«بين جحيم نيويورك ومرآة السيد مورتّي»
وصلنا فندق البريتّا قرب منطقة الفرانشاكورتا شمال شرق #ميلانو وتناولنا طعام الغداء المكون من اللحوم المقددة وتارتا سمك الريشولا الذي كان رائعا بحق، وباستا التالياتلّي بالفطر، وعندما حان تقديم مرقة الكري مع الرز البسمتي، وجدت أن الرز كان من الضرب الرديء، فعائلة البسمتي تشتمل على 23 نوعا، وهذا لا يُعدّ من الأفضل بينها، وكذلك الحال مع المرقة التي لم تكن ترقى إلى مرتبة الصالونة.
فتذكرت حادثتان بدأتا تتداعيان إلى ذاكرتي، أولهما حادثة الأخ الفنان #خالد_الشيخ، وهو من مدمني البسمتي والعارفين بسلالالته.
ففي ذات مرة دعوته إلى مطعم أبو طافش للأسماك الطازجة، ويُعد من أقدم مطاعم أبو ظبي في هذا الضرب من الطعام، ولم أكن أعرف بأمر خالد مع البسمتي وشوربة الدال (العدس)، اللتان برأيه لا يعدلهما طعام ولا يبدلهما بشيء من الخريطة الوراثية لأطباق العالم.
فاستأذن في مشوار قصير مع السائق شعيب، وقلت في نفسي:لعلّه أراد أن يبتاع علبة من السجائر، ولكنه عاد جذِلا وهو يحمل كيسين من النايلون فيهما البسمتي والدال وقد جاء بهما من مطعم هندي قريب من الدرجة العاشرة، ومن يومها ونحن نحتاط لخالد بالدال والبسمتي عند مجيئه، وما أن نعدّ الطاولة حتى نرمي بفرائسه المفضلة أمامه، ونترك ليديه أن تجوسا الأنواع الأخرى وكأنها في سياحة عابرة.
عندما علمت بحكايته مع الدال والبسمتي أخذني العجب فقال خالد: ستتعجب أكثر عندما تعلم بأمر حكايتي عندما زرت الأردن، ثم أردف يحدثنا عندما سأل عن مطعم هندي في عمّان، وعن الأطباق التي تقدمها المطاعم، فقالوا ليس في الأردن سوى #المنسف وهو طبق يطبخ فيه اللحم مع الأرز ويقدم معه اللبن (الجميد)، ولم يستسغ خالد الطبق أبدا، فعضّه الجوع والمنسف وكبة البرغل باللبن الرائب، فلم ير بُدّاً من مهاتفة السفير البحريني، ولم يكن يعرفه، ولكنه بالطبع يعرف الدال والبسمتي، فاتصل به وعرّف بنفسه وسأله دون مواربة: هل من الممكن أن تستضيفني للغداء معك؟، ففرح السفير، فهو أمر لا يحدث كل يوم مع فنّان كخالد، ودعاه إلى منزله، وكما جرت العادة أدنى الشيخ الدال والبسمتي وجعل أصابعه تعبر في عجالة على الأصناف الأخرى.
وبعد ثلاثة أيام على الدال والبسمتي تعلّل السفير بضرورة السفر إلى #البحرين من أجل عمل لا يمكن تأخيره، فما كان من خالد إلا أن وجه كلامه للسفير وكأنه أعدّ نفسه لمثل هذا الواقعة وقال له: الله ويّاك سعادة السفير في حلك وترحالك، ولكن ليبق طبّاخك معي. فأسقط في يد السفير، وعادت أصابع الشيخ تتجول في جغرافية الدال والبسمتي مرة أخرى.
