نعيم سيشل وجحيمها
في الأيام التي تسبق الفعاليات الكبيرة في المجمع الثقافي، كنا نصل الليل بالنهار ولا نكاد نبرح مكاتبنا قبل انتصاف الليل.
وفي مساء ذات يوم وكانت الساعة في نحو العاشرة، قمت بجولة على بعض الأقسام التي لازال بعض موظفيها عاكفين على عملهم فيها. فدخلتُ وحيّيتهم، وكنّا في تلك الأيام (أواخر التسعينات) نستعد لإقامة أحد معارض الكتاب في حدائق المجمع الخلفية. وكان على المجموعة التي بدأت دوامها منذ ساعة مبكرة من صباح ذلك اليوم أن تنجز متطلّبات ذلك المعرض.
سرّني عملهم واجتهادهم فرأيت أن أكافئهم، فعرضت عليهم أن تكون المكافأة على شكل رحلة إلى جزيرة سشيسل بعد انتهاء فعاليات معرض الكتاب. ولقد سنحت الفكرة في برهة خاطفة حيث تضمّن نهار ذلك اليوم الحافل لقاءً بوزيرة السياحة في سيشل تزور الدولة لأول مرّة، وتركت لي مجلّدا مصوّرا بدا لي وكأنه كتالوج لإعادة تركيب الجنة في هذه الجزيرة.
وبعد أن تكلّل المعرض بالنجاح بررتُ بوعدي وقدّمت لهم ثلاثة تذاكر لأسبوع واحد مع المصاريف التي يستلزمها السفر من إقامة ومصروف جيب..
كان الموظّفون الثلاثة (عبد الوهاب وعلي ومحمد) من أوائل من ارتاد الجزيرة قبل أن يُعاد اكتشافها بعدهم بسنوات من قبل رجال الأعمال والأثرياء الخليجيين الذين صاروا يعمّرون فنادق ذوات السبع نجوم فيها.
أقلّتهم الطائرة، وشعروا فور دخولهم الجزيرة أنهم ليسوا سوى فاتحين جدد، أو كمن أطلقوا سيشل المخبوءة في غيابة المحيط إلى العالم.
اتصلوا بي، وقالوا بصوت واحد، لو أن الأمر يعود إليهم لما تركوا سيشل أبدا، بل سينبذون كل شيء، حتى أسرهم ليفوزوا بالإقامة في جنة الخلد.
إنها الجنة ذاتها، فلا يمكن للجنة أن تكون على صورةٍ أخرى، فهنا حور العين وأنهار تجري فيها أشربة لا حصر لها، وأنواع الأسماك والقواقع والأسماك البحرية.
لقد نفروا إلى النعيم فهرول بدوره صوب الثلاثة الذين استيقظت فيهم أرواح فرسان يبذلون ما بأيديهم وجيوبهم. حتى إذا جاء اليوم الذي يسبق عودتهم إلى أبو ظبي أقاموا حفلا ضخما بذلوا فيه آخر ما بحوزتهم وسفحوا الأشربة ذات اليمين وذات الشمال وقصفوا وأغدقوا على الجميع، بل لو أن الهواء ذاته طلب منهم شيئا لمنحوه رئاتهم.
ثم وزّعوا آخر ما بقي في جيوبهم من دراهم على العاملين والموظّفين في الفندق، وعادوا إلى غرفهم ورائحة الانتصار تحيط بهم من كلّ صوب.
كانت ليلة لا تُنسى
وفي الصباح الباكر حزموا أمتعتهم وقصدوا المطار، ولا زالت بقايا ابتسامات الأمس تلوح كباقي الوشم في ظاهر محيّاهم.
لقد كانت العودة خيارا لابد منه بعد أن أفلت آخر فلس من جيوبهم وصار يتجول في جيوب موظّفي الفندق، ولو تمكّنوا من الظفر بمبالغ أخرى لما هجروا الفردوس أبدا.
ولكن المفاجأة أخذتهم عندما عرفوا من موظّفي المطار أنهم وصلوا متأخرين وأن الطائرة الوحيدة التي ستعود إلى أبو ظبي أقلعت منذ بعض الوقت.
اضطربت قلوبهم، وزاغت أبصارهم قليلا قبل أن يستجمعوا ما بقي من قوة ويسألوا عن موعد الطائرة القادمة.
فقالوا لهم، ستقلع بعد أسبوع من الآن وعليكم في المرة القادمة أن تبكّروا بالمجيء.
