Sunday, June 24, 2018

إنّا نتزوّجك أيّها البحر






إنّا نتزوّجك أيّها البحر
#محمد_أحمد_السويدي_مقالات

لقد صار مستحيلاً علينا اليوم أنْ نصحب الدوج في سفينته المذّهبة (البوسنتورو)، برفقة رجال الدولة والسفراء، تحفّ بهم المراكب والجماهير في عيد صعود المسيح والبلاء، وقذف خاتم ذهبيّ في لجّة الأدرياتيك قائلا باللاّتينية: 'إنّا نتزوّجك أيّها البحر'! لقد خطف نابليون السفينة والدوج والخاتم والبحر، وطار هذا العرس السنويّ الذي ظلّ قائما قرابة ألف عام، مع أنّ الكاتدرائية العظيمة كما هي، مع كلّ ما سرقه أهل البندقيّة من كنوزها لأجل الربّ: الجياد البرونزيّة المطعمة، والأعمدة التي جُلبت من أصقاع الأرض مختلفٌ ألوانها، والأرضيّات المرصّعة بالعقيق، والشبابيك المعشّقة، وفوق ذلك كلّه رفات القدّيس مرقص.
القناة الكبرى التي تقسم سمكة البندقيّة إلى نصفين ظلّت كما هي، تلك التي شقّها اللورد بايرون Byron سباحةً كماردٍ بحريّ، يتلوَّى مع انعطافاتها، جيئةً وذهابًا.
القصور ظلّت قائمةً بكلّ أشكالها البيزنطيّ، والقوطيّ، وعصر النهضة، والباروك. والجسور التي تربو على الأربعمائة، بكل قناطرها الحجرية الرائعة، بما فيها أقدمها جسر الريالتو Rialto Bridge الذي يغار من جسر النهود، حيث كانت الغانيات يعرضن رمَّان بساتينهن على أعين الرجال ليقطفوا ما يشتهون، وجسر الشيطان الذي احتال مرّة فوق ذلك الجسر في هيئة امرأة رداح ليُغوي تونيو Tunio ويغريه ويغرّر به، والمئتا شارع – كالليّ - من المياه ما زالت تغذّي كقصبات الهواء سكّان الجزيرة، وحتّى الكرنفال الذي قصفته المدفعيّة الفرنسيّة، يُبُعث من جديد في فبراير من كل عام.
سمعت صوت غوته من بعيد 'أين أنت'. كان يسأل عن بواب الفندق الذي كان يسكنه وكان الصدى يجيب 'أين أنت' بعد أن زال الفندق والبواب وصوت غوته.
حوّلنا يساراً صوب منزل ماركوبولو Marco Polo فلم نجد في صحن الدار إلا كذباته الشهيرة، إرثه الوحيد، تنتظر من يرددها على مسامع الزمان.
قلنا لنمر على كازانوفا Casanova. منذ كنت يافعاً وأنا أحلم بلقاء ساحر النساء وأعاجيبه فقيل لنا أن راهبة من دير القديس زكريا اختطفته ولم يظهر له أثر بعد ذلك.
فاغنر Wagner كان يسكن في الحي المقابل في قصر مندرامن كاليرجي ولقي هناك وجه ربه... لم يبق أمامنا من زمن الدهشة إلا كليبوباترا فسعينا للسلام عليها فقيل لنا انّها خرجت تسعى في أثر آخر ولم تعد.
عبرنا الكاللي فارسكو، الطريق الذي يكتم الأنفاس لضيقه ووقفنا أمام الساعة التي فرت عقاربها.
في الضفة الأخرى من الريالتو لم ننس الكاللي دي لي موسكت (شارع الناموس) حيث توشم النساء على العنق والفخد والعجيزة تزلفاً لشيطان الحب... وجلسنا عند ظلال برج الناقوس لنراقب الملاحين وهم يحتسون الأومبرا.
الصورة الجصية لجونو وهي تهب الدوقية والتاج للبندقية قالت لنا لماذا كان الدوق يرد الذهب للربة في عيد صعود المسيح وهو يردد: "إنا نتزوجك أيها البحر"

No comments:

Post a Comment