Thursday, March 7, 2019

قصة سان ميشيل لأكسِل مونتي - الحلقة رقم 19 - الأرق





قصة سان ميشيل لأكسِل مونتي
                                       ترجمة:  علي كنعان
الحلقة رقم (19) 
XX

الأرق

دعاني نورستروم بكل مراعاته اللطيفة المعتادة إلى العشاء مساء ذلك اليوم الحاسم. كان عشاء كئيبا، وأنا ما أزال مكروبا تحت ذل هزيمتي، وقد جلس نورستروم يحك رأسه في تأمل صامت كيف سيدبر الثلاثة آلاف فرنك الواجب دفعها لصاحب أرضه في اليوم التالي. لقد رفض نورستروم بصراحة أن يقبل تعليلي لنكبتي- حظ سيئ وأعظم تدخل غير متوقع من انعدام التبصر رغم خططي المعدة بعناية. كان تشخيص نورستروم لحالتي بأنها تهور دونكيشوتي وخديعة بلا حدود. قلت: كان ممكنا أن أقبل تشخيصه، لو لم أتلقَّ في ذلك اليوم بعينه إشارة ما من ربة الحظ، إلهتي المحبوبة، بأنها تشعر بالأسف لتخليها عني وأنها ستعود لتشملني برعايتها. ولما نطقت بتلك الكلمات، تحولت عيناي بأعجوبة من زجاجة الميدوك بيننا إلى يدي نورستروم العملاقتين.
سألته فجأة: "هل اهتممت يوما في التدليك؟"
وأبلغ جواب أن نورستروم فتح يديه العريضتين الأمينتين وأراني بكبرياء عظيمة كرتي الإبهامين،  وكل منهما بحجم برتقالة. وما من ريب في أنه كان يتكلم بصدق، حين قال إنه عمل طويلا بالتدليك في الأيام الخالية في السويد. طلبت من النادل زجاجة من ڤيڤ( 1) كليكو، وهو أفضل شراب يمكن أن يضع يديه عليه، ورفعت كأسي لأشرب نخب هزيمتي ونخب انتصاره غدا.
"أظن أنك قلت لي قبل قليل أن ليس معك نقود"، قال نورستروم وهو ينظر إلى زجاجة الشمبانيا.
قلت ضاحكا: "لا تشغل بالك. فكرة مشرقة انبثقت منذ لحظة في دماغي، وهي تستحق مئة زجاجة من ڤيڤ كليكو. خذ كأسا أخرى وأنا أعمل على تحقيقها".
لقد اعتاد نورستروم أن يقول دائما إن لدي دماغين مختلفين في رأسي يعملان بالتناوب، الدماغ المتطور جيدا لأحمق والدماغ غير المتطور وهو من نوع العبقري. وحدق إلي محتارا وأنا أقول له إني سأجيء إلى شارع بيغال غدا في ساعة استشاراته بين الثانية والثالثة لأوضح له كل شيء. قال إنها أفضل ساعة لحديث هادئ. وكنت متأكدا أني سأجده وحيدا. وغادرنا مقهى ريجنس وذراعانا متشابكتان، ونورستروم ما زال يفكر بأي واحد من الدماغين قد انبثقت الفكرة، وأنا في مزاج ممزق، وكنت قد نسيت تقريبا أني طردت من السلبيتريير في الصباح.
وفي تمام الساعة الثانية من اليوم التالي دخلت عيادة الأستاذ جوينو دي ماسي الفخمة في شارع السيرك، وهو طبيب مشهور من أسرة أورليان التي شاركها في المنفى- وهو اليوم من أشهر الأطباء البارزين في باريس. وهذا الأستاذ الذي كان دائما كريما جدًّا معي، سألني ماذا في وسعه أن يعمل من أجلي. قلت له إنه شرفني، حين زرته قبل أسبوع، بأن عرفني على سعادة دوق أومال، بينما كان يغادر الغرفة مستندا إلى خادمه وهو متكئ على عكازه ويعرج بشدة. وقد أخبرني أن الدوق يعاني من ألم عرق النسا وركبتاه خائرتان، ولا يكاد يقوى على السير، وأنه استشار جميع الجراحين المتميزين في باريس دون جدوى. وقلت إني جازفت بالمجيء اليوم لأعلم الأستاذ أن الدوق يمكن أن يعالج بالتدليك، إذا لم أكن مخطئا جدا. إن أحد مواطني، وهو خبير جيد في عرق النسا والتدليك، وهو عمليا في باريس، وأرجو المعذرة للتجرؤ على أن أقترح بأن يستدعى لفحص الدوق. وكان جوينو دي ماسي، مثل معظم الأطباء النفسيين في عصره، لا يعرف أي شيء عن التدليك، فوافق فورا. وبما أن الدوق كان سيتوجه إلى قصره في شانتيلي غدا فقد اتفقنا على أن آتي حالا مع مواطني المتألق إلى فندقه في ضاحية سان جرمان. وفي أصيل ذلك اليوم وصلنا، نورستروم وأنا، إلى الفندق حيث قابلنا الأستاذ جوينو دي ماسي. ولقد أرشدت نورستروم أن يحاول أفضل ما يمكن لكي يبدو مختصا في عرق النسا، ولكن كرمى لله أن يتجنب المحاضرة في الموضوع. ومن خلال معاينة سريعة، اتضح لنا كلينا أنها حالة ممتازة فعلا للتدليك والحركات الهامدة. وفي اليوم التالي غادر الدوق إلى ضاحية شانتيلي وبرفقته نورستروم. وبعد أسبوعين قرأت في "الفيغارو" أن الاختصاصي السويدي الشهير الدكتور نورستروم ذا المكانة العالمية المرموقة قد دعي إلى شانتيلي ليشرف على صحة دوق أومال. وقد شوهد سعادته يمشي بلا مساعدة في حديقة قصره، وكان تماثله للشفاء أعجوبة. ويقوم الدكتور نورستروم أيضا بعلاج دوق مونبنسييه المقعد بسبب النقرس من سنين وهو اليوم يتحسن بسرعة.
   بعد ذلك جاء دور الأميرة ماتيلد، وتلاها في الحال دون بيدرو من البرازيل، واثنان من الغرندوق الروس، وأرشيدوقة نمساوية وإنفانتا( 2) يولاليا من اسبانيا.
وصديقي نورستروم الذي صار يطيعني طاعة عمياء بعد عودته من شانتيلي، منعته أن يقبل أي مريض إلا من الأسر الملكية حتى نعتمد ترتيبات أخرى. وأكدت له أن هذا هو التكتيك السليم، القائم على حقائق سيكولوجية متينة. وبعد شهرين عاد نورستروم إلى شقته الأنيقة في شارع  هوسمان، وكانت غرفة الاستشارة مزدحمة بالمرضى من جميع البلدان، والأميركيين في رأس القائمة. وفي الخريف ظهر "كتيب التدليك السويدي" من تأليف الدكتور غوستاف نورستروم، عن مكتبة هاشيت في باريس، وقد قمنا بتلفيقه بسرعة محمومة من مصادر سويدية مختلفة، وفي الوقت ذاته ظهرت نسخة أميركية في نيويورك. وفي أوائل الشتاء دعي نورستروم إلى نيوبورت ليعتني بالسيد ڤندربلت العجوز، وهو الذي سيحدد الأجرة. ورغم فزعه، أمرته أن يذهب، وبعد شهر جرى نقل المليونير الكبير بحرا إلى أوروبا ليأخذ مكانه بين مرضى نورستروم الآخرين – إعلان حي بأحرف ضخمة، مرئية في جميع أرجاء الولايات المتحدة. كان نورستروم منهمكا في عمله الشاق من الصباح حتى الليل وهو يدلك مرضاه بإبهاميه الضخمين، وقد اتخذت كرتا  إبهاميه بالتدريج حجم بطيخة صغيرة. وفي الحال كان عليه أن يتخلى عن أمسيات السبت في النادي الاسكنديناڤي حيث اعتاد أن يجري مع السيدات، كل بدورها، وهو يتصبب عرقا من أجل الكبد. وكان يقول ما من شيء يحافظ على الكبد سليما كالرقص والتعرق.

