Wednesday, May 11, 2016

ديكة سيينّا





أينما قلّبت وجهك في "كيانتي" ستراه، على مداخل القرى، على واجهات المحلاّت التجاريّة، على منافض السجائر، على أغلفة الكتب، على أكمام القمصان.
سألت عنه بعض من التقيتهم، ولكنهم في الغالب لا يعرفون من أمره أكثر من سواده، وتحوله إلى شعار منح المقاطعة هويتها. إنه (ديك) "كيانتي"، الذي ما أن تفرّست به في واجهة أحد المحال في "جريفي"، وأشحت بوجهي بعيداً عنه، حتّى أخذ يقضّ مضجعي بصياحه، الذي لا ينقطع طوال الليل، ولم أطق عليه صبراً، حتى أرسلت في أثره فلّما حضر، هدأ وهدأتُ.
ولكن ما قصة هذا الديك الأسود الذي صار ضموره وهزاله مفخرة كيانتي منذ أجيال.
ذهبوا أن الأمر بدأ بنزاع بين مدينتي "فلورنسا" و "سيّنا"، أزهقت فيه الأرواح، وبذلت المهج، حتّى تفانوا ودقّوا بينهم عطر منشم، ولمّا استراحوا في نهاية المطاف إلى العقل، قرّروا أن يجنحوا نحو الصلح والسلم.
وهكذا صار بهم الأمر إلى اقتراح حلّ منح الحكاية بُعدها الشعبي المعروف، فلقد اقترحوا أن تنتخب كلّ بلدة (ديكاً) وفارساً، ومتى ما صاح الديك المختار في كلّ بلدة، انطلق الفارس على حصانه، حتى يلتقي بالفارس الآخر، وتكون تلك النقطة هي الفيصل في ترسيم الحدود المتنازع عليها بين المدينتين. أعدّت "فلورنسا" (ديكاً) أسودا، منعت عنه الرقاد والطعام أياّما حتى نال الضمور والهزال منه. بينما جاءت سيينّا بديك أبيض منعّم مرفه كبيضة خدر.
وفي اليوم الموعود بكّر (الديك) الفلورنسي بالصياح من فرط ما أمضّه الجوع، فانطلق الفارس الفلورنسي ينهب الأرض نهباً، أما الديك السيينّي فلم يشرع بالصياح إلا بعد أن انشقّ عمود الصبح، وانبلج الفجر وتبيّن الخيط الأبيض من الأسود، ولم يكد الفارس السيينّي يجتاز مسافة يسيرة حتى التقى الفارس الفلورنسيّ. ضمّت بعدها فلورنسا مقاطعة "كيانتي" إليها، ومنذ ذلك الحين وهي تفاخر بديكها الأسود الهزيل الضامر.
عندما دخلنا "سينّا" لأول مرّة، شعرت بأن القوم ينظرون إلينا بشيء من الوجل، كنّا لا نزال نستعيد الحكاية في السرّ حتى آل بنا الأمر إلى أن نرى (ديكاً) أبيضاً مرفّها ومنعّما فوق رأس كلّ سيينيّ، ولكنه لن يقضّ المضجع شأن (ديّكة) "كيانتي".
في ركن مطفأ في عاصمة الفنون "فلورنسا" يذهب الراسخون في علم المائدة الفلورنسيّة لتناول وجبة الغداء في مطعم "سوستانزا" الشعبي الشهير، وعند وصولنا إلى هناك، اقترح علينا النادل طبقا شهيّا من الدجاج معدّاً بالسمن البلدي، وهو طبق قديم قدم المسابقة بين المدينتين، وكم كان مبعث سرورنا أن يصبح هذا الطبق من أشهى الأطباق التي قدّمتها لنا إيطاليا، ولكن كانت دهشتنا كبيرة عندما علمنا من النادل نفسه كيف انتهى المطاف بديكة سيينّا وكيف صارت طبقا لذيذا على مائدة الفلورنسيين.
 

No comments:

Post a Comment