http://www.electronicvillage.org/mohammedsuwaidi_publications_indetail.php?articleid=560
"بين فلورا والحرمل"
لنبدأ في لندن، أو المملكة المتحدة، بما رحبت، فلقد كانت ذات يوم لا تغيب عنها شمس الله، وتمدّدت خارج الجزيرة آلافا من الكيلو مترات، وعمّرت من الحدائق والفراديس أعدادا كبيرة في كلّ مدنها، ناهيك عن الإقطاعيات التي تملكها العوائل النبيلة وغير النبيلة، ففعلت ما فعله آشور بانيبال من قبل عندما كان يعود من البلاد التي يغزوها ويستعمرها بأنواع من نباتاتها ويجتهد بغرسها في عاصمته، بالرغم من أن امبراطوريته كانت تغيب عنها الشمس دون تأخير.
"بين فلورا والحرمل"
لنبدأ في لندن، أو المملكة المتحدة، بما رحبت، فلقد كانت ذات يوم لا تغيب عنها شمس الله، وتمدّدت خارج الجزيرة آلافا من الكيلو مترات، وعمّرت من الحدائق والفراديس أعدادا كبيرة في كلّ مدنها، ناهيك عن الإقطاعيات التي تملكها العوائل النبيلة وغير النبيلة، ففعلت ما فعله آشور بانيبال من قبل عندما كان يعود من البلاد التي يغزوها ويستعمرها بأنواع من نباتاتها ويجتهد بغرسها في عاصمته، بالرغم من أن امبراطوريته كانت تغيب عنها الشمس دون تأخير.
أمّا البريطانيون فلقد جلبوا أنواعاً عديدة من بلاد قصيّة واجتهدوا في تدجينها وتهجينها وغرسها في حدائقهم التي تكاثرت بتكاثر البلاد التي وصل إليها نفوذهم، ومع كلّ هذا بوسعك أن تقول أنها ليست ببلاد زهور وأوراد، ولكن مسرحيات شكسبير تزخر بالزهور وقاموسه منها غنيّ جدا، وبالرغم من قسوة الشتاء الذي لا يرحم، وقصر فترة الربيع، إلا أنها مدة كافية لتزهر أعداد وأنواع لا تُحصى من الزهور، وهي التي قبض عليها شكسبير بكلتا يديه.
في المقابل فإنك إذا ماتوجّهت بالسؤال إلى أي عربي، وخصوصاً عرب شبه الجزيرة عن سرد قائمة بأسماء الزهور، فلا تتوقع أن يسرد عليك أكثر من أصابع اليد الواحدة، أو اليدين في أحسن الأحوال.
وعليك أن تكون متأكداً من أنه سيحصي أزهارا لم يرها في حياته، فالعرب تجريديون في ذاكرتهم لأنها تلتقط الشيء دون أن يكون في مقدورها أن تنسبه إلى شكل أو هيئة محددة.
خطر ذلك كلّه على بالي وأنا أقف أمام لوحة "بوتشيلي" التي صوّر فيها الربيع، ويرى مجموعة من نقاد الفن أنها من أشهر ما تركه لنا الفنان الذي عاش في فلورنسا، وهي تقدّم دليلا على صلته الوثيقة بالأوساط الأفلاطونية المحدثة، فلقد كانت لوحتا الربيع ومولد فينوس باتفاق النقاد ومؤرخي الفن من وحي لورنزو دي مديتشي ابن عم "لورنزو" العظيم.
تنتصب اللوحة في متحف الأوفيتسي بفلورنسا ويفد إليها نحو أربعة ملايين زائر كل عام، صوّر فيها الإله زفيروس (من لفظ زفير) رب الريح وهو يزفر الهواء من أقصى يمين اللوحة، وأما الحورية التي بين يديه تذروها الريح فهي ( كلوريس)، وتظهر فلورا إلهة الربيع مغطاة بالزهور وأما الحسناوات الثلاث من اليمين الى اليسار فهن آلهة الجمال ، والعفة، والمتعة تباعا.
ويظهر الإله مركوريوس رسول عطارد شاباً بعباءة حمراء يقف إلى اليسار يحمل سيفاً، ويرفع يده لتسريع مجيء الربيع. وتتوسط اللوحة الإلهة فينوس إلهة الحب والجمال عند الرومان ويحوم حول رأسها على هيئة طفل مجنّح كيوبيد وهو يصوّب أحد سهامه على آلهات الحبّ وهنّ يرقصن.
