Friday, December 16, 2016

كومو والنبيل الروماني الكامل



 
قصدنا قصر «دي أستي» الريفي في «شيرنوبيو» بإيطاليا، لتناول وجبة الغداء، ودلفنا فيلا الكاردينال «أوتّافيو جاليوس» وصرنا في بهوها فتراءت أمامنا الساحة المطلّة على بحيرة «كومو».
وما أن بدت كومو* تتمدّد أمامنا حتى شعرنا كما لو أننا في الفردوس، جبال مشكوكة خواصرها بمنازل تشرف عليها وتتخللها أشجار الصنوبر، كان كل شيء في كومو متلاحماً وكأنه اتخذ هيئة جسد واحد، أما الماء فكان يعكس صفحة السماء كمرآة، إنها كومو Lago di Como التي اشتق اسمها من اسم المدينة التي كان يطلق عليها الرومان: (كوموم)، وهي بحيرة جليدية تبلغ 146 كيلو مترا مربعا، مما يجعلها ثالث أكبر بحيرة في إيطاليا، أما عمقها فيزيد على 400 متر (1320 قدما)، وتُعدّ واحدة من أعمق البحيرات في أوروبا.
منذ العصور الرومانية وكومو مركز جذب خلّاب للأرستقراطيين والموسرين، وما زالت ضفافها تحفل بالعديد من الفلل والقصور التاريخية.
تأخذ البحيرة هيئة حرف yy ويصبّ فيها نهر (أدا) الذي يدخل في البحيرة قرب كولكو ويتدفق عبرها إلى ليكو. هذا التشكل الجيولوجي يجعل فرع جنوب غرب البحيرة طريق مسدود عند كومو.
ولعلّ السيد الروماني الكامل «بلني» الأصغر كما أطلق عليه «ول ديورانت» هو أحد علاماتها ومواطنيها الذين لا تُذكر كومو إلا وذكر معها.
عاش بلني الأصغر المعروف أيضا باسم بلينيوس الأصغر بين عامي (61 – 112 تقريبًا). ونشأ وتعلم على يدي عمه بلينيوس الأكبر. وشهدا معا ثورة بركان فيزوف في 24 أغسطس 79م.
عمل قاضيا في عهد تراجان، وكان رجلاً صادقًا ومعتدلاً، شغل العديد من المناصب المدنية والعسكرية. ولعلّ خطاباته التي حفظتها لنا مصادر عدة تعتبر أكثر تركاته أهمية، ولقد جُمعت في عشرة كتب، ومن خلالها يمكننا أن نتعرف على حياة وانشغالات الروماني المهذّب والكامل، منها ما تركه من سرد تفصيلي لبركان فيزوف وكانت موجهة إلى صديقه المؤرخ تاسيتوس، وعرّج فيها على عمه بلني الأكبر الذي قضى في ثورة البركان.
كما تركت خطاباته التي وجهها إلى الإمبراطور تراجان وصفا وتعريفا للنصارى، ولم يكن قد سبقه أحد إلى ذلك.
كان بلني الأصغر لا يذمّ روما ولكنّه كان أسعد حالاً في كومو، وقال في وصف منزله الريفيّ: إنه من السعة بالقدر الذي يستريح له، وإن نفقاته لا ترهقه؛ ولكنه بعد أن يستمر في وصفه يخيل إلينا أن في هذا الوصف شيئاً من التواضع، فهو يحدثنا فيه عن مدخل من فوقه نوافذ زجاجية وتعلوه طنف... وبه حجرة جميلة للطعام تعانقها آخر أمواج البحر عناقاً خفيفاً، وتضيؤها نوافذ واسعة تطل على البحر من ثلاث جهات فتحسبه ثلاثة أبحر مختلفة، وبه ردهة كبرى "يمتد بصر من فيها إلى الغابات والجبال"، وحجرتا استقبال ومكتبة على شكل نصف دائرة تستقبل نوافذها الشمس طول النهار"، وحجرة للنوم. وعدة حجرات للخدم. وكان للبيت جناح منفصل عنه يحتوي "حجرة استقبال ظريفة"، وحجرة أخرى للطعام وأربع حجرات صغيرة، وحماماً، وتوابعه وتشمل "حجرة جميلة لخلع الملابس"، وحماماً بارداً، وحماماً فاتراً به ثلاث برك مختلفة حرارتها، وحماماً ساخناً، تسخنها كلها أنابيب من الهواء الحار. وكان في خارج البيت بركة للسباحة، وساحة للعب الكرة، ومخزن، وحديقة متنوعة الغروس، وحجرة خاصة للمطالعة، وردهة للمآدب، وبرج للأرصاد يحتوي على شقتين وحجرة للطعام.
