بعد أن تناولنا الإفطار في فندق "الساورة" الجميل بمدينة تاغيت، انطلقنا
إلى مطار بشار وأقلعت بنا الطائرة في اللحظة التي بدأ يتكون بها قوس قزح،
وفتحت السماء أبوابها لزخّات من المطر، فوصلنا إلى مطار بسكرا بعد مرور
ساعة ونصف الساعة، قضيناها في تبادل الأحاديث.
انطلقت بنا السيارات متوجهين إلى وادي "غوفي"، وكان الطريق متعرجاً،
متخماً بالمرتفعات والمنخفضات، من كان يصدّق أننا كنا نسير في قعر محيطات
قد تبخرّت، شاهدت أثر الماء في أشكال تلك الصخور، ولمّا عبرنا قرية شتمه،
قال الوزير محمد بو غازي: يقول أهلها أن أصل الكلمة شطّ الماء.
بعد قرابة ساعة ونصف الساعة، وصلنا إلى وادي "غوفي" الذي يقع في ولاية
"باتنة" ويسمى "وادي الأبيض"، ويعتبر من أجمل الأودية في العالم ، ويعرف
محلياً بــ''إغزر أملال''. ويمر عبر بلديات تيفلفال، ويتّسع في كامل
الولاية.
تقع قرية "غوفي" فوق تلة يتراوح ارتفاعها متدرجا ما بين 500 متر و1200
متر، وشرفات الغوفي تشبه جبال "روكي" و "جراند كانيون" في إيريزونا، وتتكون
من صخور رسوبية ومتحولة. وتم نحت منازل غوفي في الجبال ذاتها التي يخترقها
الوادي الأبيض "إغزر أملال"، وتأتي على شكل مساطب متدرجة من الصخر على
كامل الجبل.
وينساب الوادي المائي أسفل الشرفات، مانحا مع كل قطرة من مائه الحياة
للواحة، وبساتين المشمش والرمان والزيتون والعنب، وفواكه أخرى كثيرة. وهنا
تملكنا الفضول، فنزلنا إلى الأسفل بحوالي 60 مترا للتمتع بعذوبة المياه
الرقراقة والمتدفقة من أعالي الجبال.
ونزلنا إلى منتصف الوادي من خلال السلالم الحجرية المنحوتة في الجبل، وكان
منظر الشرفات من أسفل يجعل الزائر يتخيل وكأن قدميه وطئتا أرضاً لم يطأها
إنسان من قبل. وهنا ندرك سر تمسّك بعض العائلات التي اختارت البقاء والعيش
في هذا المكان مديرة ظهرها للحياة الحضرية التي يبدو وكأنها توقفت عند
أسوار شرفات غوفي بطبيعتها العذراء.
هنا تشعر وكأنك على كوكب آخر، ربما في وادي ميرنيرز العظيم في المريخ.
ولكن المؤكد أنك لست على كوكب الأرض، فالطبيعة هنا استثنائية وبعيدة عن كل
ما شاهدناه من قبل.
وهنا يبدو كل شيء ثابت وكأنه لم يتحرك منذ الأزل، قال لنا الدليل: هنا
صوّر الأخضر حامينا أغلب أفلامه، كما أنّه المكان الذي احتضن ثوّار
الجزائر. حتى الأحجار الصغيرة المتكسرة هنا، وبعض الصخور المتناثرة توحي لك
بالثبات، فتخالها راسخة في مواضعها ولكنها متغيرة. وسرعان ما تكتشف أن
الطقطقات المنبعثة من المسير ناتجة عن تكسر بقايا أصداف بحرية، وأن الوادي
الذي يبدو ساكناً كالجلمود كان في الأزمنة الغابرة عبارة عن بحر يزخر
بأنواع عديدة من مستحاثات على شكل أصداف ونجوم بحر وكائنات أخرى بحرية
متحجرة.
وهنا يوجد أيضاً الكثير من ترسبات المعادن كالزنك والنحاس والرصاص تحولت
بفعل السنين إلى حجارة شديدة اللمعان، وبأشكال جذابة تُستعمل في الديكور.
عدنا من وادي غوفي إلى ولاية بسكرا، وهي تلقب ببوابة الصحراء الكبرى، وتقع
بالجهة الجنوبية الشرقية من الجزائر العاصمة، وتبعد عنها نحو 400 كم
ويحدها من الشمال الجبال، والسهول تمتد من جهة الغرب والشرق، وتشتهر بأنواع
من التمور عالية الجودة. ولقد ورد ذكرها في كتابات "ابن خلدون" والأديب
الفرنسي "أندريه جيد" وغيرهم.
غادرنا الوادي الأبيض بعد أن استمتعنا برؤية أعجوبة من عجائب الأرض،
وتوجهنا إلى قرية "طولجة" حيث يوجد أفضل تمر لدقلة نور، وهو النوع الذي
يكاد يكون شفافاً وتظهر من خلاله نواة التمر دون أن تفتحها .
وصلنا إلى مزرعة الصديق / سليم حدّود .. كان المشوي على الطريقة المحلية
في انتظارنا، والخشخوشة ساخنة تنتظر من يلتهمها، وهي عبارة عن رقائق خبز
مسقية بالمرق كالفريد عندنا (الثريد)، وعليها قطع من اللحم المسلوق.
ولقد أخبرنا الصديق/ سليم بأن الرعاة المحليين هم الذين يقومون برعي قطعان
الماشية، ويشرفون على تربيتها، مقابل تملكهم عشرة بالمائة منها، وفي
الصيف، يتوجهون بها شمالاً، حيث السهول والأجواء أكثر اعتدالاً من صيف
"طولجة" القاسي، وتشتهر هذه الماشية باسم "ولاد جلاّل".
No comments:
Post a Comment