«هتلر يكنس الثلج عند إمبريال»
ندعوكم للتعرف على هذه الحكاية من رحلة "بَيروتْ – بِرلينْ – بَيروتْ" لــ "كَامل مُرُّوَه" وهي جزء من مشروعنا #أدب_الرحلة برعاية الشاعر الإماراتي #محمد_أحمد_السويدي
9 آذار/ مارس 1942م
بعد غراتز أخذ القطار ينحدر رويداً رويداً بين الجبال، وأخذت معالم العمران تتزايد على الجانبين. كل ما نراه يميناً ويساراً امتدت إليه يد العناية، فلا ترى حقلاً مهملاً، ولا شجرة تنبت على هواها ولا قناة عبثت بها السيول. وعلى موازاة القطار تنساب طريق من الإسفلت، هي أعلى طريق للسيارات في أوروبا.
مداخن المصانع بدأت تبرز رويداً رويداً. وهي تقوم على ضفاف السواقي والأقنية. هو ذا فرع كبير من مصانع حبر "بليكان"، وقد نشر اسمه فوقه في لافتة طولها خمسون متراً على الأقل. هذه مصانع الآلات الموسيقية تتعاقب، ومن بينها مصنع هندسوا بناءه على شكل بيانو ضخم.
بعد قليل مَرَّ القطار على مقربة من بلدة كبيرة جاثمة على كتف رابية تكسوها الغابات، فسألت رفاقي عنها فقال أحدهم:
- هذه زامارانغ، مصيف أباطرة آل هابسبورغ. إنها قطعة من الفردوس في أيام الخير.
قلت: وفي هذه الأيام؟
قال: مصانع وثكنات ومستشفيات ومصحات للجند، ونحن ذاهبون إليها في الأسبوع المقبل لقضاء ما تبقى من إجازتنا.
ورأيت جسراً عالياً، فسألته عنها فأجاب:
- هذا هو الجسر الذي تمر عليه قناة الماء من جبل زامارانغ إلى فيينا. أتعرف أن مياه فيينا هي أحسن مياه في العالم؟ عفواً إنني تعلمت أن مياه ثلاث مدن هي أحسن مياه العالم، وهي فيينا وصوفيا و"بلدة" بيروت "الواقعة على الحدود البلغارية – الصربية".
وضحكت وقلت للرجل: أنا قادم الآن من صوفيا وبيروت.
فربت على كتفي بلطف "عسكري" وقال:
- من يشرب من ماء فيينا وصوفيا وبيروت لن يموت.
القطار يجتاز الآن الهضبة السهلية المؤدية إلى فيينا. الثلج يكسو كل شيء. إلى اليمين مطار هائل ينبسط مسافة عدة كيلومترات، وقد اصطفت عليه بلا مبالغة مئات الطائرات، بل ربما الألوف، والحركة فوقه لا تنقطع، بين طائرات عائدة وطائرات صاعدة. وسألت عنه فقيل لي إنه مطار فيينا العسكري الجديد، وهو أكبر مطار بين ألمانيا واليابان، ويستخدمه الألمان لتجربة الطائرات الجديدة وتموين الطائرات العابرة إلى الجهات الجنوبية نحو رومانيا ونحو المجر في اتجاه روسيا.
قلت للطيار: ألا تخشون أن تقصف طائرات العدو هذا المطار وعليه هذه المئات من الطائرات؟
فأجاب: إنهم لا يستطيعون الوصول إلى هنا.
ولما استطاعت الطائرات الحليفة سنة 1943م الوصول إلى فيينا، اختفت تلك الطائرات عن ذلك المطار، كما رأيت بنفسي في رحلة أخرى.
لم يبق بيننا وبين فيينا سوى ساعة تقريباً. لقد تركنا السهل ودخلنا منطقة الغابات المنبسطة التي تكون حول فيينا إطاراً كل شبر فيه يعيد إلى الأذهان صورة غابة بولونيا الباريسية مكبرة معطرة، وتبدو آثار العناية بهذه الغابات ظاهرة للعيان، فكأن أشجارها وممراتها شاهدة على ما عرفت به قبل اليوم من مجد تليد وعز عريق.
