Thursday, March 7, 2019

قصة سان ميشيل لأكسِل مونتي - الحلقة رقم 23 - جراند أوتيل





قصة سان ميشيل لأكسِل مونتي
                                       ترجمة:  علي كنعان
الحلقة رقم (23) 
XXIV

جراند أوتيل 

يوم قدم الدكتور بلكينغتون نفسه إلي عميدا للأطباء الأجانب، فقد كان مغتصبا اللقب من رجل آخر، أعلى بكثير منا جميعا، نحن الأطباء الأجانب في روما. دعني أكتب اسمه بحروف كاملة هنا كما هي مكتوبة في ذاكرتي بأحرف من ذهب: الدكتور إرهارت العجوز، واحد من أفضل الأطباء، ومن أفضل الرجال طيبي القلب الذين التقيتهم في حياتي. إنه أحد  الناجين من روما الزائلة أيام بيو نونو( 1)، شهرته استمرت على حالها طوال ما يزيد عن أربعين سنة من العمل في المدينة الخالدة. ومع أنه تجاوز السبعين، فهو ما يزال محافظا تماما على نشاطه العقلي والجسدي، مواظبا على عمله ليل نهار، وجاهزا دائما لمساعدة الأغنياء والفقراء، فالجميع لديه سواء. إنه أكمل نموذج رأيته في حياتي من أطباء الأسرة في الأوقات الماضية، أما اليوم فقد انقرضوا تقريبا ـ وهذا أسوأ ما في معاناة البشر. كان من المستحيل ألا تحبه، ومن المستحيل ألا تثق به. وأنا متأكد أنه لم يكن له أي عدو إطلاقا أثناء حياته المديدة ما عدا الدكتور باتشيلي. كان ألماني المولد، ولو كان كثيرون مثله في بلاد الآباء في 1914 لما كانت هناك حرب إطلاقا.
وسيبقى سرا غامضا لدي دائما أن كثيرا من الناس، حتى من بين مرضاه السابقين، يندفعون إلى دار كيتس طالبين النصيحة مني ما إذا كان إنسان مثل إرهارت العجوز يعيش في الميدان ذاته. كان الوحيد الذي اعتدت أن أستشيره من بين زملائي في حالة الشك، وكان دائما يثبت أنه مصيب وأنا نادرا ما كنت على صواب، لكنه لم يخذلني أبدا، بل كان يساندني كلما كانت لديه فرصة وغالبا ما كانت كافية. ربما لم يكن مطلعا نوعا ما على حيل الشعوذة في مهنتنا وظل متحفظا إزاء كثير من أحدث أدويتنا العجيبة المسموح بها من جميع البلدان والمعتقدات. لكنه كان يستعمل صيدليته القديمة التي اختبرها جيدا بمهارة الأستاذ، وعيناه الثاقبتان تتحريان أي خلل حيثما كان متواريا، وما من أسرار تبقى في الرئة أو القلب حالما يضع السماعة على أذنه العجوز. ولم يغب عن فطنته أي اكتشاف جديد ذي أهمية. وكان مهتما جدًّابعلم الجراثيم والمداوة بالمصول، وهو علم جديد في ذلك الوقت، وكان على معرفة بطريقة باستور كما كنت في أقل تقدير. وكان أول طبيب في إيطاليا يستعمل مصل بيرنغ التجريبي ضد الدفتيريا، ولم يكن خارج مرحلة التجريب، وغير مرخص للجمهور، لكنه ينقذ الآن مئات ألوف الأطفال كل سنة.
وأنا لست ميالا إلى نسيان تجربته هذه. ولقد استدعيت في مساء متأخر إلى جراند أوتيل برسالة ملحة من وجيه أميركي مع توصية من البروفيسور ويرـ ميتشيل. قابلني في البهو رجل قصير غاضب النظر وأخبرني في هياج شديد أنه وصل من باريس قبل قليل في الدرجة الأولى بالقطار. وبدلا من الغرف التي حجزها بأفضل أثاث، حشر هو وعائلته في حجرتين صغيرتين بسريرين دون فسحة للجلوس ولا حتى حمام. برقية المدير التي تفيد أن الفندق كان ممتلئا أرسلت متأخرة جدًّاولم تصل. وقد أبرق إلى ريتز ليحتج ضد هذا النوع من المعاملة. والأسوأ من ذلك، أصيب ابنه الصغير بالحمى، وكان على زوجته أن تسهر معه طول الليل في القطار، فهل يمكن أن أتفضل وآتي لأراه حالا؟ كان هناك طفلان نائمان في سرير واحد، وجها لوجه، وشفاههما متلامسة تقريبا. نظرت إلي الأم بقلق وقالت إن الولد غير قادر على ابتلاع حليبه، وهي تخشى أن يكون بلعومه ملتهبا. كان الولد يتنفس بصعوبة وفمه مفتوح على اتساعه، ووجهه أزرق تقريبا. وضعت الطفلة الصغيرة وهي نائمة على سرير الأم، وقلت لها إن الولد مصاب بالدفتيريا وسأرسل في طلب ممرضة فورا. قالت إنها تريد أن تشرف على الطفل بنفسها. بقيت الليل بطوله أسحب إفرازات الدفتريا من حلق الولد، وكان على وشك الاختناق. ومع اقتراب الفجر أرسلت في طلب الدكتور إرهارت ليساعدني في إجراء فتحة في الرغامى، فالولد كان على حافة الاختناق. وكان القلب في حالة سيئة حتى إنه لم يستطع أن يعطيه المخدر، وقد ترددنا معا في إجراء العملية، فقد خفنا أن يموت الولد تحت المبضع. أرسلت في طلب والده، وحالما سمع كلمة الدفتيريا، ولى هاربا من الغرفة، وبقية مناقشتنا كانت من شق الباب الموارب. لم يكن يرغب أن يسمع بعملية، وتحدث عن استدعاء جميع أطباء روما المتميزين لأخذ رأيهم. قلت إن هذا غير ضروري وهو متأخر أكثر من المحتمل، وظل قرار إجراء العملية أو عدم إجرائها بين إرهارت وبيني. لففت الطفلة الصغيرة بحرام وطلبت منه أن يأخذها لغرفته. قال إنه سيدفع مليون دولار لينقذ ابنه، فقلت له إنها ليست مسألة دولارات وصفقت الباب في وجهه. وبقيت الأم بجانب السرير، تراقبنا والرعب في عينيها، قلت لها إن العملية ينبغي أن تجرى في أية لحظة، ولن نتمكن من إحضار ممرضة قبل ساعة على الأقل، وأن عليها أن تساعدنا. أومأت رأسها بالموافقة دون أن تقول كلمة، وجهها تقلص بجهد لكي تكبح دموعها، كانت امرأة شجاعة ولطيفة. وبينما كنت أضع منشفة نظيفة على الطاولة تحت المصباح وأجهز الأدوات، أخبرني إرهارت أنه بفضل تزامن غريب استلم في ذلك الصباح ذاته عبر السفارة الألمانية عينة من مصل بيرنغ الجديد ضد الدفتيريا أرسل إليه من المختبر بطلب منه. وكنت على علم مسبق أن العديد من العيادات الألمانية جربته بنجاح غير عادي. فهل نجرب المصل؟ لا وقت للنقاش، فالصبي كان في حالة تدهور بسرعة، وتصورنا معا أن الفرصة محدودة جدا. وعزمنا على حقن المصل بموافقة الأم. كان رد الفعل مروعا فورا. فقد أصبح جسمه كله أسود، وقفزت حرارته إلى مئة وست درجات، وانخفضت فجأة إلى ما تحت العادي في نوبة ارتعاش عنيف. وراح ينزف من أنفه وأمعائه، وغدا عمل القلب مضطربا جدا، وبدأت تظهر أعراض الانهيار. لم يغادر أحد منا الغرفة طوال النهار، فقد كنا نتوقع وفاته في أي لحظة. وأمام دهشتنا صار تنفسه أهدأ مع اقتراب المساء، وبدا أن حالة الحلق الموضعية صارت أفضل نوعا ما، وقل اضطراب النبض. رجوت إرهارت العجوز أن يذهب إلى بيته، للنوم ولو ساعتين، فقال إنه مهتم بمراقبة الحالة إلى درجة أنه لا يحس بالتعب. ومع وصول الأخت فيلبيني، الراهبة الإنجليزية السوداء، وهي أفضل الممرضات اللواتي عملن لدي، انتشرت إشاعة الدفتيريا في الطابق الأعلى كحريق هائل في جميع الفندق المحتشد. وأرسل إلي المدير كلمة بأننا يجب أن ننقل الصبي إلى مستشفى أو مأوى للرعاية. وأجبت أننا لا يمكن، لا إرهارت ولا