أجهزت هذه الإجابة على آخر آمالهم وعقدت ألسنتهم، فلم يكونوا يملكون ما يسدون به الرمق، فضلا عن الإقامة ومستلزماتها لمدة أسبوع كامل.
حدّقوا في بعضهم وكان الوجوم قد ضرب أطنابه على وجوههم وقالوا بصوت واحد: أسبووووووووع؟ يا إلهي ما أطوله.
وأخذوا يضربون أخماسا بأسداس، وكان الرأي في نهاية المطاف أن يستنجدوا بالمجمّع لتحويل مبلغ على وجه السرعة.
وعندما رُفِع الأمر إليّ عرفتُ أنهم لن يتوفّروا على المبلغ إلا بعد مضيّ أربعة أيام وربّما خمسة.
كانت صدمتهم كبيرة، فأين سيقضون أسبوعا في جزيرة الشيطان هذه، وكيف سينفقون على مأكلهم ومشربهم، وكيف سيتمكنون من بلوغ المطار بعد أسبوع من أجل العودة إلى نعيم أبو ظبي.
لقد بدا لهم وكأن يداً عملاقة رفعت الكاتلوج الفردوسي عن الجزيرة وتركتها محض خراب.
وبعد محاولات جمّة تمكّنوا من تدبّر أمر الفندق، وتخلّوا عن أربعة نجوم دفعة واحدة واكتفوا بنجمة يتيمة، على أن يسدّدوا الأجور حال توصّلهم بالحوالة.
قضوا الأسبوع الثاني واجمين في جحيم سيشل، لم يبادلهم أحد التحية، وأصبح حنينهم إلى العودة مضاعفاً.
وبعد أربعة أيام وهم يتقلّبون ببطونٍ نصف خاويةٍ وصلت الحوالة، فسدّدوا ما بذمتهم للفندق والعاملين فيه، وصاروا يحصون الدقائق على موعد السفر، وفي الليلة الموعودة، تركوا الفندق في المساء وقضوا ليلتهم في المطار يتربّصون بالطائرة، حتى تنفّس الصبح فسبقوها في الوصول.
وبعد أيام على عودتهم قابلتهم في المجمّع وسألتهم عن الرحلة، فلزموا الصمت في وجوهٍ متفكّرةٍ قبل أن يقولوا بصوت واحد: قضينا أسبوعين في سيشل، أحدهما كان نعيما، والآخر كان جحيما.
ثمّ سكتوا عن الكلام المباح.......
وفي مساء ذات يوم وكانت الساعة في نحو العاشرة، قمت بجولة على بعض الأقسام التي لازال بعض موظفيها عاكفين على عملهم فيها. فدخلتُ وحيّيتهم، وكنّا في تلك الأيام (أواخر التسعينات) نستعد لإقامة أحد معارض الكتاب في حدائق المجمع الخلفية. وكان على المجموعة التي بدأت دوامها منذ ساعة مبكرة من صباح ذلك اليوم أن تنجز متطلّبات ذلك المعرض.
سرّني عملهم واجتهادهم فرأيت أن أكافئهم، فعرضت عليهم أن تكون المكافأة على شكل رحلة إلى جزيرة سشيسل بعد انتهاء فعاليات معرض الكتاب. ولقد سنحت الفكرة في برهة خاطفة حيث تضمّن نهار ذلك اليوم الحافل لقاءً بوزيرة السياحة في سيشل تزور الدولة لأول مرّة، وتركت لي مجلّدا مصوّرا بدا لي وكأنه كتالوج لإعادة تركيب الجنة في هذه الجزيرة.
وبعد أن تكلّل المعرض بالنجاح بررتُ بوعدي وقدّمت لهم ثلاثة تذاكر لأسبوع واحد مع المصاريف التي يستلزمها السفر من إقامة ومصروف جيب..
كان الموظّفون الثلاثة (عبد الوهاب وعلي ومحمد) من أوائل من ارتاد الجزيرة قبل أن يُعاد اكتشافها بعدهم بسنوات من قبل رجال الأعمال والأثرياء الخليجيين الذين صاروا يعمّرون فنادق ذوات السبع نجوم فيها.
أقلّتهم الطائرة، وشعروا فور دخولهم الجزيرة أنهم ليسوا سوى فاتحين جدد، أو كمن أطلقوا سيشل المخبوءة في غيابة المحيط إلى العالم.
اتصلوا بي، وقالوا بصوت واحد، لو أن الأمر يعود إليهم لما تركوا سيشل أبدا، بل سينبذون كل شيء، حتى أسرهم ليفوزوا بالإقامة في جنة الخلد.