لقد جعلني نجاح نورستروم سعيدا بعض الوقت إلى درجة أني كدت أنسى مذلتي. يا حسرة، لقد ارتدت سريعا علي بكل رعبها، أولا في أحلامي، ثم في أفكار يقظتي. وفي حين أكون على وشك الاستغراق بالنوم، غالبا ما كنت أرى تحت أجفاني المغلقة المشهد الأخير المخزي من مأساتي قبل أن يجري إسدال الستارة على مستقبلي. كنت أرى عيني شاركو الرهيبتين تومضان عبر الظلمة، وأرى نفسي مخفورا بين اثنين من مساعديه كمجرم بين شرطيين، مطرودا من السلبيتريير لآخر مرة. كنت أرى حماقتي، وقد فهمت أن تشخيص نورستروم – "تهور دون كيخوتيّ وخديعة بلا حدود" – كان صحيحا برغم كل شيء. دون كيخوتِه مرة ثانية!
وسرعان ما حرمت من النوم تماما، وداهمني أرق حاد، مرعب إلى حد أنه جعلني على وشك أن أفقد عقلي. والأرق لا يقتل الإنسان إن لم يقتل نفسه – فعدم النوم أكثر أسباب الانتحار شيوعا. لكنه يقتل بهجته بالحياة، يوهن قوته، ويمتص الدم من دماغه ومن قلبه كمصاص الدماء. يجعله يتذكر أثناء الليل ما يريد أن ينساه في يوم سعيد. ويجعله ينسى أثناء النهار ما كان يريد أن يتذكره. الذاكرة هي أول ما يطرح خارج المركب، الصداقة، الحب، الشعور بالواجب، وحتى الشفقة ذاتها سرعان ما تجرف بعيدا، واحدة بعد أخرى. إن القنوط وحده يبقى ملتصقا بالمركب المحكوم بالتلف ليحطمه على الصخور في دمار كلي. لقد كان ڤولتير محقا حين وضع النوم في مستوى الأمل ذاته.

