Monday, March 13, 2017

الجراثيم


الجرثومة، اللفظ العربي المرادف للكائنات الدقيقة Microorganism أو Germs فهي بهذا تشمل جميع الأحياء الدقيقة وحيدة الخلية بما فيها الفيروسات
والبكتريا والفطريات.
ولكن، كان لهذه اللفظة رداءً جليلاً، فلقد وردت في لغتنا بمعنى الأصل، ومثال ذلك ما قاله عروة بن أذينة:
و إني لمن جرثومة تلتقي الحصى *** عليها و من أنساب بكرٍ لبابها
أو ما ورد في شعر طرفة بن العبد في قوله:
نُـبـَـلاءِ الـسّـعْـيِ مِــن جُــرْثــُـومة *** تَـتـرُكُ الــدّنْــيا وتَـنـمـي لِـلـبَـعَـدْ
كما يوجد كتاب منسوب لابن قتيبة بعنوان الجراثيم في اللغة.
وفي الشُّعراء الأمويِّين مَن كان يُدعى «جرثومة»، ذكره العسكري في كتابه (المصون)، وقد كان هذا الشَّاعر موضع إعجابٍ من الخليفة عبد الملك بن مروان.
وبهذا يصبح واضحاً أن المعنى اللغوي القديم للجرثومة دال على الأصل، أي: أصل الأشياء، وتناظر في معناها الآن البكتيريا والمخلوقات المجهرية، التي صار معروفا أنها أصل المخلوقات وأقدمها.
فهي أقدم الكائنات الحية على كوكبنا، وعاشت مليارات السنين من دوننا، ولكننا لا نستطيع العيش يوماً واحداً من دونها.
فهي تطهّر المياه التي هي أصل الحياة، وتمنح التربة عناصرها وتجعلها منتجة، وتعمل على تركيب الفيتامينات والعناصر المغذّية في أحشائنا وتحول ما نأكله إلى سكريات مفيدة، كما تتحول عند الضرورة إلى جنودٍ مجنّدة للدفاع عنا ضد الأجسام التي تحاول النفاذ إلينا.
وتعدّ الأرض مقامها وبيتها الأول وستمكث على الأرض حتى بعد أنفجار الشمس وانقراض كل أنماط الحياة وأنواعها.
أما أعدادها فغزيرة بشكلٍ يستعصي على الحصر، فبعض أنواعها يمكنه أن يقدّم جيلاً جديداً في أقل من عشر دقائق بسبب قدرته على الانشطار والتكاثر، فمثلا تستطيع جرثومة واحدة من ( كلوستريديوم برفرنجينس) الذي يسبّب الغرغرينا أن تنتج نظرياً سلالات في مدة يومين فحسب أكثر من البروتونات التي يشتمل عليها الكون برمّته.
بالرغم من أنها كائنات مجهرية وحيدة الخلية فهي تمتلك خاصية مميزة لاحتوائها على (دي.أن.إي) واحد، وبالتالي فهي تحتوي على جينات ومعلومات جينية شحيحة من أجل القيام بفعالياتها.
كما تعيش الجراثيم وتواصل نموها وعمليات انشطارها على كل شيءٍ نتركه وراءنا، كبقعة حليب أو العصير، أو تمرير قماش رطب على طاولة، فسوفَ نجدها وقد انبثقت من العدم وتراكمت على هيئة مستعمرة.
إنها موجودةٌ في كل شيء وليس في أجسادنا فحسب، فمنها ما يستطيع الحياة في أحماض الكبريتيك المركزة التي تكفي لتذويب المعادن، ومنها ما يعيش في أحواض المخلفات النووية، والبعض الآخر في حفر الطين التي تغلي، وفي البركِ المتجمّدة وفي أعماق المحيطات حيث الضغط أعلى بألف مرة.
إنها تتغذى على كل شيء، فهي تأكل الصخور وما بداخلها من مواد كالحديد والكبريت وغيرها من المعادن والعناصر وقد يكون لنشاطها تأثير في تكوين النفط والغاز الطبيعي وتركيز الذهب والنحاس ومعادن أخرى. بل وهناك من يذهب إلى أنها كانت وراء تكوين القشرة الأرضية من خلال قضمها المتواصل.
يعتقد بعض العلماء أنه من المحتمل أن مئة تريليون طن من الجراثيم تعيش تحت أقدامنا ويطلق عليها اسم ( النظام البيئي الجرثومي تحت السطحي )، ولو قمنا بإخراج كل الجراثيم من باطن الأرض إلى سطحها فإنها ستغطي الكوكب بأكمله على ارتفاع بنايةٍ من أربعة طوابق.