أنا، أن نتحمل المسؤولية لأنه سيموت في الطريق بالتأكيد. وإلى جانب ذلك، لم نكن نعرف أي مكان نأخذه إليه، لأن إجراءات التعامل مع مثل هذه الحالة الطارئة كانت في تلك الأيام غير كافية إلى حد المستحيل. وبعد لحظة أخبرني مليونير بتسبورغ عبر فتحة الباب أنه أمر المدير أن يخلي الطابق الأعلى بكامله على حسابه لأنه كان يفضل أن يشتري جراند أوتيل كله على أن يجازف بنقل ابنه وتعريض حياته للخطر. وفي المساء بدا واضحا أن الأم التقطت العدوى. وفي الصباح التالي جرى إخلاء جناح الطابق الأعلى بكامله. وحتى الندل وخادمة الغرف لاذوا بالفرار. ولم يكن هناك إلا السنيور كورناتشيا، متعهد دفن الموتى، يجوس صاعدا هابطا الممر المهجور وقبعته الرسمية في يده. وبين حين وآخر كان الأب يتطلع من خلال فتحة الباب وهو على وشك الجنون من الرعب. كانت حالة الأم تزداد سوءا لحظة بعد أخرى، فنقلت إلى الغرفة المجاورة تحت إشراف إرهارت وممرضة أخرى، وأنا والأخت فيلبيني بقينا مع الصبي. ومع اقتراب الظهيرة انهار ومات بشلل القلب. وكانت حالة الأم حينئذ حرجة جدًّا حتى إننا لم نجرؤ على إخبارها فقررنا أن ننتظر إلى الصباح التالي. ولما أخبرت الأب أن جثمان الصبي يجب أن يؤخذ إلى مستودع جثث المقبرة البروتستنتية في المساء ذاته ويجب دفنه خلال أربع وعشرين ساعة، ترنح وأوشك أن يتهاوى بين ذراعي السنيور كورناتشيا الذي وقف منحنيا باحترام إلى جانبه. قال إن زوجته لن تغفر له ترك الصبي في بلاد غريبة، فهو ينبغي أن يوارى في مدفن العائلة في بتسبورغ. أجبت أن هذا مستحيل، إن ذلك ممنوع قانونا فلا يمكن إرسال الجثمان بعيدا في مثل هذه الحالة. وبعد لحظة ناولني مليونير بتسبورغ من خلال فتحة الباب شيكا بألف جنيه لأتصرف به كما أشاء، وكان راغبا أن يوقع شيكا آخر بأي مبلغ أريد لكن الجثمان يجب أن يرسل إلى أميركا. أغلقت على نفسي الباب في غرفة أخرى مع السنيور كورناتشيا وسألته عن السعر التقريبي لجنازة وقبر من الدرجة الأولى في المقبرة البروتستنتية. قال إن الوقت صعب، فقد ارتفعت أسعار التوابيت مؤخرا، وهذا ما زاد الأمر سوءا بسبب التناقص غير الملحوظ في عدد الزبائن. إنها مسألة شرف بالنسبة إليه أن يجعل الجنازة ناجحة، وعشرة آلاف لير يمكن أن تغطي كل شيء ومن ضمنه الإكراميات. وهناك أيضا حفار القبر الذي لديه ثمانية أطفال، والورود ستكون إضافية. واتسعت بوضوح  حدقتا السنيور كورناتشيا الجاحظتان الماكرتان حالما أخبرته أني مخول أن أعطيه ضعفي ذلك المبلغ إذا استطاع أن يدبر إرسال الجثمان إلى نابولي ليوضع على الباخرة التالية إلى أميركا. أردت جوابه في ساعتين، وأنا أعلم أن ذلك ضد القانون، وعليه أن يستشير ضميره. وأنا كنت قد استشرت ضميري وقررت تحنيط الجثمان بنفسي في تلك الليلة وجعلتهم يلحمون التابوت الرصاص بحضوري. وبعد أن أقنعت نفسي باستبعاد خطر العدوى، مضيت لتوقيع وثيقة الوفاة بأن سبب الموت تعفن ذات الرئة أعقبه شلل القلب، لاغيا كلمة الدفتريا. وقد أخذت استشارة السنيور كورناتشيا لضميره أقل من المتوقع، ورجع بعد ساعة وقد قبل الصفقة بشرط أن يدفع نصف المبلغ بلا وصل استلام، فناولته المال. وبعد ساعة أجريت مع إرهارت عملية فتح الرغامى للأم، ولا شك أن العملية أنقذت حياتها.

