دعابة كئيبة: أن يكون الابن كمادة ساخطة مسجونة في بيضة تحت رعاية "المح"، يجد "الحرية" في موت والده.
وتتواصل الشهادات والمذكرات طوال شهر أغسطس. يصل تلميذ جديد: " في صباح الأحد الثالث من شهر أغسطس 1504 أتى جاكوبو الألماني ليعيش معي في المنزل، واتفقنا على أن يدفع لي قطعة واحدة من فئة الكارلينو عن كل يوم." ووصلت أنباء في أغسطس أيضاً عن قرب بدء تنفيذ مقترح تحويل مجرى نهر آرنو أخيراً. ولا يبدو أنّ ليوناردو كان مشاركاً في هذا الأمر بشكل واضح، ولكنه بلا شك كان على اتصال بميكافيللي حول سير المشروع.
وقد صوت مجلس الشعب أخيراً على السير في المشروع في يوم 20 من شهر أغسطس عام 1504، وبدأ العمل في الحال، كما ذكر في يوميات لاندوتشي في 22 أغسطس. وكما رأينا فإنَّ العمل برمته كان كارثة كلفت مجلس الشعب 7000 دوكات و80 من الأنفس، وتم ترك المشروع كلية في اواسط اكتوبر.
أين كان ليوناردو في الوقت الذي كانت تدور فيه هذه الهزيمة في سهول بيزا- هزيمة كان يجب أن يتحمل نصيبه في المسؤولية عنها؟ ربما خارج المدينة. نحن نعلم من المذكرات المؤرخة أنه كان في بيومبينو بحلول منتصف أكتوبر عام 1504، وأنّه من المؤكد في طريقه من فلورنسا قد أمضى بعض الوقت في فنشي مع عمه فرانسسكو. كما ورد آنفاً فإنَّ مغادرته تتزامن مع قرار مجلس الشعب تكليف مايكل آنجلو بالرسم إلى جانبه في القصر القديم- وهو قرار أصبح ظاهراً للعيان بطلبه مساحة للرسم في كنيسة سانت اونوفريو في 22 سبتمبر.
وقبل رحيله من فلورنسا بوقت قصير في سبتمبر أو أكتوبر 1504 رسم ليوناردو آخر وأشمل فهرس لكتبه. كانت هنالك قائمتان مكتوبتان على صفحة مزدوجة على امتدادها في مخطوطة مدريد الثانية. أطولهما حملت العنوان "سجل للكتب سأغلق عليها صندوق الكتب الكبير" [Rchordo de libri ch'io lasscio serati nel cassone]. والأخرى الأقصر مكتوب في أعلاها العبارة "في صندوق في الدير"-[In cassa al munistero]- ويفترض أنّه دير القديسة ماريا الجديد. العدد الكلي للكتب هو 116. وهنالك قائمة أخرى تنقسم فيها خمسون كتاباً من أحجام وأنواع مختلفة:
25 كتاباً صغيراً
كتابين كبيرين
16 كتاباً كبيراً جداً
6 كتب في رقاق
1 كتاب مغلف بقماش الشامواه الأخضر
ويبدو أنَّ هذه القائمة الأخيرة تشير إلى المخطوطات المجمعة أكثر منها إلى الكتب المطبوعة(وتستخدم كلمة كتاب Libro للنوعين)- الستة كتب على الرقاق" لا بد أنّها مخطوطات، أي أنَّ الرقاق (جلد العجل أو الخراف المشدود) لم تكن تستخدم للطباعة. ويجوز أنّها قائمة لمخطوطات ليوناردو ومفكراته في 1504 فقط. وربما كانت قسماً متفرعاً من قائمة كتب فعلية، في إشارة إلى أنَّ نصف كتب ليوناردو التي تبلغ في عددها 116 كتاباً كانت من المخطوطات باليد. على سبيل المثال "vita civile di matteo palmieri' هي بالتأكيد مخطوطة: والنسخة الأولى المطبوعة من الحياة المدنية لماتيو بالمييري لم تُنشر حتى عام 1529. وأيضاً كتاب قواعد اللاتينية [libro di regole latino] لكاتبه فرانسسكو دا اوربينو، الذي علمه قواعد اللاتينية في المرسم الفلورنسي، لا يعرف له نسخة مطبوعة في ذلك التأريخ. بعض من الأغراض المدرجة في القائمة لا يبدو أنّها من أعمال ليوناردو الخاصة- ككتاب الخيول المغيرة الكارتوني [Libro di chavalli scizati per cartone]] والذي يبدو بشكل واضح أنّه عبارة عن رسومات تمهيدية ودراسات للأحصنة التي تظهر على جدارية الأنغياري الكارتونية، و"libro di mia vocaboli" هو "قاموسي اللغوي" وهو على الأرجح ليس سوى مخطوطة تريفلزيو. " وربما كان كتاب التشريح [Libro di notomia] هو الآخر من مؤلفاته (بالمقارنة مع مذكرته التي تعود لعام 1508: "قم بتجليد كتبك حول التشريح").