أما نحن البشر، فلسنا سوى مراع لحمية لسلالاتها ومستعمراتها الهائلة، ولا يمكن لنا أن نختبئ منها، ولو أمسكنا عدسة مكبرة تمنحنا القدرة على رؤيتها، لجعلنا ذلك على الأغلب نتحاشى كل شيء، بل نتحاشى ملامسة جسدنا ذاته، فهي موجودة فينا ومن حولنا دائماً، فإن كان أحدنا على صحّةٍ وعافية فعليه أن يدرك أن هناك قطيعاً يقترب من تريليون بكتيريا ترعى في سهوله اللحمية بمعدّل مئة ألف بكتيريا في كل سم مربع من جسمه، ولسنا سوى مطعم لتقديم وجبات مجانية لهذه القطعان الكبيرة، وهنا نتحدث عن الجلد فقط، أما إذا هبطنا قليلاً نحو الأحشاء وسائر أجزاء الجسد بما فيها الجهاز الهضمي الذي يستضيف وحده أكثر من مئة تريليون ميكروب، عند ذلك ندرك أن الجسم البشري لا يمكنه أن يحيا من دون وجودها في جسده وهي على أنماطٍ وأنواع ولكلٍّ منها وظيفة، فهناك من تتعامل مع السكر ومنها ما يتعامل مع النشويات والبعض الآخر يهاجم ضروباً أخرى من البكتيريا.
وخلاصة القول: يتألف كل جسمٍ بشريّ من نحو مئة كدريليون (الكدريليون يعادل ألف تريليون) خلية بكتيرية، فإذا كنا لانزال على تصوراتنا السابقة عنها من أنها ليست سوى كائنات مجهرية غير منظورة، ففي الحقيقة لسنا في نظرها سوى جزء صغير منها.
إن الخلايا البكتيرية توجد فينا بأكثر من عشرة اضعاف الخلايا البشرية، بل هناك الكثيرون ممن يذهبون إلى أن كتلتنا البشرية لا تشكل سوى عشرة بالمئة، ولكن من المرجّح أننا بشر بنسبة 001% ، وبنسبة 99,99% بكتريا.
يجدر بنا معرفة أنّ معظم الميكروبات حيادية أو مفيدة وهي لاتؤذي البشر وسائر أنواع الفقاريات، و إنّ ميكروباً واحداً فحسب يعدّ من الميكروبات الممرضة من بين ألف ميكروب.
كما أنّ للميكروب طريقتهُ في إشاعة نفسه ونشرها وذلك من خلال الأعراض التي تظهر على جسد المريض مثل التقيؤ والعطاس والإسهال، كما أنّ هناك طرقاً أكثر فعّالية من خلال وجود وسيطٍ ثالث ينقل العدوى من جسدٍ إلى آخر، كالبعوض مثلاً الذي ينقله إلى مجرى الدم قبل أن تتمكّن آليّات الضحية من استجماع نفسها للدفاع عنه، فتبدأ بتأسيسِ مستعمرةٍ في الجسد الجديد.
تتكلّم البكتيريا مع بعضها البعض من خلال تشكيل مواد كيميائية ككلمات ولديها قاموس لغوي كيميائي معقد للغاية والذي بدأنا حاليا بدراسته وفهمه.
ومن خلال قاموسها تتواصل مع بعضها بتفعيل السلوك الجماعي وتنجح في هذا فقط عن طريق مشاركة كل الخلايا معا بانسجام. فعندما تدخل أجسامنا وتشرع بفرز المواد السامة فيه، وبما أننا كائنات هائلة الحجم، فسوف لن توثر فينا، عندها تنتظر بصبر وتبدأ بالتكاثر وتقوم بإحصاء عددها عن طريق جزيئات صغيرة وتمييز إذا ما كانت قد بلغت العدد المطلوب لتشرع بالهجوم على الجسد المضيف، فأن توفرت على العدد فسوف تنجح بهزيمتنا بالرغم من ضخامتنا، فهي دائما ما تتحكم بالأمراض عن طريق إدراك وبلوغ النصاب أو العدد الكافي لتشكيل مستعمرة كبيرة، وهذه هي الطريقة التي تعمل بها.
إذن كيف يمكننا تجنب الإصابة بالأمراض التي تسببها المستعمرات البكتيرية، بما أن طريقتها هي في التكاثر حتى اكتمال النصاب من خلال لغتها الكيميائية الخاصة كما ذكرت من قبل؟
من هنا نجد أن الطريقة الافضل لمقاومتها تكمن في تعطيل لغتها وجعلها غير قادرة على التواصل من خلالها، فإذا تمكنا من النجاح ذلك فسنكون قد توصّلنا إلى اكتشاف سلالة جديدة من المضادات الحيوية. 
ولكن للبكتيريا طريقتها في مقاومة مضاداتنا، فكما نعمل على تطوير المضادات الحيوية، تعمل البكتيريا بذات الدأب وربما أكثر على تخليق سلالات قادرة على مراوغة مضاداتنا ومقاومتها والتغلب عليها، فالنسبة الغالبة من مضاداتنا تقتل البكتيريا عن طريق فقع الغشاء البكتيري مما يمنع تكاثر الـ (دي. أن . إي) فيها، وتعد هذه الطريقة الآن تقليدية بعد أن تمكنت البكتيريا بالفعل من تطوير آلياتٍ لمقاومتها والتغلب عليها مما خلق مشكلة عالمية متعلقة بالأمراض المعدية، فلم يبق أمامنا سوى أن ننجح بتعديل سلوك البكتيريا من خلال منعها من التواصل بالكلام، مما يؤدي إلى فقدانها القدرة على إحصاء عددها واكتمال نصابها وبالتالي فشلها في إطلاق المرض.

No comments:

Post a Comment