إن ذكرى تلك الليلة ما تزال تنتابني كلما قمت بزيارة تلك المقبرة الصغيرة الجميلة بالقرب من سان باولو. كان جيوڤاني، حفار القبور، يقف بانتظاري لدى البوابة ومعه مصباح. ومن طريقته في تحيتي تهيأ لي أنه عب كأسا إضافية من النبيذ ليكون ثابت العزم في عمله الليلي. كان عليه أن يكون مساعدي الوحيد، وكانت لدي أسبابي الوجيهة في ألا أحتاج أحدا سواه. كان الليل عاصفا ومظلما جدًّا مع رشقات من المطر. وأطفأت المصباح هبة ريح مفاجئة، وكان علينا أن نتلمس طريقنا بأفضل ما يمكن في ذلك الظلام الدامس. وفي منتصف الطريق عبر المقبرة تعثرت قدمي في تربة مقلوبة وهويت في قبر نصف محفور. قال جيوڤاني إنه قام بحفره بعد ظهر ذلك اليوم بأمر من السنيور كورناتشيا، ومن حسن الحظ أنه لم يكن عميقا جدا، وكان قبر صبي صغير.
لقد تبين لي أن التحنيط كان صعبا وحتى خطرا أن أقوم به. فالجسد كان قد دخل في حالة متقدمة من التعفن. لم يكن النور كافيا، ومما أثار رعبي أني جرحت نفسي في الإصبع جرحا سطحيا. واستمرت بومة كبيرة تنعب طوال الوقت وراء هرم سيستيوس، وأنا أتذكره جيدا لأنه كان المرة الأولى التي بدا فيها الصوت مؤذيا لي، أنا الذي كنت محبا جدًّا للبوم.
عدت إلى جراند أوتيل في الصباح باكرا. كانت الأم قد أمضت ليلة حسنة، حرارتها نزلت إلى الوضع الطبيعي، واعتبر إرهارت أنها تجاوزت مرحلة الخطر. كان من غير الممكن أن نؤجل وقتا أطول إخبارها أن ابنها مات. ولم يكن إرهارت ولا الأب قابلا أن يخبرها فقد وقع علي أن أقوم بذلك. قالت الممرضة إنها تظن أنها على علم مسبق بذلك. فبينما كانت جالسة بجانبها، استيقظت الأم فجأة من نومها وحاولت أن تقفز من السرير بصرخة فاجعة، لكنها أصيبت من جديد بإغماء. حسبت الممرضة أنها ماتت فاندفعت لتخبرني حينما دخلت  وقلت إن الصبي مات في تلك اللحظة. كانت الممرضة مصيبة في اعتقادها. وقبل أن ألتقط أنفاسي لأتكلم تطلعت الأم مباشرة في عيني وقالت إنها تعرف أن ابنها مات. بدا إرهارت محطما تماما بموت الصبي، ولام نفسه للإشارة باستعمال المصل. وقد بلغ من كمال هذا الرجل العجوز واستقامته أنه أراد أن يكتب رسالة للأب متهما نفسه بأنه هو السبب تقريبا في  وفاة ابنه. قلت له إنها مسؤوليتي، فأنا كنت متوليا أمر العناية بحالته، وإن مثل تلك الرسالة سيجعل الأب فاقد العقل كليا، فهو الآن نصف مجنون. وفي الصباح التالي نقلت الأم بعربتي إلى بلو سِسترز حيث نجحت في إيجاد غرفة لطفلتها الصغيرة وزوجها. ومن شدة  خوفه من الدفتريا منحني خزانة ملابسه كلها، صندوقين كبيرين ممتلئين بالثياب، بغض النظر عن معطفه الإرلندي الفضفاض وقبعته الرسمية. كنت مبتهجا بذلك، فالثياب المستعملة غالبا ما تكون أكثر فائدة من المخدرات. لقد أقنعته بصعوبة أن يحتفظ بساعة المنبه، وبارومير الجيب المعدني ما زال في حوزتي. وقبل مغادرة الفندق، سدد مليونير بتسبورغ بلا أي اهتمام الفاتورة الباهظة التي جعلتني ذاهلا. وأشرفت بنفسي على تطهير  الغرف، متذكرا حيلتي في أوتيل ڤكتوريا في هيدلبيرغ، وأمضيت ساعة زاحفا على ركبتي في الغرفة لأفك سجادة من صنع بروكسل كانت مسمرة على الأرضية. وكان بعيدا عن إدراكي في تلك اللحظة أن يبقى أي حيز شاغرا في رأسي للتفكير بأولئك الأخوات الصغيرات من الفقراء. وما زلت قادرا أن أرى وجوه موظفي الفندق حين أمرت بنقل السجادة إلى عربتي وأخذها إلى مؤسسة التطهير في البلدية لدى الأڤنتين. وقلت للمدير إن مليونير بتسبورغ أهداني السجادة تذكارا، بعد أن دفع أكثر من ثلاثة أضعاف سعرها.