لقد كانت قوائم كتب مدريد كنزاً من المؤشرات على ما يهم ليوناردو وما يؤثر عليه. وفي ما يلي بعض الإدراجات لم تكن موجودة في ما سبق من قوائم الكتب الأتلانتيكية المؤرخة في 1492:
• باتيستا البرتي حول المعمار- Alberti's De re Aedificatoria ، طبعته الأولى كانت في فلورنسا عام 1485.
• أساطير أيسوب باللغة الفرنسية- Aesop's Fables in French، وربما كانت هي Les Fables de Esope المطبوعة في ليون عام 1484، وهي قد تشير ضمناً إلى تعلم ليوناردو اللغة الفرنسية، وربما كان هذا بالإضافة إلى معارفه في ميلانو عام 1499.
• سفينة المجانين لسباستيان براندت Galea de matti، وليس هنالك نسخة إيطالية معروفة ولذلك فهي مخطوطة أخرى، أو ربما كانت إحدى النسخ الفرنسية المنشورة في باريس عام 1497-1499.
• سونيتات السيد غاسباري فيسكونتي[Sonetti di meser guaspari bisconti]، وهو من شعراء بلاط سفورزا، وصديق لبرامانتي، وربما كان صديقاً لليوناردو أيضاً، وربما كانت المجموعة المشار إليها في كتاب الإيقاعات المؤرخ في 1493.
• علم الحساب للمعلم لوكا [arismetricha di maestro luca] خلاصة علم الحساب لباكيولي، كما ابتاعها ليوناردو مقابل 119 سولدي في عام 1494.
• فرانكو دا سيينا- تعود بكل تاكيد إلى علم المعمار لفرانسسكو دي جيورجو مارتيني الذي عرفه ليوناردو في ميلانو، وربما إلى نسخة مخطوطة من أطروحته في علم المعمار والموجودة الآن في المكتبة اللورنسية في فلورنسا، وهي تحمل تعليقات ليوناردو على هوامشها.
• Libro danticaglie أو " كتاب التحف"، ربما كان من أكثر النظريات غموضا في ما يتعلق بالآثار الرومانية والتي أهديت إلى ليوناردو في أواخر تسعينيات القرن الخامس عشر، ويحتمل أنّها ليست سوى كتاب صديقه روشيلاي بيرناردو : مدينة روما [De urbe Roma] (1471).
ويلاحظ المرء أيضاً مجموعة ليوناردو المتنامية من كتب الأدب الشعبي- الكتب التي تُقرأ للمتعة والاسترخاء، مثل قصائد لوكا بولتشي الرومانسية Ciriffo calvaneo (مدينة البندقية 1479)، والرومانسيات الملحمية أتيلا نقمة الرب، والمنسوبة إلى نيكولا دا كازولا(مدينة البندقية 1491)، وGuerino Meschino [غورينو المسكين] لاندريه دا باربرينو (بادوفا 1473)، وكتاب موساكيو ساليرنيتانو "الجديد" (نابولي 1476)، والقصيدة العجيبة الأيروسية التي تتكرر فيها المقاطع المثيرة جنسياً غيتا و بيريا لجيكو برونيليسكي، وسير دومينيكو دا براتو (فلورنسا 1476).
وبعد أن قام بحصر كتبه وأوصد عليها الصناديق يمم ليوناردو شطر فينشي، المكان الطبيعي الذي يفترض أن يكون فيه في ظروف وفاة والده سير بيرو، والسبب في ذلك على وجه التحديد أنَّ عمه فرانسسكو قد كتب وصيته هو، والتي ترك فيها بعض الأملاك في منطقة فينشي لليوناردو. وقد جاءت هذه الوصية بلا شك كرد فعل لحرمان ليوناردو من أملاك والده، والتي خالفت اتفاقاً أسبق بين سير بيرو وفرانسسكو أبرم عام 1492، وينص على الالتزام بأنّه" بعد وفاة فرانسسكو سوف تؤول جميع أملاكه إلى السير بيرو وأبنائه" (ويعني بالطبع أبناءه الشرعيين)، بيد أنّ وصيته ضاعت، ولكنا علمنا من إقرار لاحق- لقد مات في 1507- أنّ تركة ليوناردو تضمنت عقاراً يدعى Il Botro وهو اسم يعني "واد". ولقد تم تصوير الموقع في خارطة كروكية موجودة في ويندسر يظهر فيها موقعه بين نهرين (انظر صفحة 24). ويتكون من بنائين، وبعض الأرض التي "تنتج 16 بوشل من الحبوب"، وإلى الشمال منها يوجد بستان من أشجار البلوط. وقد لاحظ ملّاك الأراضي المجاورة أنَّ أحد الاسماء كان "سير بيرو" والذي يشير إلى أنّ رسم تلك الخارطة لم تُرسم بعد عام 1504 بوقت طويل. وقد حدد المؤرخ المحلي رينزو سيانشي المنطقة المبينة في الخارطة على أنّها فورا دي سيرافالي، وهي تبعد حوالي 4 أميال شرقي بلدة فينشي.