كما يُعدّ بلني من المبكرين الذين تركوا نصوصا عن (الأشباح) في الآداب الغربية الكلاسيكية، من خلال قصة سرد فيها أحداثا تدور في بيت مهجور في أثينا يقطنه شبح هزيل مقيّد بسلاسل ثقيلة، يعمل على تحريكها ليلا فيجلب الصخب والمرض لقاطني البيت، ثم همّ أحد الفلاسفة بشراء البيت متجاهلا كل ما سمع عنه، وفي أحد الايام يفلح بتعقّب الشبح وهو يجرّ سلاله حتى بلغ حديقة الدار واختفى، فأوصى الفيلسوف بحفر مكان اختفاء الشبح وعثروا على هيكل مقيد بالسلاس، فأعاد دفنه بطريقة لائقة وكريمة ومنذ ذلك اليوم كفّ الشبح عن الظهور.
وهي بلا ريب قصة تشعر بها وكأنها هوليودية، ولطالما انتجت السينما ثيمات وموضوعات تناولت الأشباح بذات الصورة التي كتبها النبيل بلني.
أما عمه بلني الاكبر فلقد ولد في كومو وعاش بين عامي (23 - 79م). ووضع الكثير من الأعمال التاريخية والفنية التي لم يتبق منها سوى 37 مجلدًا من التاريخ الطبيعي. ويُعد أهم المصادر التي تكشف عن المعرفة العلمية خلال فترة بليني، كما يعتبر بليني الأكبر أشهر مؤرخ روماني على الإطلاق. وقد اقتبس منه تاكيتوس، وسواه من المؤرخين المعاصرين أو ممن جاءوا بعده. وكان هذا المرجع أحد العـُمد التي سار على حذوها سويتونيوس وپلوتارخ. ولقد فقدت جميع كتاباته وخصوصا تلك التي أوصى بنشرها بعد موته ولم يبق متداولا في عصرنا منها سوى كتابه (التاريخ الطبيعي).
 عمل بلني الأكبر محاميًا، وتولى مناصب حكومية هامة. كما كان أدميرالاً على الأسطول الذي كان بالقرب من پومپي عندما انفجر بركان جبل ڤيزوڤ في عام 79م ومات هناك وهو يحاول إنقاذ اللاجئين.
 لقد تعاقب على كومو وبحيرتها حكام ودول عديدة، وبرغم هذا فلقد شهدت الإستقرار في جميع الأحقاب وباتت الآن (كما كانت دائما) مقصدا لكبار رجالات السياسة والمجتمع والموسرين.
 فإذا أدركنا أنها كانت موطنا للبيلنيين العم وابن الأخ، فلقد كانت أيضا تحت نفوذ آل سفورزا في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، وعُرف عن سفورزا أنه كان راع للفن والفنانين والمفكرين، ولقد قرّبهم إليه وجعل ميلانو وتوابعها على أيامه في رخاء ورفاهية قلّ نظيرهما في العالم آنذاك.
قصدنا بعد ذلك حديقة القصر، ولا تحتاج إلى أكثر من أن ترسل نظرك في أرجائها لتدرك كم أن الحدائق تمثّل قديما وحديثا قيمة ليست على المستوى الجمالي فحسب بل ترتفع بها لتكون رحما وحاضنة لأنواع من النباتات بما فيها النباتات الاستوائية التي استفادت من المناخ المعتدل بسبب استقرار 22.5 كيلومتر مكعب من مياه البحيرة، والتي جعلت وجود هذا الضرب من النبات ممكنا.
 وقديما يمكننا أن نعود إلى ما تركه بليني في وصف الحدائق، فقال أنه كان يقضي الساعات في كومو بالقراءة والتفرّس في حدائقها، وما زالت نفس الحدائق موجودة تلعب الدور ذاته، وها أنا بعد ألفي عام أجدني في مطاردة ذات الفرائس الخضراء التي سبق للنبيل الروماني الكامل أن طاردها.