وأخيرا قدت عربتي إلى البيت في ميدان اسبانيا. وكنت قد ألصقت على الباب الخارجي ملاحظة بالفرنسية والإنجليزية تفيد أن الدكتور مريض، الرجاء مراجعة الدكتور إرهارت، ميدان اسبانيا 28. أخذت حقنة تحت الجلد ذات ثلاث جرعات مورفين وانطرحت على  الأريكة في غرفة المعاينة وحنجرتي متورمة وحرارتي مئة وخمس درجات. كانت آنا خائفة تماما وقلقة جدًّاوراغبة في طلب الدكتور إرهارت. قلت لها إني على ما يرام، وكل ما أريد أربع وعشرون ساعة من النوم، وما عليها أن تزعجني ما لم يندلع في البيت حريق.
أخذ المخدر المبارك ينشر النسيان والسلام في دماغي المرهق، وحتى الرعب الذي انتابني من جرح إصبعي تهاوى بعيدا عن أفكاري المخدرة. وغرقت في النوم. فجأة بدأ جرس الباب الخارجي يقرع بإلحاح وغيظ. وسمعت من الصالة صوتا مرتفعا لامرأة من جنسية لا يمكن أن أخطئها تجادل آنا بإيطالية مكسرة.
"الدكتور مريض، أرجوك راجعي الدكتور إرهارت في الباب المجاور".
لا، يجب أن تتحدث مع الدكتور مونتي في أمر ملح جدا.
"الدكتور في سريره، أرجوك انصرفي".
لا، يجب أن تراه حالا،"خذي له بطاقتي".
"الدكتور نائم، أرجوك..".
نائم، مع ذلك الصوت الرهيب زاعقا في الصالة، لا.. ليس أنا!
"ماذا تريدين؟"
لم تستطع آنا أن تمنعها، رفعت الستارة عن غرفتي، صورة مفعمة بالصحة، قوية كحصان، إنها مسز شارلز و. واشنطن لومنغفيلو بيركنغ ، جونير.
"ماذا تريدين؟"
كانت تريد أن تعرف إن كان هناك أي خطر بالتقاطها الدفتريا في الجراند أوتيل، لأنها أعطيت غرفة في الطابق الأعلى، هل صحيح أن الصبي مات في الطابق الأول، فلا ينبغي لها أن ترتكب أي مجازفة.
"ما هو رقم غرفتك؟"
"ثلاثمئة وخمسة وثلاثون".
"ابقي حيث أنت، في جميع الأحوال. إنها أنظف غرفة في الفندق كله، فقد طهرتها بنفسي. وهي الغرفة التي مات فيها الصبي".
وارتميت في السرير من جديد، وبدا لي من خلال السرير أن المخدر باشر عمله مرة أخرى.
ورن جرس الباب الخارجي مرة ثانية. ومن جديد سمعت الصوت الذي لا يرحم ذاته، وهي تخبر آنا في الصالة أنها تذكرت في الحال سؤال آخر وقد جاءت لتسألني، وهو في غاية الأهمية.
"ألقي بها إلى أسفل الدرج"، صرخت غاضبا بآنا، وهي بنصف حجمها. 
لا، لن تذهب، لا بد أن تسألني ذلك السؤال.
"ماذا تريدين؟"
"كسرت سني، وأخشى أن أضطر لخلعه، ما اسم أفضل طبيب في روما؟"
"يا مسز واشنطن بيركنز، جونير، هل تسمعينني؟"
نعم، تستطيع أن تسمعني تماما بشكل جيد.
"مسز بيركنز، جونير، أنا آسف لأول مرة في حياتي لأني لست طبيب أسنان، وكم كنت أود أن أنتزع أسنانك كلها".


------------------
( 1)Pope Pius IX  (1792- 1878) البابا بيو التاسع، ظل في كرسي البابوية 31 سنة. (G)
--------------------

هذه الملحمة الإنسانية  لاكسيل مونتي يصعب أن نَفيها حقها في مقالة موجزة، خاصة وهو يعبر بعمق وألم عن المعركة الدائرة بين الموت والحياة... فالمعركة منظمة في أدق تفاصيلها وفق قانون من التوازن بين الحياة والموت لا يقبل التغيير... لذا أترك للقارئ متعة قراءتها، كما استمتعت. محمد أحمد السويدي
بتكليف ورعاية من الشاعر الإماراتي محمد أحمد السويدي، وبدافع من حب المعرفة والسعي لنشرها قامت القرية الإلكترونية بتوفير هذه النسخة من قصة سان ميشيل مترجمة باللغة العربية – ترجمها علي كنعان. (جميع الحقوق محفوظة)
صفحتنا الرسمية في فيس بوك :
منصتنا في جوجل بلس لمتابعة باقي مشروعاتنا 

No comments:

Post a Comment