Thursday, May 4, 2017

السيد إيف وملاكه غير المنظور



«السيد إيف وملاكه غير المنظور»
كنت كعادتي أتريّض في المول عندما اصطحبت في ذلك الصباح صديقي الذي ترك وراءه الأراضي المنخفضة في "بلجيكا"، وهبط إلى الجنوب حيث "أبوظبي" التي ترتفع في بعض مناطقها نحو 250 متراً فوق سطح البحر..
أما «إيف» هذا، برغم من أن بحر الشمال يهدد بابتلاع أرضه الخفيضة إلا أنّه رجل عالي الهمة واستثنائيّ، فما حدث معه لا يمكن حدوثه مع غيره إلا في حال توفّر مجموعة شروط لشخص ما في زمان ومكان محددين.
قال «إيف» وهو يرمق فضاء (المول) بشرود شفيف: «الحياة هي أن تستمتع بيومك، وأن تقبض على طرفيه». فتذكرت نصّ الحديث القائل: «اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً». وبالرغم من تضعيفه من قبل بعض أهل الحديث إلا أن روايته وردت مرفوعة وموقوفة في بعض الكتب، وهو مما معناه صحيح وإن ضعف سنده، وبالنسبة لي فإنني أنظر إلى الأمر فيما يخصّ الحديث بالحياد، فمعروف عن المذهب المالكي أنه مذهب وسطيّ، يقول ابن ظاهر في واحدة من تجلّياته:
ناسِ حوو دنيا ودين من التقى ** وفيما عطاهم ربهم هنيالها
وجدير بي الإشارة إلى أنّ ابن ظاهر قدّم الدنيا على الدين في بيته وكأنه من أطلق المقولة أو تناص معها عن دراية.
بدا «إيف» مبتهجاً في صباح ذلك اليوم البعيد، وبدا وكأنه ارتفع متراً إضافياً وفوّت على بحر الشمال فرصة تغريق أرضه المنخفضة، فلقد كان في كامل أناقته وأنجز لتوّه صفقة رائعة، وأوشك على أن يهتف وهو يعبر الشارع في نيويورك إلى الجهة الأخرى: يا إلهي ما أروع الحادي عشر من سبتمبر، أريده أن يكرّر نفسه مرات لا تُحصى. فلقد شعر وكأن الدنيا فتحت أمامه أبواب خزائنها وغلّقت أبواب العوز وقالت: هيتلك يا إيف، فظفر بعقد الثريّا ولم يعد تويبعا ملتصقا بأذيالها، وما هي إلا برهة، حتى أظلمت الدنيا وتهاطلت أطنان من التراب وشظايا الإسمنت والزجاج والحديد على سماء نيويورك، فحدس إيف أن يوم الدينونة قدّ حلّ الساعة، فأخذ يرهف سمعه ليسمع نفخ الصور، فلا يمكن لهذا الصوت المدوّي الذي نهض في سماء «نيويورك» مثل مارد جبار أن يكون شبيها بالصور.
تطلّع إلى نفسه بعجالة وقد داهمه دانتي بغتة، وأراد أين يعرف أين أصبح مكانه، هل ذهب إلى الجحيم أم بلغ الفردوس قبل أن يمرّ بالمطهر؟
وربما التفت ذات اليمين وذات الشمال ليرى من التحق به من أصدقائه ومعارفه؟.
انحسر نفير البوق وهدأ صوت الأعالي وارتفع عويل أهل الأرض من المارة في نيويورك، فأدرك حينها أن حادثا عظيما قد وقع للتوّ، فأخذ ينفض التراب عن جسده وملابسه المعفّرة ، ثم لاحت نظرة منه إلى برج التجارة العالمي، وكان قد بدأ يتهاوى، فأدرك أنه ربح حياته وخسر صفقته.
قال إيف وهو يستحضر يوم الدينونة الأيلوليّ: «لو أنني تأخرت عشر دقائق فحسب، أو أن موظفا دعاني إلى قدح شاي أو كوب قهوة، لكنت من الضحايا».
لم أكن أتخيّل حتى في أسوأ كوابيسي وأعتاها أن يتبدّل ذلك كلّه في طرفة عين وأتحول من إيف الأنيق إلى شبح معفّر يطارده صوت صورٍ غير مرئيٍ في الجهة الأخرى من المحيط.
لقد نجوتُ من الموت يا محمّد
وفي تلك الساعة وبعد أن ولّى دانتي بعيداً، تذكرتُ أبي فلقد كان يردّد عليّ: إن من أكبر النعم، حينما تخلد إلى النوم وأنت صافي البال.
لم تعد بي رغبة في القبض على خزائن العالم بقدر ما أستمتع بيومي وأغمض عيني في نهاية اليوم وأنا متصالح مع نفسي كـ "إيف" الذي ربح حياته مرّة أخرى.
لقد كان يحوم فوق رأسي في تلك الساعة ملاك غير منظور، أو ربما هي كلمات أبي تأخذ بيدي بعيداً عن وليمة عزرائيل العامرة.

No comments:

Post a Comment