لم أفقد عقلي، ولم أقتل نفسي. واصلت عملي بانتظام بأقصى ما أستطيع، بلا اهتمام، بلامبالاة مهما جرى لي ومهما جرى لمرضاي. حذار من طبيب يعاني الأرق! لقد بدأ مرضاي يشكون من أني خشن ونافد الصبر معهم، وكثير منهم تركني، وكثير ظل يتردد علي وكان نصيب هؤلاء أسوأ ما بدر مني. ويبدو أني لم أكن لأصحو من سباتي إلا حين كانوا يشرفون على الموت، لأني بقيت مدة طويلة أولي اهتماما شديدا بالموت، بعد أن فقدت كل اهتمام بالحياة. وكنت ما أزال قادرا على مراقبة اقتراب زميلي العبوس بالحماسة ذاتها التي اعتدت أن أراقبه بها يوم كنت طالبا في صالة القديسة كلير، راجيا أن أنتزع منه سره الرهيب، وليس هناك من رجاء. وكنت ما أزال قادرا أن أجلس الليل بطوله إلى جانب سرير مريض يموت بعدما أهملته حين كان في مقدوري أن أنقذه. لقد اعتادوا أن يقولوا أني كنت لطيفا جدًّا أن أسهر هكذا طوال الليل بينما الأطباء الآخرون قد غادروا. ولكن ما الفرق لدي بين أن أجلس على كرسي بجانب سرير أحدهم أو أستلقي يقظا في سريري؟ ومن حسن حظي أن نفوري المتزايد من المخدرات والمسكنات أنقذني من دمار كلي، ونادرا ما تناولت أي جرعة من جرعات النوم المتعددة التي كان علي أن أكتبها طوال اليوم للآخرين. وكانت روزالي مستشاري الطبي. كنت أبتلع بانصياع جرعة بعد أخرى من منقوع أعشاب التيزان( 3) العجيبة، الذي تعده بنفسها من مخزونها الصيدلاني الذي لا ينضب. وكانت روزالي قلقة جدًّا بشأني. ولقد تبين لي أنها اعتادت، وبمبادرة خاصة منها في الغالب، أن ترسل مرضاي بعيدا عني حين تحسب أني مرهق جدا. لقد حاولت أن أغضب، لكن لم يكن لدي بقية من قوة لأعنفها.
ونورستروم أيضا كان قلقا جدًّا علي. لقد تغير الآن وضعنا المتبادل، فهو كان يصعد سلم النجاح الزلق وأنا أنزل. لقد جعله ذلك ألطف من أي وقت مضى، وأنا أتعجب باستمرار من طول صبره معي. وغالبا ما كان يأتي ليشاركني عشائي المنعزل في شارع ڤيليير. وأنا لم أخرج أبدا لأتعشى  ولم أدع أحدا للعشاء، ولم أذهب خارجا أبدا إلى المجتمع حيث اعتدت أن أروح. وأظن الآن أن ذلك كله مضيعة للوقت، وكل ما أتوق إليه هو أن أترك وحيدا وأن أنام.
نورستروم أرادني أن أذهب إلى كابري مدة شهرين لراحة تامة، وكان يشعر بلا ريب أني يمكن أن أرجع إلى عملي من جديد على أحسن ما يرام. قلت إني لن أعود إلى باريس لو ذهبت الآن إلى هناك، فقد كرهت هذه الحياة المزيفة في مدينة كبيرة أكثر من أي وقت مضى. فأنا لا أريد أن أبدد مزيدا من وقتي في هذا الجو من المرض والخراب. أريد أن أمضي بعيدا لمنفعتي. لا أريد بعد اليوم أن أكون طبيبا من الطراز السائد، أشعر أن الأغلال تزداد ثقلا كلما ازداد عدد مرضاي. لدي وفرة من الاهتمامات الأخرى في الحياة أكثر من العناية بالأميركيين والعصابيات من الإناث الساذجات. ما الجدوى من حديثه عن إلقاء "فرصتي الرائعة" بعيدا؟ وهو يعرف جيدا أن ليس لدي مؤهلات الوصول إلى طبيب من الصنف الأول. وهو يعرف كذلك جيدا أني لا أقدر على تحويش المال ولا على الاحتفاظ به. وفوق ذلك، لا أريد أي مال، وأنا لا ينبغي أن أعرف ما أفعل به، فأنا أخاف من المال وأكرهه. أريد أن أواصل حياة بسيطة بين أناس بسطاء غير معقدين. وإذا كانوا غير قادرين على القراءة والكتابة، فذلك أفضل بكثير. كل ما أريده غرفة نظيفة ناصعة البياض مع سرير قاس، طاولة من خشب الصنوبر، كرسيان وبيانو. تغريد العصافير خارج نافذتي المفتوحة وصوت البحر من بعيد. والأشياء التي تهمني فعلا يمكن الحصول عليها بقليل جدًّا من المال، وسأكون سعيدا تماما في أبسط محيط ما دمت لا أجد أي قبيح حولي. وطافت عينا نورستروم ببطء من الصور البدائية على خلفيتها الذهبية المعلقة على الجدران من مادونا القرن السادس الفلورنسية وهي راكعة، ومن المطرزات الفلمنكية على الباب إلى مزهريات كافيولو اللامعة والكؤوس الڤنيسية الرقيقة على نضد المائدة وحتى السجادات الفارسية على الأرض. 
"أظن أنك حصلت على هذه بسعر رخيص"، قال نورستروم وهو يحدق بمكر إلى السجادة العتيقة تحت الطاولة وهي من بخارى ولا تقدر بثمن. 
سأعطيك إياها بكل سرور مقابل ليلة واحدة من نوم طبيعي. وأرحب بمنحك هذه المزهرية الفريدة من أربينو الإيطالية وهي موقعة من مايسترو جيوجريو ذاته إذا كنت تستطيع أن تجعلني أضحك. لا أريد بعد اليوم كل هذه الأشياء، فهي لا تقول لي شيئا، وأنا مشمئز منها. أرحني من ابتسامتك المغيظة تلك، فأنا أعرف ما أقول، وسأبرهن لك ذلك.
"هل تعلم ما فعلت حين كنت الأسبوع الماضي في لندن للاستشارة حول تلك السيدة المصابة بدفتيريا صدري؟ وكانت لدي استشارة أخرى في ذلك اليوم عن حالة أسوأ منها إلى حد بعيد، وهو  رجل هذه المرة. هذا الرجل هو أنا أو بالأحرى قريني، غيظي، ولنسمِّه هاين.
قلت لقريني، ونحن نغادر معا نادي سانت جيمس وذراعانا متشابكتان: "اسمع، يا صديقي. أود أن أقوم بفحص دقيق لباطنك. دعنا نتعاون بانسجام ونحن نتمشى ببطء في شارع نيو بوند من بيكاديللي إلى شارع أوكسفورد. والآن أنصت جيدا إلى ما أقول:  ضع أقوى نظاراتك وانظر بإمعان في واجهة كل مخزن، وتفحص بدقة كل غرض تراه. إنها فرصة رائعة لك لأنك مولع بالأشياء الجميلة، وأغنى مخازن لندن هنا. وكل ما يستطيع المال شراءه سيكون معروضا أمام عينيك، وفي متناول يدك. أي شيء يمكن أن ترغب باقتنائه سيسلمونه إليك، وكل ما عليك أن تقوله هو أنك ترغب في أخذه. ولكن بشرط واحد فقط:  ما تختاره ينبغي أن يبقى معك لاستعمالك الخاص أو لمتعتك، وليس في مقدورك أن تعطيه لأحد".
"درنا حول ناصية البيكاديللي، وبدأت التجربة. راقبت قريني بدقة من زاوية عيني ونحن نتهادى صعدا في شارع بوند نتطلع إلى نافذة كل مخزن. وقف لحظة أمام أغنيو، تاجر التحف الفنية، تطلع بإمعان إلى مادونا قديمة على أرضية ذهب، وقال إنها صورة جميلة جدا، من مدرسة سيينا المبكرة، ويمكن أن تكون بريشة سيمون دي مارتينو بذاته. قام بإيماءة نحو إطار النافذة وكأنه كان يرغب باختطاف الصورة القديمة، ثم هز رأسه رافضا، وضع يده في جيبه وتابع طريقه. لقد أعجب جدًّابساعة قديمة رائعة من عهد كرومويل في محلات هانت وروسكيل، لكنه هز كتفيه قائلا إنه غير معني بمعرفة الوقت، وأضاف إن بإمكانه تخمينه