Saturday, October 27, 2018

ألسنةُ الماء وقهوةُ وهران






ألسنةُ الماء وقهوةُ وهران

انطلقنا صباح يوم 12 فبراير، من الجزائر العاصمة إلى ولاية وهران في رحلة استغرقت نحو 35 دقيقة بالطائرة. كانت الأجواء تضطرب برياح ومطبَّات هوائية شديدة -ونحن في الطائرة- ميممين شطر وهران، بَيد أنَّ الطيَّار الجزائري كان بارعاً كالعادة؛ ليحطَّ بطائرته على مدرج المطار كنورس يحطُّ على الماء.
استقبلنا والي وهران السيد زعلان عبد الغني، في قاعة الاستقبال في المطار، ولمَّا شرع في الحديث عن وهران قائلاً إنّها تأسست في عام 903م، قلت على الفور: أي قبل ولادة أبي الطيِّب المتنبي باثنتي عشرة سنة، وجاذبه صديق معنا الحديث قائلاً: لكلِّ امرئ من اسمه نصيب، فهل مازلت زعلاناً؟ تبسَّم الوالي لملاطفة الصديق، وأكد أنَّ زعله تبدَّل سروراً بلقائنا.
وعندما عرف أنني أُولي شعر المتنبي وعصره عنايتي - وكنَّا في الطريق إلى الفندق- قال إنه من المعجبين بالمتنبي، ثم ذكر قوله:
أنام ملء جفوني عن شواردها ويسهر الخلق جراها ويختصم
ثم ذكر قصة لقاء المعتمد بن عباد باعتماد على ضفة نهر، ورغبة اعتماد إلى أن تخوض في الطين عندما رأت مجموعة من القرويات وهنَّ يمشين فيه فأمر المعتمد بخلط العنبر بالمسك والكافور وسحق الخليط بماء الورد وجعلها تخوض فيه.
ثم ذكر قصة المعتمد وصاحبه وهما يتناشدان الشعر على جانب النهر، فأنشد المعتمد بيتاً وسأل صاحبه أن يجيزه، فأجازته اعتماد وكان أول عهده بها.
فقلت للوالي: اسم صاحبه محمد بن عمار، أمَّا البيت الذي قاله المعتمد فكان:
نسج الريح على النهر زرد
فأجازته اعتماد على ضفة النهر بقولها:
أي درع لجواد لو جمد
ثم أردفت أنني ذهبت إلى «شلب» في جنوب البرتغال لتقصِّي الحكاية، ولقد سبق لي وأن ضمَّنتها بحثاً سابقاً.
ثم ذكرنا الكرم، فقال إنه معجب بقول الشاعر في رجل:
ما قال لا قطّ إلا في تشهّده لولا التشهّد كانت لاءه نعم
فقلت له إن البيت يعود إلى قصيدة قالها الفرزدق في علي بن الحسين الملقب بزين العابدين، عندما قدم هشام بن عبد الملك للحج، برفقة حاشيته وبصحبته الشاعر الفرزدق، وكان الحجيج في ذلك العام من الكثرة بحيث بدوا وكأنهم جسدٌ واحدٌ مشدودٌ إلى بعضه من فرط التحامهم، وحاول هشام أن يبلغ البيت، فلم يفسح له أحد مجالاً للطواف، فجُلِبَ له متكأ بانتظار أن تسنح الفرصة، وعندما قدم علي بن الحسين زين العابدين انشقَّت له الصفوف حتى أدرك الحجر الأسود.
فسأله بعض حاشيته عن الرجل، فأنكر معرفته فقال الفرزدق في ذلك:

يا سائلي أيـن حل الجود والكرم عــنــدي بـيان إذا طــــلابه قدموا
هذا الذي تعـــرف البطحاء وطأته والبــيت يعـرفه والحـل والحـــــرم
‏هــذا ابــن خــير عــباد الله كلهم هـذا التــــقي النــقي الطاهر العلم‏
هــــذا الـــذي أحمد المختار والده صلى عــــليه إلهـــي ما جرى القلم