وربما يعود الرسم التمهيدي صغير الحجم لمرتفعات جبل البانو إلى هذه الزيارة، وكذلك الرسم الذي تظهر فيه معصرة فينشي للزيت "Molino della doccia di Vinci"- والتي شاهدناها في وقت سابق. فتحويله معصرة الزيت إلى "آلة لطحن الألوان" ربما يتعلق في ذهنه بجدارية معركة الانغياري التي سرعان ما بدأ يرسمها على جدار قاعة المجلس، والتي بلا شك ستحتاج بعض الألوان بكميات صناعية.
ومن فينشي سافر باتجاه ساحل بيومبينو، حيث كان قبل سنتين في عمل له مع بورجيا. لقد أصبحت المدينة مرة أخرى تحت سيادة جاكوبو دابيانو الودود مع فلورنسا. وفي مذكرة مؤرخة نجد ليوناردو في "قلعة بيومبينو في 20 أكتوبر. وتقول أخرى " في يوم عيد جميع القديسين [1 نوفمبر] عام 1504 قدمت لحاكم بيومبينو هذا العرض. لقد أغفل ذكر ماهو "العرض" الذي قدمه: ربما كان "طريقة لتجفيف مستنقعات بيومبينو" المبينة على إحدى صفحات المخطوطة الاتلانتيكية. وفي اليوم ذاته يكتب هذه الملاحظة الجميلة: " 1504 عند نهر بيومبينو في عيد جميع القديسين، وبينما تغرب الشمس، رأيت الظلال الخضراء التي تلقيها الحبال، والصواري والعوارض على صفحة الجدار البيضاء. ويحدث هذا لأنَّ سطح الجدار لم يعكس ضوء الشمس بل لون البحر الذي كان قبالته."
أتى نوفمبر بعواصفه المعتادة، فاستحضر بعد عدة سنوات المنظر الذي شهده آنذاك على صفحة نهر البيومبينو:
De vanti di Piombino a Piombino
Ritrosi di venti e di pioggia con
Rami e alberi misti coll'aria
Votamenti della acqua che piove nelle berche
[ مع هبات رياح البيومبينو وأمطاره، والأغصان والأشجار تطير في الهواء: تنظيف الزوارق من مياه الأمطار.]
هذه الفقرات الكثيفة هي المعادل اللفظي للسرعة في رسم الموقع. فنحن نراه، شخصاً مبللاً بماء المطر في الشاطيء، يراقب الأمواج، ويتبع ببصره الصيادين وهم يسحبون قواربهم إلى البر، يختزن اللحظة.
وهاهو قد عاد إلى فلورنسا بنهاية نوفمبر، حيث نجده يسهر الليالي، يعالج لغز تربيع الدائرة الرياضي القديم. (وهو عبارة عن إنشاء دائرة ومربع بمساحة محددة- وهو من المسائل الرياضية المستحيلة بسبب عدم تعيين قيمة باي (π). وهاهي الكلمات تحّشر عمودياً بين الأشكال الهندسية في إحدى ملاحظاته الليلية العجيبة، حيث يكتب " لقد قمت في ليلة عيد القديس أندرو [30 نوفمبر]، بإنهاء مسألة تربيع الدائرة، وكان الضوء في نهايته، والليل، والورقة التي كنت أكتب عليها، لقد انتهت بنهاية الساعة." يهتز ضوء المصباح، وينبلج الفجر، ولكن سيثبت أنّ هذه الاستنتاجات مؤقتة كما هو الحال دائماً.
------------------------------------------------
ليوناردو دافنشي: رحلات العقل
تأليف: تشارلز نيكول
ترجمة: أميمة حسن قاسم
محاولة استعادة شيء من ليوناردو الإنسان هي مهمة هذا الكتاب- ذلك هو، ليوناردو الإنسان الحقيقي، الذي عاش في وقت حقيقي، وأكل أطباقاً حقيقية من الحساء، مقابل ليوناردو الرجل الخارق، متعدد التخصصات.
بتكليف ورعاية من الشاعر الإماراتي محمد أحمد السويدي، وبدافع من حب المعرفة والسعي لنشرها قامت القرية الإلكترونية بتوفير هذه النسخة من كتاب ليوناردو دافنشي: رحلات العقل | تأليف: تشارلز نيكول | ترجمة: أميمة حسن قاسم
وسوف نقوم بنشرها على حلقات تباعاً هنا في جوجل بلس نأمل أن تحوز إعجابكم وأن تكون مساهمة في #نشر_المعرفة
صفحتنا الرسمية في فيس بوك :
منصتنا في جوجل بلس لمتابعة باقي مشروعاتنا
(جميع الحقوق محفوظة)
No comments:
Post a Comment