 أما حديقة فيلا دستي فلقد كانت تحفها ألسنة وأذرع للماء، ذراع يتلوه آخر في مسالك وجادات تأخذك إلى تمثال هرقل الذي هو تمثيل حكايته مع الخادم عندما لبس قميص القنطور وقد كان مسموما فدبّ به السمّ، وشكّ في خادمه، والتمثال لتلك اللحظة التي رفع هرقل خادمه مغضبا.
 وبرغم ذلك كله كان ثمة أمراً محزناً في شأن فيلات كومو وقصورها، فلقد تم تحويل الكثير منها إلى فنادق بعد أن ابتليت بالملّاك الجدد الذي جاءوا من بلاد العرب والصين وروسيا، ففقدت «كومو» بمجيئهم ذاكرتها وصار شاقا التعرّف على أصابع بليني وسفورزا فيها.
ومن التجارب الشبيهة بهذه والتي تؤكد الفصام التاريخي بين المكان وملّاكه الجدد، ما سبق لنا أن خبرناه في فندق «السانت ريجس» في روما، حيث لم يتعرف العاملون فيه على الوجوه التي تتوسط سقف البهو الرئيس، ولقد درجوا على الإجابة عندما يواجههم أحد النزلاء بالسؤال عنهم فيلوذون بالقول: إنهم فلاسفة!!.
 بينما كنا نعلم علم اليقين كنه الوجوه والأشخاص..
في اليوم التالي قررنا العودة إلى بحيرة كومو، ولكننا قصدنا هذه المرة الكاتو نيرو (أي مطعم القطة السوداء) وتناولنا الغداء على مشهد من البحيرة قلّ نظيره، فصرنا كمن يحاول أن يدّخر في ذاكرته أكبر قدرٍ من المشاهد ليطول بقاؤها واستردادها.
فـ «كومو» هي جمال مكثّف، تحتاج إلى تفكيك عناصره عنصراً عنصراً، وبالتالي لا يمكن استيعابها بنظرة عجلى، أو زيارة سريعة، فعليك أن تتردد عليها لتتمكن من الظفر ببعض جمالها.
 كان جوته يردّد كلما شاهد الكالبسيوم أو البانثيون إنه طالما كان يفاجؤه حجم هذه الأمكنة بالقياس إلى حجمها في مخيّلته.
كذلك الحال في كومو فكلّما حدست أنك أحطت بجمالها، فاجأتك بجمالٍ مضاعف.
 زارها الشاعر الإنجليزي «ويليام ووردزوورث» مع صديق له سيراً على الأقدام، كما كان «هيتشكوك» يقصد كومو وتلذّ له الإقامة في فيلا دي أستي.
تذاكرنا ومجموعة من الأصدقاء النهايات المفجعة للملوك والأمراء الذين زاروا هذا الكوكب، كالموت الفاجع والمؤلم لسفورزا، ولكننا لم نشأ أن نقفز على الميتة المأساوية لنابليون العظيم بمنفاه في جزيرة سانت هيلانه، وقد انتهى به المطاف في غرفة معتمة يقتسمها مع الفئران، والنهاية المأساوية للشاه وأسرته، وللمعتمد بن عباد وعائلته، ولهتلر وموسوليني ولبعض المعاصرين هنا وهناك.
 أما سفورزا فلقد جاءت نهايته كنتيجة للحسابات الخاطئة والتحالفات غير المصيبة وخيانة المقربين منه، وانتهى أمره بالقبض عليه من قبل الفرنسيين الذين احتلّوا «ميلانو»، وجرّوه من شعره أمام الجموع التي احتشدت في مدينة «ليون»، ثم أودع تحت الإقامة الجبرية، وعندما حاول الهرب ضلّ سبيله في الغابات فأدركته الكلاب، وقُبض عليه ثانية وألقوه في غيابة قبو معتم فمات رجل الأنوار ميتة مؤلمة ومخزية.
وبعد نهارين مجييدن في كومو عدنا إلى ميلان.
#محمد_أحمد_السويدي #إيطاليا #كومو
 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*كومو: مدينة شمال إيطاليا، عاصمة مقاطعة (كومو Como ) في إقليم لومبارديا، مقامة على الضفاف الجنوبية الغربية لبحيرة كومو التي تشتهر بها، تحد سويسرا من الشمال الغربي وتبعد 45 كم شمال مدينة ميلانو.

No comments:

Post a Comment