Wednesday, February 15, 2017

الطريق إلى فلورنسا


 

http://www.electronicvillage.org/mohammedsuwaidi_publications_indetail.php?articleid=482

في الطريق إلى فلورنسا، قدتُ السيارة كعادتي، ربما كمحاولة لألتحم بالمكان، ثم فرشت سجاد صوت «لويزا تترازيني» لتنهض في الطريق صلاةٌ سيدركها (محسن سليمان)* ويعرفها كما يعرف أصابعه، ولقد حضر في البرهة التي انطلق فيها صوت لويزا والتحق بالموكب الذي يقلّنا إلى فلورنسا.
شاهدت لمرات التسجيل الوحيد الذي يُظهر سيدة الغناء الإيطالية وهي تغني (ما اباري توتآمور) من أوبرا (مارسا) أو (سوق ريشموند) لفريدريك بون فلوتو.
تقول كلماتها:
"هكذا بدت لي مفعمة بالحب
عندما أبصرتها عيناي
جميلة هفّ لها القلب
كشعلة تحترق"
إنها الأغنية التي اختُبرتْ بها حنجرتان، إحداهما حلّقت صوب الأعالي وعقدت حلفا مع الأبدية، فكانت تلك حنجرة «بافاروتي»، أما الأخرى فلقد هوت بها إلى أسفل سافلين وهي حنجرة «مايكل بولتين».
كان محسن لا يزال يقرع نواقيس الذكرى ويصحبنا إلى فلورنسا عندما قال من الغيب: إن إيطاليا التي وهبت الغناء الأوبرالي لويزا تترازيني وأملينا جالي كورشي، لاينبغي أن تنحني لأحد.
هناك صورة تظهر فيها لويزا تترازيني في ساحة بسان فرانسيسكو سنة 1890 ومن حولها تحلّق 200 ألف مفتون بصوتها.
لقد تسلّقت سلّم المجد وكانت تتقاضى أجوراً سنيّة عن حفلاتها، ولكن مجدها أفل، وآل إلى الزوال، بعد أن اقترنت بشاب لعوب يصغرها بحبل من السنوات فأتى على كلّ ثروتها.
حتى أنها أفضت لإحدى المقربات من صديقاتها وكما يفعل إيطاليّ أثقله سرّ ما وأراد أن يتخلّص منه، أنها لم تجد إلا تذكرة على الدرجة الثالثة في سفينة انطلقت بها من أميركا الجنوبية صوب وطنها الأم.
ثم قالت: أهكذا يؤول بي الأمر؟ أن أعود بعد كل هذا المجد بمثل هذه الهيئة المزرية؟.
فأجابتها صديقتها معزّية: لويزا تترازيني هي لويزا تترازيني..
ولطالما سرد محسن سليمان هذه الحكاية وهو يتلذّذ بما تتركه من دهشة تحفر سحنة من يسمعها، ولقد نفض عنها الغيب وسردها مرة أخرى، ونحن نوشك أن نبلغ فلورنسا.
كانت لويزا لا تعدّ الفطور فطوراً ما لم يشتمل على دجاجة كاملة مع عصيدة وسمك مملّح وقواقع.
وتدافع عن بدانتها قائلة: إذا لم آكل كما أفعل الآن سيتهدّل جسمي.
ولقد شكا الفريدو الذي كان يؤدي دور حبيبها في أوبرا لاترافياتا، وجعاً في ظهره عندما تطلّب دوره حمل حبيبته المريضة فيوليتا التي لعبت دورها لويزا بدورها، فنفر عرق في ظهره وأقعده، فقال: كانت ثقيلة كدولابي ميشلين، فأعطبت ظهري.
أما الفيديو الوحيد الذي يظهرها فلقد تمّ تسجيله في لندن عام 1932، أي قبل وفاتها بثماني سنوات، ويظهر فيه صوت كاروزو العظيم وهي تجاذبه أطراف الغناء.
