ليوناردو دافنشي: رحلات العقل
تترك الظلمة كما هي ولا تُبدد.
8-حدائق آل ميديتشي
لدينا بعض المعلومات المتفرقة حول "الوسط" الذي كان ليوناردو يتردد بين أفراده في فلورنسا- تلميذه توماسو وأتالانتي، وزميليه حرفياً كاميللي وبيلينسيوني: ومعلمه الفلسفي توسكانيللي وارجيروبولوس، وخليليه جاكوبو وفيورافانتي. كما نفترض أنّه كان على صلة بزملائه من الفنانين في المشهد الفلورنسي- بوتشيلي، وبولايولو، وغيرلاندايو، وبيروجينو، وكريدي، وفلبينو ليبي، وغيرهم- بيد أنّه لم يذكر أيٍّ منهم في كتاباته باستثناء بوتشيلي وكان ذلك بالكاد ذكراً.
(غادر فيروكيو فلورنسا إلى البندقية في 1480، وعلى حد علمنا لم يعد قبل وفاته عقب ذلك بثمان سنوات.) ونعرف أيضاً أنّ هنالك بعض المعارف من مستوىً أعلى، والذين يجوز أن نعتبرهم رعاة له- وهم عائلة بينشي، وبيرناردو روشيلاي، وربما غيرهم من أتباع أفلاطون المترفين الذين تضمهم ردهات مدرسة فيشينو في كاريجي. ولكننا لا نعرف أي شيء –في الغالب- عن علاقاته مع عائلة المدينة الأولى، وخصوصاً مع لورينزو دي ميديتشي.
فإن صدّقنا المجهول الجاديّ، فقد كان ليوناردو مؤثراً لدى لورينزو: " وعندما كان شاباً صغيراً كان مع لورينزو دي ميديتشي الرائع، والذي كان ينفق عليه، وقام بتوظيفه في الحدائق في ميدان سان مارك في فلورنسا." لقد اشترى لورينزو هذه الحدائق في 1480، كهدية لزوجته كلاريس، وقد كانت الحدائق ملك دير سان مارك، حيث كان لأفراد عائلة ميديتشي غرف خاصة جداً، أوكلت مهمة تزيينها للراهب انجيلكو، والتي كانوا يلجأون إليها للصلاة والتعبد. لقد صنع نوعاً من حدائق النحت هنا، وتحت إدارة بيرتولدو دي جيوفاني، الذي تتلمذ على يد دوناتيللو، وفنانين تمت دعوتهم لدراسة مجموعته الملهمة من التماثيل الكلاسيكية، وترميمها.
وكثيراً ما ترددت عبارة المجهول كحقيقة تأريخية، ولكني أعتقد أنّه من الضروري تناولها بحذر. فالحقيقة أنّ لورينزو قد آوى ليوناردو (استخدم المجهول تعبير stare con، والذي يعني بشكل عام "الإقامة مع") أما دفع تأمين المسكن عنه (provisione) فهذا مالم يذكره فازاري على الإطلاق. هنالك تباين مماثل بخصوص مسألة زيارة ليوناردو لميلانو في 1482. فبحسب شهادة المجهول فقد تم "إرسال" ليوناردو من قبل لورينزو، ولكن فازاري يقول بأنّه قد تلقى "دعوة" من لودوفيكو سفورزا. وقد كان فازاري هو الآخر يخضع لرعاية الدوق كوزيمو دي ميديتشي، وبكل تأكيد لن يتردد في أن ينسب إلى جد راعيه الشهير أي فضل كان يستحقه برعايته لموهبة الشاب ليوناردو. سيرة المجهول التي عرفها فازاري واستخدمها تعطيه فرصتين اثنتين لفعل ذلك الأمر، ولكنّه لم يأخذ بأيٍّ منهما. وقد حذف أية اشارة إلى تلقي ليوناردو دعماً من لورينزو، وناقض فكرة ابتعاث ليوناردو من قبل لورينزو عام 1482. وأشكّ في أن محو فازاري للورينزو من القصة كان بناء على بعض المعرفة بالأمر. فصمته في الغالب يصل إلى التصريح بأنّ- ليوناردو لم يتمتع بدعم لورينزو أو تشجيعه.