إنها الجنة ذاتها، فلا يمكن للجنة أن تكون على صورةٍ أخرى، فهنا حور العين وأنهار تجري فيها أشربة لا حصر لها، وأنواع الأسماك والقواقع والأسماك البحرية.
لقد نفروا إلى النعيم فهرول بدوره صوب الثلاثة الذين استيقظت فيهم أرواح فرسان يبذلون ما بأيديهم وجيوبهم. حتى إذا جاء اليوم الذي يسبق عودتهم إلى أبو ظبي أقاموا حفلا ضخما بذلوا فيه آخر ما بحوزتهم وسفحوا الأشربة ذات اليمين وذات الشمال وقصفوا وأغدقوا على الجميع، بل لو أن الهواء ذاته طلب منهم شيئا لمنحوه رئاتهم.
ثم وزّعوا آخر ما بقي في جيوبهم من دراهم على العاملين والموظّفين في الفندق، وعادوا إلى غرفهم ورائحة الانتصار تحيط بهم من كلّ صوب.
كانت ليلة لا تُنسى
وفي الصباح الباكر حزموا أمتعتهم وقصدوا المطار، ولا زالت بقايا ابتسامات الأمس تلوح كباقي الوشم في ظاهر محيّاهم.
لقد كانت العودة خيارا لابد منه بعد أن أفلت آخر فلس من جيوبهم وصار يتجول في جيوب موظّفي الفندق، ولو تمكّنوا من الظفر بمبالغ أخرى لما هجروا الفردوس أبدا.
ولكن المفاجأة أخذتهم عندما عرفوا من موظّفي المطار أنهم وصلوا متأخرين وأن الطائرة الوحيدة التي ستعود إلى أبو ظبي أقلعت منذ بعض الوقت.
اضطربت قلوبهم، وزاغت أبصارهم قليلا قبل أن يستجمعوا ما بقي من قوة ويسألوا عن موعد الطائرة القادمة.
فقالوا لهم، ستقلع بعد أسبوع من الآن وعليكم في المرة القادمة أن تبكّروا بالمجيء.
أجهزت هذه الإجابة على آخر آمالهم وعقدت ألسنتهم، فلم يكونوا يملكون ما يسدون به الرمق، فضلا عن الإقامة ومستلزماتها لمدة أسبوع كامل.
حدّقوا في بعضهم وكان الوجوم قد ضرب أطنابه على وجوههم وقالوا بصوت واحد: أسبووووووووع؟ يا إلهي ما أطوله.
وأخذوا يضربون أخماسا بأسداس، وكان الرأي في نهاية المطاف أن يستنجدوا بالمجمّع لتحويل مبلغ على وجه السرعة.
وعندما رُفِع الأمر إليّ عرفتُ أنهم لن يتوفّروا على المبلغ إلا بعد مضيّ أربعة أيام وربّما خمسة.
كانت صدمتهم كبيرة، فأين سيقضون أسبوعا في جزيرة الشيطان هذه، وكيف سينفقون على مأكلهم ومشربهم، وكيف سيتمكنون من بلوغ المطار بعد أسبوع من أجل العودة إلى نعيم أبو ظبي.
لقد بدا لهم وكأن يداً عملاقة رفعت الكاتلوج الفردوسي عن الجزيرة وتركتها محض خراب.
وبعد محاولات جمّة تمكّنوا من تدبّر أمر الفندق، وتخلّوا عن أربعة نجوم دفعة واحدة واكتفوا بنجمة يتيمة، على أن يسدّدوا الأجور حال توصّلهم بالحوالة.
قضوا الأسبوع الثاني واجمين في جحيم سيشل، لم يبادلهم أحد التحية، وأصبح حنينهم إلى العودة مضاعفاً.
وبعد أربعة أيام وهم يتقلّبون ببطونٍ نصف خاويةٍ وصلت الحوالة، فسدّدوا ما بذمتهم للفندق والعاملين فيه، وصاروا يحصون الدقائق على موعد السفر، وفي الليلة الموعودة، تركوا الفندق في المساء وقضوا ليلتهم في المطار يتربّصون بالطائرة، حتى تنفّس الصبح فسبقوها في الوصول.
وبعد أيام على عودتهم قابلتهم في المجمّع وسألتهم عن الرحلة، فلزموا الصمت في وجوهٍ متفكّرةٍ قبل أن يقولوا بصوت واحد: قضينا أسبوعين في سيشل، أحدهما كان نعيما، والآخر كان جحيما.
ثمّ سكتوا عن الكلام المباح.......
No comments:
Post a Comment