‏لو يعــلم الركن من قد جاء يلثمه لخر يلثـم منــــه مـوطــئ الــقدم‏

ثم قلت له، أما المتنبي فله بيت في الكرم يقول فيه:
ولو يَمّمْتَهُمْ في الحَشْرِ تجدو لأعطَوْكَ الذي صَلّوا وصامُوا
ثم أضفتُ في الغرض ذاته، قول الشاعر بشَّار بن برد الضرير البصري الذي تحاشى لسانه السليط الشعراء والأمراء حتى قاده إلى التهلكة:
لمست بكفي كفه أبتغي الغنى ولم أدرِ أنَّ الجود من كفه يعدي
فلا أنا منه ما أفاد ذوو الغنى أفدت وأعداني فبددتُ ما عندي

تابعت قراءة أبيات في الكرم، ودقائق مخارج الشعراء فيه، واخترت لأبي تمام قوله:

تعوَّد بسط الكفِّ حتّى لو أنَّه ثناها لقبضٍ لم تجبه أنامله
ولو لم يكنْ في كفِهِ غيرُ روحِهِ لجادَ بها، فليتقِ اللهَ سائلُهْ
عطاءٌ لو اسطاعَ الذي يستميحُهُ لأصبَحَ مِنْ بَيْن الوَرَى وَهْوَ عَاذِلُه
ْ
ثمّ أردف الوالي وقد لمحَ شجرة نخل باسقة: لم يدع الشعراء العرب شيئاً لم يتطرَّقوا إليه، فما أحسن قول صقر قريش عندما لمح شجرة نخل فقال:

أيُّها الرَّاكِبُ المُيَمِّمُ أَرْضِي أَقْرِ مِنْ بَعْضِي السَّلامَ لِبَعْضِي
إنَّ جِسْمي كَمَا عَلِمْتَ بأَرْضٍ وفُؤَادِي وَمَالِكِيه بأَرْضِ
قُدِّرَ البَيْنُ بَيْنَنَا فَافْتَرَقْنَا وطوى البينُ عن جفوني غمضي
قد قضى اللهُ بالفراقِ علينا فعَسَى باجتماعنا سوفَ يَقضي