لقد شغلتني هذه المناظر الخلابة عما أنا فيه، وأنستني أنني قادم إلى فيينا على غير ميعاد، وإنما أساق إليها نحو مصير مجهول.
أخذ القطار ينساب بين ضواحي فيينا الصناعية على مهل. كل ما تقع العين عليه يدل على نشاط متواصل، ذلك النشاط الذي استطاع الألمان بفضله أن يصمدوا ست سنوات في الحرب.
ودخل القطار في الساعة الخامسة مساء محطة فيينا الشرقية، فشعرت منذ ألقيت النظرة الأولى عليها أنني في بلاد الأباطرة.
رحت أنادي بأعلى صوتي أحد الحمالين، كالعادة في بلادنا وفي الأقطار البلقانية، فإذا بالخادم يقول:
- لا تزعج نفسك، فسيأتيك الحمال من تلقاء نفسه. انتظر دورك قليلاً.
وانتظرت، وبعد دقائق مر من تحت نافذتي رجل يدفع أمامه قاطرة صغيرة تكدست عليها الحقائب، فتناول حقائبي وأعطاني تذكرة، قائلاً:
- موعدنا أمام باب المحطة.
جرى هذا كله بلا ضجة ولا جدل ولا تجاذب ولا تدافع، فتذكرت مشاهد الهرج والمرج في محطاتنا ومرافئنا، وتنهدت.
وإذا كان ما في هذه المحطة يشهد بأنها أفخم محطة في أوروبا، فإن مظاهرها لا تدل على البهجة، فالمرابع والملاحق والمعارض مقفلة كلها بسبب الحرب، وليس فيها من يستقبل ولا من يودع. كل شيء مسخر في سبيل الحرب.
عند مخرج المحطة، جلس ضابط ألماني يسجل الجوازات ويبصمها بالختم العسكري فلما جاء دوري، ختمه وقال لي ضاحكاً:
- عربي؟ وأبيض إلى هذا الحد؟ مستحيل.
وتناولت جوازي وخرجت وأنا أبتسم من جهل الأوروبيين الحقيقة عنا.
وما إن وقفت على السلم العريض وألقيت النظرة الأولى على فيينا حتى شعرت بقلبي يذوب في غصة عنيفة إذ انكشف أمام عيني من المباني الجبارة، والقبب العالية، والأبراج الشاهقة، ما جعلني أشعر بأن بلادي لا تزال بحاجة إلى مجهود جبار تبذله أجيال جديدة، لكي تبلغ ما بلغته هذه المدينة.
ومع ذلك فإنني لم أشعر باليأس، إذ أن الأيدي التي بنت سد سبأ وهياكل تدمر وبعلبك وجبيل، ومساجد الأموي والأزهر والقيروان وقصور هشام والحمراء والزهراء، لن تعجز يوماً عن تجديد الماضي في صورة أروع وأوقع.
سلمني الحَمَّال حقائبي قائلاً:
- لن يسهل عليك أن تجد سيارة تاكسي…
فقلت: فيينا بلا تكسيات، ونحن لدينا المئات منها في بيروت؟
فأجاب مبتسماً: كان عندنا منها قبل الحرب، أما الآن فهي في الجبهة والسواقون في الجبهة، والبنزين في الجبهة، والمطاط في الجبهة.
حقاً، يكاد يكون كل شيء في ألمانيا في الجبهة وللجبهة. إنها الحرب عند شعب يعرف معنى الحرب، ويدرك ما يترتب على نتائجها.
بقيت أنتظر أمام باب المحطة أكثر من نصف ساعة، كانت أثنائها سيارتان أو ثلاث تذهب وتعود، حتى جاء دوري. وقبل أن أركب طلب السائق جواز سفري ليتأكد من أنني غريب مسافر، إذ لا يجوز استعمال التاكسيات إلا للمسافرين، إنها الحرب أيضاً.
وقال السائق: إلى أين؟
قلت: إلى أحد الفنادق.
فضحك وقال: يظهر أنك غريب يا سيدي. وهل تعتقد أن في الفنادق زاوية واحدة فارغة في هذه الأيام؟ مع ذلك جَرِّب حظك.