إن سيدات الأوبرا ولعقود طويلة مكثن على بدانتهن حتى مجيء «ماريا كالاس» التي أنهت هذه الظاهرة في الستينات، فلم يعد مقبولاً لجمهور الأوبرا أن تُختبر ذائقته الجمالية بعشاق وعشيقات على طراز لويزا.
لقد بدأت أرى فلورنسا على نحو مختلف منذ أن قرأت كتاب (انطباعات عن فلورنسا) لــ أندريا بوتسي
أصبحت أرى المدينة بعينيّ نورس، يكثّف المكان في نقطة ويفيض عليه، فأبدأ بتفكيكه إلى وحدات صغيرة، وأخلق علاقات لأربط الأشياء الفلورنسية مع بعضها البعض ليكتمل نسيج المدينة وحيواتها الداخلية وتصبح في مرمى بصري وبصيرتي.
كان ليوناردو يقول: القمر كثيف، وكل كثيف ثقيل، فما طبيعة القمر!
فاليوم يظهر القمر نهاراً في سماء فلورنسا الصافية هلالاً ملآنا يقترب من تربيعه الأول، إنّ القوس الذي يشكّله ظلّ الأرض واضح تماماً، وهذا الأمر يجعلني في مواجهة سؤال في شأن أسلافنا، كيف فاتهم الاهتداء إلى كروية الأرض والقمر مرآة تعكس الحقيقة على صفحتها دون لبس!.
أما نهر آرنو، فلم يكف منذ أزلٍ عن عزف أغنية الماء، يصبّ من جبل فالنيرونا (من سلسلة جبال الأبنيني) قرب ارتزو وسينالونجا المعمّم بثلوج يناير، والمستحمّ بمطر السحب التي رفعتها الشمس من مسطّحات بحار الأدرياتيك فتنهمر سيولاً في نهر آرنو الذي يخترق فلورنسا بهدير لا يهدأ، أغنية يرسلها منذ الأزل شغف بها ليوناردو دافنشي فراح يزيّن دفاتره برسم النهر، ودراسة مدّه وجزره، وانعكاس القمر عليه، ورقص النوارس فوقه، 2000 متر مكعّب من الماء يلفظها النهر في الثانية، إنّه نهر برائحة الزان.
وأنا تصافح أجنحتي نهر آرنو فأرتفع إلى نحو 50 مترا فأتفرّس في المدينة من هذا الارتفاع وهي تتمدّد تحت عينيّ من بوابه الحرية، ومقبرة الإنجليزشمالا إلى بوابة روما جنوبا، أقلّب المدينة بعينيّ كما لو كنت أقلّب كتابا وأرى من مكاني (بونتي فيكّيو) أي الجسر القديم.
هاهي بوابة روما، إنها تقفز إلى عينيّ وكأنها تعبر إليّ بكامل زينتها أو تمدّ يدها لتقول هات يدك واعبر إليّ، وهاهو الطريق الذي يلتقي بقصر (بتّي) أحد قصور آل ميدتشي بفلورنسا، ومن ثم جسر (فيكّيو) ثم قصر أوفيزي وقصر فيكّيو أي القصر القديم، والممر السري الذي صممه فازاري ليربط القصرين ببعضهما والذي مكّن لميدتشي أن يتردد على قصريه دون أن يخالط الناس، ولقد كانت الطبقية شائعة في المجتمع الفلورنسي وورثها جينيا، فيصنف الناس إلى أسياد وزبل. أما القصر فيُعد من تحف المدينة ونفائسها.
ثم قصر أوفيزي الذي اشتق اسمه من لفظ (اوفيسيز) بمعنى المكاتب فلقد أصبح متحفا بعدما كان المركز البريديّ الأول في العصور الوسطى.
ومن ثمّ قبضت بعيني النورس على واسطة عقد فلورنسا، إنها ساحة السادة، أو الأسياد.
وفي الساحة ذاتها ينتصب قرابة 30 تمثالاً من بينها نافورة «نبتون» ونسخة عن تمثال داوود، وكلها يكاد أن ينطق، كأنه يحجم عن ذلك إلا إذا واجهه انجلو بإزميله وحدّق فيهعن كثب وهو يصرخ: إنطق.

No comments:

Post a Comment