والسبب الآخر للارتياب في إفادة المجهول بشأن لورينزو وليوناردو هو أنّ العبارة سوف تصف بشكل صحيح رعاية لورينزو للشاب مايكل آنجلو بعد ذلك ببعض سنين. وعليه يقول فازاري: " كان مايكل آنجلو على الدوام يحمل مفاتيح الحديقة [حديقة سان مارك]..لقد عاش في كنف آل ميديتشي لأربع سنين.. ولقد أعطي غرفة، وكان يأكل في مائدة لورينزو، ويتلقى نفقة تبلغ 5 دوكات في الشهر." وقد كان كل هذا مدعوماً بالمصادر الأخرى: ربما كانت السنوات الأربع بين 1489-1492. وربما كان هو ذاته المجهول، يكتب بعد نصف قرن من الواقعة، تلتبس الأمور ببعضها، ولكنه اعتقد أنّ ليوناردو هو الذي كان يتمتع بتلك المزايا. لا أرغب في إزالة ليوناردو تماماً من عالم حديقة نحت لورينزو. فربما تمكن هو الآخر من دخولها- فقد تكون السمات النحتية للوحة القديس جيروم نتيجة مباشرة لذلك، وبذلك احتج بيترو ماراني وغيره. ولكن فكرة أنّ ليوناردو كان محظياً مفضلاً لدى لورينزو لم تكن قد ولدت بعد.
وبالتأكيد لم تكن الصلة بين ليوناردو وآل ميديتشي وليدة العمل مع فيروكيو- الاستعدادات لزيارة ميلانو عام 1471، ولوحة الرايات والأعلام للمبارزة، وصورة جنيفرا دي بينشي، التي كان لورينزو معجباً بها، وقطعة مذبح بيستويا في ذكرى أسقف ينتمي لعائلة ميديشي. ولكن يبدو أن طبيعة السيرة قد اختلفت حالما خرج من مجتمع ورشة فيروكيو. وفي عام 1476 تورط في قضية مثلية جنسية تسببت تداعياتها في الحرج لعائلة تورنابوني- عائلة أم لورينزو. وحملت السنة التالية فضيحة أخرى تقبلها لورينزو شخصياً، لتلميذ ليوناردو أو خادمه باولو. وفي 1478 تعهد ليوناردو بأداء مهمة لمجلس الشعب (مذبح القديس بيرناردو) ولكنه عجز عن الوفاء بتعهده. وفي 1479 وضع الرسومات التمهيدية لجسد جوليانو المشنوق، الرجل الذي نفذ اغتيال دي ميديتشي. ولكن –لم يتم تكليفه على ما يبدو- مثلما تم تكليف فيروكيو وبوتشيللي- لإنتاج قطعة بالحجم الكامل لغرض الترويج لآل ميديتشي. ولا يرقى أيٍّ من هذه الأعمال لمرتبة الدليل على رأي لورينزو السلبي حول ليوناردو، ولكن إن أُخذت جميعها معاً قد تصب في ذلك الاتجاه.
وفي عام 1481 يظهر مؤشر آخر، عندما أرسل لورينزو عدداً من الفنانين إلى روما، كجزء من مزاجه الطاريء للصداقة بين فلورنسا والبابوية. وقد كان الفنانون الذين اختاروا المساعدة بتزيين كنيسة سيستين حديثة البناء هم بيرجينو، وبتوتشيللي، وغيرلاندايو، وكوسيمو روسيللي. ويعود عقدهم المشترك لرسم عشر قصص أو مشاهد من الانجيل إلى تأريخ 27 أكتوبر 1481. وقد كان هذا التكليف فخماً لحد كبير، كما أنّه تكليف ذو قيمة كبيرة جداً: فقد تلقى غيرلاندايو 250 دوكات للوحته نداء القديس بيتر والقديس أندرو. وربما تم تجاوز ليوناردو لسبب عملي بحت (فهو لم يكن محترفاً للرسم على الجص: وكان مشغولاً بتكليف آخر)، ولكنّه يعزز من شعوري بأنّه لم يكن ضمن الفنانين المفضلين لدى لورينزو: كان ليوناردو يعتبر غير مسؤول إلى حد كبير، ومن الصعب التعامل معه وربما كان مجاهراً بمثليته الجنسية إلى الحد الذي لا يمكن معه أنّ يمثّل فلورنسا في دور السفير الثقافي هذا. وعليه فعلى الأقل في أكتوبر 1481، قد بدا له بينما يحزم غيره من الفنانين أمتعتهم ويممون شطر روما أنّهم أدنى شأناً.