ثم تذاكرنا شعرَ أبي الطيِّب وأحواله وعصره الذي يُعدُّ من أكثر عصور العربية ازدهاراً من جانب وانفراطاً في الواقع السياسي العربي من جانبٍ آخر، ولقد بحثت الأمر بتمعُّن في كتابي يوميات دَيْرِ العَاقُول، ونشرت أجزاء منه في عدة صحف.
في الطريق إلى الفندق شاهدتُ مجموعة من المباني المرمَّمة وكانت من طرز مختلفة حيث إن المدينة تعاقبت عليها عدة حضارات شرقية وغربيَّة وتركت تأثيرات جمَّة على المستوى المعماري. فتقلب حكمها بين سلالات حاكمة محلِّية من بربر وعرب وبين محتلِّين إسبان وفرنسيين وأتراك عثمانيين. وضع كل منهم بصمته لتزين به المدينة فسيفساءها التراثي والثقافي.
ومن المرجَّح أن يكون اسم وهران من أصل بربري نسبة إلى واد الهاران وهي أسود كانت تعيش في المنطقة. 
أمَّا قديماً فلقد كانت تُعرف باسم إيفري وتعني باللغة الأمازيغية: الـكهف
بسبب كثرة الكهوف في التلال المحيطة بالمدينة.
ومدينة وهران التي تُنْطَق محلِّيًّا: وهرن تلقَّب بــالباهية، وهي ثاني أكبر مدن الجزائر بعد العاصمة، تقع في شمال غرب الجزائر على بعد 432 كيلومتراً عن الجزائر العاصمة. وتطلُّ على خليج وهران في غرب البحر الأبيض المتوسط.
ومنذ عقود وهي تعتبر مركزاً اقتصادياً وميناءً بحريًّا هامًّا.
بلغنا فندق رويال، والذي يعدُّ من الأبنية القديمة التي قام المستثمر جيلالي مهري بتحديثه وتحويله إلى فندق رائع من خمس نجوم، ولعلَّ الفندق من طراز فنادق العهد الجديد أو «بيلي بوك» كما يسمُّونها.
وبعد استراحة قصيرة حضرنا عرضاً للأزياء الشعبية بمدخلات عصرية نظمته السيدة Mme Hasnia 
عشرُ عارضاتٍ يصرعنَ ذَا اللبِّ ويسحرنَ فؤادَه، عرضنَ فيه ثياباً على وقع موسيقى وهرانية أندلسية عزفتها فرقة Zaki Benmrrh التي كانت تصاحب العرضَ وغناء المطرب عبد الحميد طالب بن دياب، وشاهدنا عن كثب عرضاً للزيِّ التلمساني والقسنطيني والصحراوي والقبائلي وشرح عن تطورها. 
كانت العارضاتُ في ميعةِ الصبا، ها هنَّ حورياته باشراقة المرأة الجزائرية الماجدة وخفرها.
لم يدَّخر الأصدقاء وسعاً في التقاط الصور أو التصوير الفيديوي، وكأنهم يحاولون القبضَ على هذه اللحظة حتى لا تنفرط.
تفاعل الجمهور كثيراً مع العرض وصفَّق طويلاً للعارضة التي مثَّلت على مسرح العرض مغطَّاة بالكامل بالحايك أول الأمر ويسمُّونه العجار ولم يظهر منها سوى عينيها، وكان من نسيج فاخر، تعمَّدت أن تجلوه ليظهرَ لباسها المطرَّز بعلمِ الجزائر.
وبعد وجبة خفيفة مكثنا في الفندق للاستراحة وفي الساعة الرابعة توجَّهنا إلى كنيسة سانتا كروز (الصليب المقدَّس) رفقة الوالي فاستقبلنا قسٌّ فرنسي.
ولقد شُيِّدَتْ كنيسة سانتا كروز بوهران فوق جبل مرجاجو في عام 1850م بعد جائحة الكوليرا عام 1849م ثم وُسِّعَتْ بعد ذلك وتمَّ تثبيتُ تمثال العذراء على البرج في عام 1873م. ويُعرف بين الناس باسم عذراء وهران وهو يجتذب العديد من المؤمنين المسيحيين والسوَّاح بسبب دوره التشفعي منذ الوباء. ويشمخ تمثال سيِّدة النجاة (مريم) فوق الكنيسة.
وأُخذ اسمها من حصن سانتا كروز الذي شيَّده الأسبان بين عامي 1577 - 1604م، وتقع الكنيسة تحت الحصن الذي حافظ على قوامه وهيئته بسبب ارتفاعه.
كان الوالي يتحدث عن المشاريع المنجزة وتلك التي ما زالت قيد الإنجاز، وقال: لم يكن في وهران إلى ما قبل عدة سنوات فندقاً مقبولاً، أمَّا الآن فهناك عدة فنادق من ذوات الخمس نجوم، وتحدَّث عن المشاريع القائمة ومنها نفق كبير سيكون له دور في تخفيف الاختناقات المرورية، كما تناول في حديثه مشروع توسعة المطار ومجموعة فنادق قيد الإنجاز. وفي المطار ونحن نعتزم العودة تلقيت تذكاراً من الوالي كان عبارة عن صندوق أنيق، بداخله مصحف وسجادة وهرانية. فشكرته على هديَّته، فقال: يا أخ محمد يجب أن نوقفوك ونسهر معك ليلة على جمر وتاي أي (شاي).