من النظر إلى الشمس. وأمام معروضات أسبري من الكتب الأنيقة والتحف الصغيرة النادرة من الفضة والذهب والأحجار الكريمة، قال إنه يشعر بالقرف وصرح أنه يرغب بتحطيم النافذة وكل ما كان وراءها لو أنه قادر على مزيد من النظر إلى كل هذا الحطام البغيض. ولما مررنا أمام خياط سموه الملكي أمير ويلز، قال إنه يعتقد أن ارتداء الملابس القديمة مريح أكثر من الجديدة. ولما واصلنا سيرنا في الشارع أصبح لامباليا أكثر فأكثر، وبدا أنه صار مهتما بالتوقف ليربت على الكلاب العديدة المهرولة وراء أصحابها على الرصيف أكثر من استكشاف نوافذ المخازن. وحين وصلنا شارع أوكسفورد أخيرا، كان في إحدى يديه تفاحة وفي الأخرى باقة من زنابق الوادي. قال إنه لا يريد أي شيء من كل ما رآه في شارع بوند؛ وربما استثنى كلب الترير الصغير أبردين الذي كان جالسا ينتظر سيده بصبر خارج محلات أسبري. ثم بدأ يقضم تفاحته، وقال إنها تفاحة جيدة جدا، ونظر بإعجاب إلى باقته من زنابق الوادي قائلا إنها تذكره بداره السابقة في السويد. وقال إنه يود لو أنهي تجربتي وسألني إن كنت قد اكتشفت ما علته – أهو العقل؟
"قلت:  لا، إنه القلب".
"قال لي إني طبيب ذكي جدا، فقد كان دائما يشك بأنه القلب. وتوسل إلي أن أحافظ على سري المهني وألا أبوح به لأصدقائه، فهو لا يريدهم أن يعلموا بما لا يعنيهم.
"رجعنا إلى باريس في صباح اليوم التالي. وبدا أنه أحب العبور من دوڤر إلى كاليه، وقال إنه يحب البحر. ومن ذلك الوقت لم يغادر شارع ڤيليير إلا نادرا، متنقلا بقلق من غرفة إلى غرفة وكأنه لا يستطيع أن يجلس دقيقة احدة. وهو يتسكع دائما في صالة انتظاري، شاقا طريقه بين الأميركيين الأثرياء ليطلب إلي أن آخذه في جولة، ويقول إنه في غاية التعب. وفي بقية اليوم يمضي معي من مكان إلى مكان منتظرا في العربة مع الكلب بصبر، بينما أقوم بزيارة مرضاي. وأثناء العشاء يجلس في الكرسي المقابل الذي تجلس عليه الآن، محدقا إلي بعينيه المتعبتين، قائلا أن لا رغبة له بشيء، وكل ما يريده جرعة منوم قوي. وفي الليل يأتي ويلقي برأسه على وسادتي، متوسلا إلى كرمى لله أن آخذه بعيدا، ويقول إنه لا يستطيع أن يتحمل أكثر أو..".
وقاطعني روستروم غاضبا: "وأنا لا أستطيع كذلك، بحق السماء توقف عن هذا الهراء اللعين حول قرينك، التشريح العقلي لعبة خطرة لمن لا يستطيع النوم. إذا طال بك الأمر أكثر، فأنت وقرينك سوف تنتهيان في مأوى سانت آن. إني أقر بعجزي. إذا أردت التخلي عن عملك، إذا كنت غير راغب بالشهرة ولا بالمال، إذا كنت تفضل غرفتك نظيفة ناصعة البياض في كابري على شقتك المترفة في شارع ڤيليير، فانطلق إلى جزيرتك المحبوبة مهما كلف الأمر، وكلما أسرعت كان أفضل! أما فيما يتعلق بقرينك فيطيب لي أن تخبره عني بكل احترام إنه دجال. وأنا أراهنك على أغلى ما تحب أنه سيلتقط حالا سجادة بخارى أخرى ليمدها تحت طاولة عملك، مادونا السيانية، والعفريت الفلمندي المعلق على جدران غرفتك النظيفة البيضاء، طبق جوبيو الإيطالي من القرن السادس لتتناول معكرونتك، وكأس فنيسي قديم لشراب كابري الأبيض!"