وكتب ليوناردو في خريف عمره- ربما في روما حوالي 1515-" Li medici mi crearono e distrussono." وقد تكون ترجمة هذه العبارة : "صنعني آل ميديشي وهم من دمروني"، أو " الأطباء أحيوني ثم أهلكوني". والتفسير الأول قد يتضمن بالفعل أن ليوناردو قد تلقى الدعم من لورينزو في بداية مهنته، وعليه فهو "صنيعتهم"، ولكن قوله بأنّها من "دمرته" قد يكون غريباً جداً في 1515 عندما كان يعيش في روما على نفقة جوليانو ابن لورينزو، والذي كان على علاقة طيبة معه. للسطر معنى معيناً بحيث لا يستفز آل ميديتشي على الإطلاق. يصف ليوناردو الأطباء في موضع آخر بأنّهم "مدمرو الحيوات" (destruttori di vite)، ولقد كان كثير الانتقاد لمهنة الطبِّ بشكل عام. ولقد كان في ذلك الوقت في بدايات ستينياته، وكانت صحته تتدهور. وربما كان هنالك جناس في مكان ما من عقله بين الأطباء medici ,وعائلة Medici بينما كان يكتب هذا الشيء، ولكن السطر لا يمكن أن يعتبر دليلاً على رعاية لورينزو القائمة.
وهذا الفصل ليس إلا قطعة من دليل سلبي، كان دوماً عصياً على الإدراك، ولكني أعتقد أنّه يستحق تمحيص الجزم التقليدي العفوي بأنّ ليوناردو كان أحد محظيي آل ميديتشي في فلورنسا. فذكاءه كان ملحوظاً ولكن يستشعر المرء نبرة إقصاء: رجل شاب لم يكن متقبلاً بالقدر الكافي.
وهنالك رسم جانبي صغير بريشة ليوناردو يشبه لورينزو إلى حد كبير. إنّه أحد "جزئيات ويندسر" التي اقتطعت من صفحات مخطوطة أتلانتكس. وعلى أسس أساليبية فهي تعود إلى 1485 أو ما بعدها: أي بكلمات أخرى، فهي قد رسمت في ميلانو. ولذلك ربما كانت استحضاراً للرجل، ولكنه لم يرسمه من الطبيعة (dal vivo).
------------------------------------------------
ليوناردو دافنشي: رحلات العقل
تأليف: تشارلز نيكول
ترجمة: أميمة حسن قاسم
محاولة استعادة شيء من ليوناردو الإنسان هي مهمة هذا الكتاب- ذلك هو، ليوناردو الإنسان الحقيقي، الذي عاش في وقت حقيقي، وأكل أطباقاً حقيقية من الحساء، مقابل ليوناردو الرجل الخارق، متعدد التخصصات.
بتكليف ورعاية من الشاعر الإماراتي محمد أحمد السويدي، وبدافع من حب المعرفة والسعي لنشرها قامت القرية الإلكترونية بتوفير هذه النسخة من كتاب ليوناردو دافنشي: رحلات العقل | تأليف: تشارلز نيكول | ترجمة: أميمة حسن قاسم
وسوف نقوم بنشرها على حلقات تباعاً هنا في جوجل بلس نأمل أن تحوز إعجابكم وأن تكون مساهمة في #نشر_المعرفة
صفحتنا الرسمية في فيس بوك :
منصتنا في جوجل بلس لمتابعة باقي مشروعاتنا
(جميع الحقوق محفوظة)
No comments:
Post a Comment