فصافحته وقلت له متمثلاً قول أبي تمام:
إنْ يُكْدِ مُطَّرَفُ الإخاءِ فإنَّنــا نغْدُو وَنَسْري في إِخَاءٍ تَالدِ
أوْ يختلفْ ماءُ الوصالِ فماؤنا عذبٌ تحدرَ من غمامٍ واحدِ
أو يفْتَرقْ نَسَبٌ يُؤَلِّـف بَيْننــــا أدبٌ أقمنـاهُ مقــامَ الوالــدِ
وسُرَّ سروراً عظيماً وشكرني على دفء المشاعر.
في الطائرة وقد شرعتْ إذاعتُها الدَّاخلية بدعاء السَّفر قبل أن نُقْلِعَ إلى الجزائر العاصمة، وكان يوماً عاصفاً والرِّياح تهزُّ الطائرةَ كسفينةٍ تقلِّبُها الأمواج، راقبتُ أنا البدويّ أمواج البحر وهي تمدُّ ألسنةَ الماءِ الى السماءِ على علوٍّ شاهق فبدت لي كأيدي غول يتربَّص بِنا ويحاول أن يجذبنا أو يشدَّنا إليه.
تحدثنا عن المسلم والشرقي، وهو الذي وضع في اختراق الآفاق كتباً ومؤلفات عديدة، وكأن الآفاق لم تكن سوى التقلُّبِ في الأقطار براً، أمَّا ركوب السماء فلم يتدبَّره عقله بعد، ومازال الرعبُ ينهض فيه كلَّما ركبها وكأنَّه مشدودٌ إلى الأرض بالرغم من أنَّ السماء ونجومها تمدُّ أصابعها في حرثه ونسله، على عكس الغربي الذي يركب السماء ويتقلَّب في مسالكها بالطريقة التي يفعلها العربي على ظهر ناقته وهو ييمِّمُ شطر مكان ما.
تطرَّقنا في الحديث إلى تناول تجربةِ المفكِّرِ الجزائري محمد أركون (1928 - 2010) م وتوجُّهاته ما بعد الحداثية في أنسنة الفكر ونقد العقل الإسلامي وفكر الحداثة معتمداً في منهجه على الأنثروبولوجيا التاريخية، وسعيه إلى تأسيس علم الإسلاميات التطبيقية كمشروع يتضمن محاولة دمج العملية النقدية للفكر الديني الإسلامي في عملية نقدية أكثر عمومية للفكر الديني بوجه عام.
وعندما حضر دور المفكر الجزائري مالك بن نبي، شعرنا أنه سيكون مسكاً لختام حديثنا عن التجارب الرِّيادية النهضوية المعاصرة، والتي حاولت دفع العقل العربي إلى نبذ التسليم والثبات، والتوجُّه نحو التحوُّل والإصلاح، وإعادة إنتاج الوعي بما يكفل قدرتنا على التواصل مع محيطنا، والعالم من حولنا.
ولد مالك بن نبي في مدينة تبسة في الشرق الجزائري، سنة 1905م في أسرة إسلاميَّة محافظة، ولم تشفِ غليله الدراسة التي تلقَّاها أول عهده وكان يرى أنها لا تنفع أكثر من تحرير صكوك الزواج والطلاق ومجموعة من المعاملات الشرعية.
وبعد تجربة سفر غير موفقة إلى فرنسا، بدأ تجارب جديدة في الاهتداء إلى عمل، فتحصَّل على عمل في المحكمة وفَّر له فرصة الاحتكاك بالفئات البسيطة فبدأ عقله يتفتح على حال بلاده.
ثم عاد ثانية إلى فرنسا عام 1930م والتحق بمدرسة اللاسلكي للتَّخرج كمساعد مهندس، بعد أن رفض معهد الدراسات الشرقية طلب التحاقه، بسبب أصوله الجزائرية.
ثم انغمس في الدراسة، وتزوَّج من امرأة فرنسية وقرر الإقامة فيها وشرع يؤلِّفُ في قضايا العالم الإسلامي، فأنجز في عام 1946م كتابه (الظاهرة القرآنية) وتبعه في عام 1948م بكتاب (شروط النهضة) الذي طرح فيه مفهوم القابلية للاستعمار. وتوالدت كتبه حتى بلغت الذروة في كتابه الذَّائع الصيت (مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي).
وبعد استقلال الجزائر عاد إليها، وعُيِّنَ مديراً للتعليم العالي حتى استقالته سنة‏ 1967.
وتفرَّغ للكتابة فشرع بتدوين مذكّراته وأطلق عليها (مذكرات شاهد القرن).

| #محمد_أحمد_السويدي_مقالات | #جزائريات

No comments:

Post a Comment