-----------------------
( 1) Veuve clicquot: صنف ممتاز من الشامبانيا (G). ويبدو أن وصفها بالأرملة يشبه وصفنا العربي للأشياء النادرة بأنها يتيمة. (م)
( 2) Infanta لقب ابنة ملك اسبانيا.. أو ابنة الملكة، باستثناء ولي العهد. (المورد)
(3 ) Tisane شراب عشبي من عصارة الشعير، يستعمل علاجا. (W)


--------------------

هذه الملحمة الإنسانية  لاكسيل مونتي يصعب أن نَفيها حقها في مقالة موجزة، خاصة وهو يعبر بعمق وألم عن المعركة الدائرة بين الموت والحياة... فالمعركة منظمة في أدق تفاصيلها وفق قانون من التوازن بين الحياة والموت لا يقبل التغيير... لذا أترك للقارئ متعة قراءتها، كما استمتعت. محمد أحمد السويدي
بتكليف ورعاية من الشاعر الإماراتي محمد أحمد السويدي، وبدافع من حب المعرفة والسعي لنشرها قامت القرية الإلكترونية بتوفير هذه النسخة من قصة سان ميشيل مترجمة باللغة العربية – ترجمها علي كنعان. (جميع الحقوق محفوظة)
صفحتنا الرسمية في فيس بوك :
منصتنا في جوجل بلس لمتابعة باقي مشروعاتنا 

No comments:

Post a Comment