Saturday, July 21, 2018

غريبٌ في بيرجن







غريبٌ في بيرجن
#محمد_أحمد_السويدي_مقالات
حدّثنا الأخ بو محمد خالد بن أحمد بن حامد* أنّه كان في زيارة إلى منطقة في غرب النرويج اسمها (بيرجن)، وهي منطقة صغيرة نائية يقطنها نحو 5 آلاف شخص.
قال: وإذا برجل عملاق يبزغ أمامي وكأنه خرج من مصباح علاء الدين، وكان يرتدي معطفاً صوفياً ثقيلاً ويعتمر كوفية ومرعزاً غليظاً (عقال). 
وعلى الرغم من أنّ الوقت كان صيفاً، إلا أن البرد كان قارساً.
كان الرجلُ يسير بخطى واسعة وهو يقطع الطريق إلى جهته الأخرى من مكان غير مخصص للمشاة غير آبهٍ بالسيل الجارف للسيارات وهي تنطلق كالسهام.
مَن هذا الفايكنغ الذي تنكّر بزيّ عربيّ من البادية والذي تحسب لوهلة أنّه بعث من زمن غابر؟.
هل كان يبحث عن سفينته الغارقة أم عن شحنة سيوف تركها البرابرة على الشاطئ قبل أن يعودوا أدراجهم؟!.
لقد أثار بي شهية السؤال، وقلت لأتحقق بنفسي منه ومن الجهة التي جاء منها وماهيّة العالم الذي تركه خلفه، وكيف يخرج بمثل هذه الملابس التي لا يجمعها ببيئة الفايكنغ سوى المعجزة.
فسألته... وإذا بالرجل عراقيّ من البصرة
فقلت له: وما الذي جاء بك إلى هنا؟..

لقد ترك هذا البصراوي الفراهيدي في سوق الصفارين بالبصرة وهو يحاول أن يكتشف بحراً شعرياً جديداً، وترك الجاحظ منهمكاً بالتدوير والتربيع وترك السياب** يصرخ : (الشمس أجمل في بلادي من سواها)، على الرغم من أنّها قاربت الستين درجة في هذا الوقت من العام في البصرة، وجاء إلى بيرجن دون سواها.
فقال الرجل، إنّه كان من لاجئي المخيمات الصحراوية في الأرطاوية (منطقة للعزّاب والكلمة مشتقّة من شجر الأرطا) بالمملكة العربية السعودية أول الأمر قبل أن يجري توحيدهم مع لاجئي مخيم مدينة رفحاء، وبعد سنوات على وجوده هناك افتتحت الأمم المتحدة مكتبا في المخيم وجرت عملية إعادة توطين اللاجئين العراقيين الذين وصلوا المملكة هاربين من الموت بعد أن اشتركوا في انتفاضة شعبية ضد قوات الحرس الجمهوري العراقي التي نجت من الإبادة بعد حرب الخليج الثانية عام 1991.
وتمّ تنسيبه من قبل مكتب الأمم المتحدة لمقابلة وفد من وزارة العدل النرويجية الذي أقرّ إعادة توطينه وجاء به من صحراء النفود الكبرى إلى جنوب القطب الشمالي.
ثم قال: لقد بلغت المكان بعد رحلة من مخيم رفحاء بالسيارات قطعنا فيها الفيافي والقفار والمدن حتى بلغنا العاصمة الرياض في رحلة امتدت لساعات طويلة، ومن ثم ركبنا الطائرة من مطار الرياض بإشراف وفد أممي إلى مطار الدمام، وبعدها في طائرة أخرى حطّت بنا في أوسلو، ومن سيارة إلى أخرى ومن ثلج إلى آخر، نفضنا آخر حبة رمل من صحراء النفود عن أبداننا حتى بلغنا هذه المدينة ووجدت نفسي في هذا المكان.
فسألته: هل تتكلم لغة أخرى غير العربية
فقال: لا والله لا أجيد النرويجية ولا حتى الإنكليزية، وأقضي معاملاتي بالإشارة والتوكل على الله.
فسألته: وكيف تقطع الطريق هكذا دون أن تقصد المكان المخصص لعبور المشاة وأنت لا تحفل بالسيارات المنطلقة؟.
فقال: والله لا أعرف ما أفعل، وكل طريق مستو هو بالنسبة لي صالح للعبور
فقلت له: وهل أنت مرتاح في مكانك هذا؟
فقال وقد بدت على سحنته علامات الراحة والتسليم بقدره: أنا في غاية الراحة هنا، لا هم على القلب، فالأسوأ أصبح خلفي، وعندي هنا شقة ولا أحتاج شيئا آخر من الدنيا.
ثم حلف عليّ وأقسم أيمانا غليظة أن يستضيفني في بيته ويعدّ لي غداءً عراقيا
وكان معي ابني محمد الذي وعدته بوجبة من ماكدونالدز ألحّ في طلبها، فقلت في نفسي ربما سيعدّ الباميا باللحم أو الباجة والكوارع التي يطيب للعراقيين تناولها في جميع الأوقات أو نوعا لا أعرفه من المطبخ العراقي الدسم، وهو الأمر الذي سيجعل ابني محمد يتحالف مع الفايكنغ ويذهب في غزوة لصيد الحيتان على أن يرى رأس الباجة على طبق أمامه.
فاعتذرت من الرجل ووعدته خيراً في المرة القادمة..
كان الوالد*** يصغي إلى حديث الأخ خالد بإمعان، فقال لي بعد أن أنهى خالد حكاياته عن الكعند ويخت جريس كيلي والبصراوي في بلاد الزمهرير: لا تفوّت تدوين هذه الحكايات يا محمد.
فقلت: لن أفوّت شيئا منها، فخالد مثل الشجرة الوارفة، لا تقطف منها إلا طيّب الثمر...
______________________

* بومحمد خالد بن أحمد بن حامد: رجل أعمال إماراتي.
**السياب: بدر شاكر السياب ولد في محافظة البصرة جنوب العراق، شاعر معروف.
***الوالد: معالي أحمد خليفة السويدي أول وزير خارجية بدولة الإمارات.

No comments:

Post a Comment