وراحت السيارة تدرج وسط شوارع فسيحة، ذات أرصفة عريضة، بُنيت لكي يسير عليها الألوف في آن واحد، ومع ذلك فإنها خالية من الناس تقريباً، والمحلات التجارية مقفل أكثرها. وسألت السائق عن السبب فأجاب:
- إنها الحرب. أما الناس إما في المصنع أو في الجبهة.
وطاف بي السائق أكثر من ستة فنادق، فلم يجد لي فيها مكاناً فارغاً. وأخيراً استوقفني أمام بناء جبار، فغاب لحظة وعاد يقول:
- لقد وجدت لك في الـ"أمبريال" هنا حجرة.
"أمبريال"؟ أين سمعت هذا الاسم قبل اليوم؟ أليس هو الفندق الذي حل فيه هتلر عندما ضَمَّ النمسا إلى ألمانيا في 12 آذار/ مارس 1938م، فخطب عن شرفته كما روت البرقيات في حينه؟ 1
أجل، إنه هو عينه.
مذ وطأت قدماي عتبة فندق "أمبريال" شعرت بجلال أربعة قرون من الحكم الإمبراطوري يسود الجو ويهبط عليّ، فأشعر برهبة الأمجاد التليدة في نفس ظامئة إلى أمجاد جديدة، في وطن لم ينفض عنه غبار الهجوع الطويل.
ذهبت تواً إلى الغرفة التي ظفرت بها في هذا الفندق، رقمها 226 على ما أذكر، وانطرحت على السرير منهوكاً من التعب أحاول أن أنسى في فراشه الوثير عناء السفر. ودَبَّ النعاسُ فوراً إلى جفني، فنمت بملابسي، ولم أستيقظ إلا بعد ساعات، فإذا بالساعة تتجاوز الثانية بعد منتصف الليل.
نهضت وأضأت الغرفة بالمصباح الكهربائي، ثم رفعت الستار عن إحدى النوافذ، فإذا بالمدينة كلها تسبح في ظلام دامس، الظلام الذي فرضته أحوال الحرب.
وقفت أتأمل بهذا السواد الحالك، وما كادت تمر لحظات معدودة حتى سمعت جرس الهاتف يقرع، فأدهشني أن يطلبني أحد في تلك الساعة المتأخرة. وما كدت أمسك بالسماعة حتى سمعتُ صوتًا أجش يصيح:
- ماين هر… ماين هر… بربك أطفئ النور أو أنزل الستائر على النافذة أنسيت قوانين التعتيم؟
وسارعت إلى إنزال الستائر، وقبل أن أنتهي منها قُرِع الباب، وبدا منه شرطي يحمل دفتراً، يرافقه أحد الخدم. وبلا "بروتوكول" أو تمهيد، شرع الرجل يسجل هويتي ويضع بي ضبطاً بمخالفة قانون التعتيم.
وتذكرت في تلك اللحظة الوسائل المتبعة في بلادنا في مثل هذه الحال، ورجوته أن يعفو هذه المرة لأنني غريب أجهل القانون، فأجاب:
- المخالفة قد وقعت، سيان أكنت غريباً أم لم تكن، ولا تنس أن الحرب هي الحرب.
قلت: وماذا يترتب عليّ من العقاب؟
فأجاب نترك هذا للمحكمة العسكرية.
المحكمة العسكرية؟ وهل جئت إلى فيينا من أجل المحكمة العسكرية؟ أبهذا تستقبل مدينة الأباطرة ضيفها الغريب؟ وأدرك الشرطي ما يجول في دماغي فقال:
- لا تخش، سيكون جزاؤك مادياً في المرة الأولى. أما إذا تكررت المخالفة، فلن ينقذك من الإعدام شيء. نحن في أيام الحرب، ولا يسمح لنا الوقت بالتمييز بين النية الحسنة والنية السيئة.
وشعرت برعشة تسري في عروقي، ولم أشعر بالرجل عندما أغلق الباب وتركني، وعلى كل فقد تحققت نبوءة الرجل، إذ حكمت عليّ المحكمة فيما بعد بغرامة قدرها مائة مارك لأن الواجب كان يفرض عليّ أن أطّلع على قوانين البلاد الحربية فور دخولي إليها.
No comments:
Post a Comment