وتمثّل اللوحة تعبيراً جلياً عن أعماق فكر عصر النهضة الذي كان مشغولا بكل ما هو حسّي. يرد في سيرة بوتشيلي أنه كان على وشك من أن يتلف أعماله بسبب خطب الشيخ (سافانارولا) والتي هاجم فيها بشراسة الفن والفنانين ونسبهم إلى الوثنية.
تعدّ لوحتا بوتشيلي (مولد فينوس والربيع) علامة فارقة في تاريخ الفن، فهما تفصلان بين عصرين، أحدها كان على وشك أن يولّي الأدبار أما الآخر فهو آت، وأعني بهما ماقبل الرينيسانس وما بعد الرينيسانس.
يشار إلى أنّه بالإمكان تمييز 500 نوعٍ من النباتات في اللوحة، وحوالي 190 زهرة مختلفة. وإنَّ 130 على الأقل من الـ190 نوعاً من الزهور المصوّرة في اللوحة ذات تسميات محددة. والمظهر العام في اللوحة يشبه كثيراً المنسوجات الفلمنكية التي كانت شائعة في ذلك الوقت. وبلا ريب فلوحة الربيع تعد من أكثر اللوحات التي تناولها النقاد دراسة وبحثاً في تاريخ الفن، وقد لا يتقدم عليها في ذلك سوى لوحة الموناليزا.
وأنا أتطلّع إلى ربيع بوتشيلي تذكرت جلسة جمعتني بجدي خليفة-رحمه الله- سألته فيها: هل يوجد عندنا زهور؟ وربما دفعني إلى سؤاله تلك الزهرة التي تظهر على علبة حليب مبستر، ولقد غزت طفولتي لأننا نشأنا على هذا الحليب بالرغم من أنه يعد نوعاً غير صحيّ وفيه نسبة مرتفعة من الكوليسترول، ولاحقا أدركت أن اسمها (كارنيشن). فقال جدي: نعم، ثم أخذ يحصيها عليّ حتى قارب عددها الأربعين زهرة.
ولكن هذه الزهور التي سردها جدي لم أر منها شيئا طيلة حياتي بسبب أنها موسمية وترتبط بالمطر ولا تصمد كثيراً عندما يحتبس عنها.
وأنا أتطلّع إلى ربيع بوتشيلي تذكرت جلسة جمعتني بجدي خليفة-رحمه الله- سألته فيها: هل يوجد عندنا زهور؟ وربما دفعني إلى سؤاله تلك الزهرة التي تظهر على علبة حليب مبستر، ولقد غزت طفولتي لأننا نشأنا على هذا الحليب بالرغم من أنه يعد نوعاً غير صحيّ وفيه نسبة مرتفعة من الكوليسترول، ولاحقا أدركت أن اسمها (كارنيشن). فقال جدي: نعم، ثم أخذ يحصيها عليّ حتى قارب عددها الأربعين زهرة.
ولكن هذه الزهور التي سردها جدي لم أر منها شيئا طيلة حياتي بسبب أنها موسمية وترتبط بالمطر ولا تصمد كثيراً عندما يحتبس عنها.
لقد نشأت في بيئة ليس فيها إلا (الغاف والسمر والحرمل)، وهو الذي اشتقّ اسمه من الحرّ والرمل، لذا فإن وجودي أمام لوحة بوتشيلي شبيه بالوقوف أمام واحة حقيقية، فأنا الذي جاء من جغرافية اللازهر، ومن مفازات طالما ضلّلت من دخل في أحشائها الرملية، إلى #فلورنسا التي استمدت اسمها من إلهة الربيع فلورا
إنها حالة تكثّف فيها الزمن مثلما تكثّف فيها التاريخ والجغرافيا، فأنا الآن في الجهة الأخرى من هذه الصحارى التي تنفتح على بعضها مثل فم عملاق، أو كالمسافر أو العابر الذي انتقل من قحطٍ إلى عدن، أو من قحطان إلى عدنان، وبوتشيلي برباته وأربابه وربيعه جعلني أقف قبالة نفسي وأحصي أشجار طفولتي.
إنها حالة تكثّف فيها الزمن مثلما تكثّف فيها التاريخ والجغرافيا، فأنا الآن في الجهة الأخرى من هذه الصحارى التي تنفتح على بعضها مثل فم عملاق، أو كالمسافر أو العابر الذي انتقل من قحطٍ إلى عدن، أو من قحطان إلى عدنان، وبوتشيلي برباته وأربابه وربيعه جعلني أقف قبالة نفسي وأحصي أشجار طفولتي.
No comments:
Post a Comment