وفي حكاية أخرى ذهب إلى #روما وافتقد وجود مطعم هندي، فسأل عنه، وقيل له: هناك واحد خارج روما، فقطع إليه مسافة طويلة ووصله متأخرا ورأى العمال يجمعون القدور والأطباق ويضعونها في الخزانات، واعتذر صاحب المطعم، فلم يعد هناك شيء يقدمه لخالد وزوجته، فقال خالد: لا بأس عليك، ولكن أرجو أن تسمح لي باستعمال مطبخك وطناجرك وسأعدّ الدال والبسمتي بنفسي، ثم رمق بزاوية عينه زوجته، وأدركت أنه يسألها أن تطبخ له، فقالت على الفور: حرام عليك يا خالد، جايبني لإيطاليا حتى أطبخلك دال وبسمتي؟.
كانت دراما مركّبة، ولقد تذكرتها وأنا أرمق طبق البسمتي على طاولتي، وتذكرت هذه المرة بعض الأحداث عندما بدأنا نكتشف العالم في بداية السبعينات، فكان #الوالد أطال الله في عمره يعمل على ترتيب سفرات الصيف للوالدة رحمها الله ولنا.
ما زلت أستعيد في تلك الفترة المبكرة من العمر الكثير من الأحداث وأتذكر بشكل شفيف أن أحمد رحمه الله الذي لم ير قبل النهير الذي يجري في وادي الزبداني نهرا سوى تلك الأنهار التي وردت في كتب التراث، وأستعيد وجه نوره فهي وزوجها أحمد كانا من عداد صحبتنا في تلك الاأسفار، وكانت الوالدة لا تكفّ بضرب الأمثال في برودة أعصاب نوره، وهي على النقيض من الوالدة رحمها الله، ولطالما سردت علينا حكاية نوره عندما أذاعت نشرة الأخبار نبا اختفاء ابنها راشد عن البيت وتغيّبه، فأصيبت أمي بالجزع، وعندما سألت نوره عن حقيقة الأمر وأسباب اختفائه، ولم يكن النبأ قد بلغها بعد، فقالت ببرودة أعصابها العريقة: برايه، خلّه يغيب، بكره بيردّ.
وفي إحدى تلك السفرات قصدنا القاهرة بمصر، وعندما حان وقت العشاء طلبت الوالدة لوجبة العشاء عيش (أرز) لعشرين شخصا، فلقد كنا نذهب في جماعة كبيرة، وبعد بعض الوقت فزعت الوالدة لكمية (الخبز) التي جاءوا بها إلينا، فلقد تقاطروا حاملين الخبز، تطلعتْ بجزع إلى الخبز ولم ترَ العيش، ثم قالت (حسبي الله وين العيش)
فقالوا لها: هذا هو العيش.!
فقالوا لها: هذا هو العيش.!
وفي سفرتنا اللاحقة شحنت الوالدة مع المتاع (جواني العيش "الأرز" البسمتي) فلكلّ منا عيشه وخبزه.
وفي حكاية طريفة أخرى حدثت مع جيراننا القطريين في القاهرة، طلبت سيدة العائلة من خدمة الغرف في الفندق توفير "مكواة" لكي الملابس، ويُطلق عليها في العامية القطرية (أوتي)، وبعد هنيهة جاء عامل الفندق وقدّمه إلى السيدة بقوله: تفضّلي يامدام، ده المكوى.
فما كان منها إلا أن لطمته على وجهه وهي مغضبة، أما العامل فلم يكن في وسعه أن يتبيّن الأمر وصعقته المفاجأة، لأن (المكوى) في اللهجة القطرية وبعض اللهجات الخليجية لفظ يطلق على المؤخرة.
ولأن الشيء بالشيء يذكر فلا تغيب عنّي تلك الحكاية التي رواها لي محسن سليمان رحمه الله عندما نزلوا بيروت مصطافين فذهبوا لشراء ملاعق وسكاكين للمطبخ فسأل أحدهم صاحب الدكّان قائلا: عندكم خواشيق، فردّ صاحب الدكّان معتذرا: لا ما عنّا خوازيق ...
وللحديث بقيّة.
No comments:
Post a Comment